جولان حاجيصفحات الناس

أمكنة تنهض، أمكنة تتداعى/ جولان حاجي

 

 

*****

هذه مقتطفاتٌ من الفصل الأول لكتاب جديد عنوانه إلى أن قامت الحرب: نساء في الثورة السورية، سيصدر قريباً لدى دار رياض نجيب الريس في بيروت. يستند الكتاب إلى مقابلات أجرتها جمعية استيقظت السورية النسوية مع نساء سوريات، وقد سجّل فريق «استيقظت» شهاداتهنّ وسِيرهن في يوميات الثورة. قام الكاتب بصياغة هذه الشهادات والسِيَر، وإعادة كتابتها وإعدادها للنشر.

القابون

المنسيُّون

قيلَ إن الرئيس سيفتتح حديقة عامة في القابون. ذهبنا فوجدناها بحجم غرفة صغيرة؛ لم تكن تلك الخدعة أو النكتة بداية الجور الذي لحق بهذه المنطقة ولا نهايته؛ كبرتُ وتربّيت في أحياء العشوائيات هذه، الملحقة بدمشق إدارياً. لم أغادرها، وكثيراً ما بدت كأنها في أقاصي الريف، أو في قارة أخرى. عشنا مهَّمشين. جفّ النهر، أحد فروع بردى ورمز المدينة «القابون كلمة سريانية تعني المكان الذي تتجمّع فيه المياه»، ثم انصبّت في المجرى الجاف أنابيب الصرف الصحي، وبدلاً من تنظيف الأوساخ أغلقت السلطات هذا المجرى نهائياً، وسقَفته وجعلته أنفاقاً عسكرية، مثلما أحاطت المنطقة بالثكنات. الهواء ملوَّث، المستوصف المهمل مُزرٍ يتمنى المرضى الموت عوضاً عن الذهاب إليه؛ بعض التجار من مبيّضي الأموال أتوا بفكرة مستشفى ظلَّ افتتاحه مؤجَّلاً، بالإضافة إلى مؤسسات خدمية، ثم تركوا المشروع قبل الانتهاء من الإكساء. إثر أولى المظاهرات تحولت إحدى هذه البنايات العالية غير المنتهية إلى مركز للقناصين، وأصبح اسمها «بناء القناصين»، وفي الشارع الرئيسي، شارع النهر، انفجرت سيارة مفخَّخة شتاء 2012.

المجتمع هنا محافظ وليس متزمّتاً، وليس ببعيدٍ عن هنا يقع حي تشرين، حيث يقيم خليط من الديانات والطوائف. تمردت القابون على ظلم النظام منذ عشر سنين أو أكثر. كان فيها الكثير من الشبان حملة السلاح؛ أطلق بعضهم النار على موكب الرئيس، وصاروا أبطالاً في عيون الأهالي. أتذكر سائق تاكسي أخبرناه بأن يقلَّنا إلى القابون آنذاك، وكيف طردنا حين سمع الاسم. في بدايات الثورة، حين كان الشهداء قلة ولم يكن شعورنا بالمأساة جارفاً إلى هذا الحد، لم أصدّق كيف لم يُشهرِ الشبان منذ البداية الأسلحة المخبوءة في منازلهم. هؤلاء أنفسهم، دعاة السلمية المنقلبون ضدها بعد المئات من المعتقلين والشهداء، أسّسوا كتيبة انضمت إلى الجيش الحر، ودخلوا المعارك. كان المقاتلون يسخرون منا حين يروننا نكتب الشعارات على الحيطان، قائلين: «ألا ليت الشباب يعود يوماً». سخروا أيضاً من السكاكر التي لففناها بقصاصات من علم الثورة، بينما أبي لم ينَمْ، مخافة أن يكون هناك مَن رآنا، وقد يداهم الأمن بيتنا لهذا السبب. إنه مريض ومسالم. أخشى أن أؤذيه بأخبار قاسية عنا، فأخفي عنه ما قد يقلقه، بينما تعرف أمي جميع تحركاتي دون أن توافق عليها، ودون أن تخبره. بعد أن صارت العائلة بكاملها مطلوبة، راح أبي ينصحنا ويرجونا التوقف عن العمل، وهو المتواجد ضمن المجلس المحلي؛ طلب مني مراراً أن أمحو كل المحفوظات الخطرة من ذاكرة الكمبيوتر.

كانت المعركة الأولى في رمضان 2012. ظلَّ المقاتلون ثلاثة أيام تحت نيران المدافع والرصاص، والدبابات تحاصر القابون وتسدّ مداخلها. أُمهِل الأهالي خمس ساعات ليرحلوا، فخلتِ المنطقة حتى من الإعلاميين. الكتيبة انسحبت، ولم تصمد لنقص العتاد ونفاد الذخيرة، ومع انسحابها تأخرت الحياة ستة شهور في العودة إلى شوارعنا. عادتِ الحياة تحت القصف واستمرت، لأن الذين خرجوا واستأجروا المنازل أفلسوا، وهُدِمت محلاتهم في المنطقة الصناعية، وبعضهم هَدمتِ الجرافات منازلهم أيضاً بذريعة مخالفات البناء.

إلى أين سيذهب الفقراء؟

لم يكن المقاتلون جالبي أذى ودمار. لم تساورني مثل هذه الخواطر. كانوا يحمون أهلهم العاجزين عن الخروج، يحمون الذين لا يمكنهم أن يتحمّلوا نفقاتِ السفر والاستئجار، وظلوا يتحمّلون كل شيء بحلوه ومُرّه. لم تكن الضائقة سببَ البقاء الوحيد، ثمة أيضاً عدم الاستقرار، وغياب الأمان عن الأمكنة الأخرى التي قصدناها؛ ذهبنا إلى مساكن برزة كعدة أُسَر تجمعُنا أواصر القربى، وتقاسمنا غرفةً واحدة. لاذَ بنا هناك خطيبي الملاحَق الذي سافرت عائلته، وتوارى بيننا. سكنا هناك مؤقتاً، إلى أن استلمنا إنذاراً بالإخلاء. أغلِق طريق «مكافحة المخدرات»، وأُجبرنا على العودة إلى القابون، مكاننا المهدَّد الذي غادرناه. ساعدتْ لجنة الإغاثة في إسكان مَن تشردوا، وبعضٌ من الذين سافروا أبقوا مفاتيح منازلهم ليأوي إليها المحتاجون. ساد استقرارٌ نسبي بعد الهدنة التي قضتْ بوقف إطلاق النار المتبادل، إلى أن خرقها الجيش النظامي في خريف2012، وراح يقصفنا براجمات الصواريخ، دون سابق إنذار، وانهالت القذائف فوق القابون المفتوحة على كل الجهات. بسبب موجات القصف، أو بسبب الاحتمال القوي لاستئنافه على الأقل، أوشكتُ ألغي هذا اللقاء الذي أقول فيه هذه الكلمات. هناك أيضاً موضة الميغ التي قصفتنا طائراتها عدة مرات حتى الآن؛ في إحدى غاراتها استشهد عشرة أطفال، وفي غارة أخرى تهدّم منزل، وتوفي شابان وأختهما. ميتة القصف التي لا تفرّق، ولا توفّر أحداً، أرحمُ من الموت تحت التعذيب.

عينان مغمضتان

حملتُ اللافتات، مع أخواتي الصغيرات وأمي وأختي الكبرى اللتين لم تعملا بالثورة، وأختي هذه تزوجت وهي صغيرة، إذ ظلت شهادة البكالوريا هي العتبة التي يقف عندها تعليم الفتاة، ولا تتجاوزها بالخطوة التالية إلا إلى الزواج. شاركنا في تشييع الشهداء منذ البداية، ولم أتساءل هل يا تُرى مشاركتي صواب أم خطأ، لأنها كانت جزءاً طبيعياً من الجو المحيط بي. شجّعني خطيبي على تنظيم الاعتصامات والمشاركة فيها، وتكفّل بحمايتنا من الأمن، مع أصدقائه الذين اعترضوا على فكرة مشاركاتنا العلنية وقبِلوها ممتعضين. في إحدى المرات اتصل بي أحدهم عند عودتي إلى البيت، واتصل كذلك بباقي المعتصمات مطمئنّاً، لا قامعاً والحق يقال، وأخبرنا: «نحن لا نعترض، لكننا نخاف عليكن. هذه أول وآخر مرة تعتصمن فيها». تغيّر الأهالي وتقلّبت آراءهم. فقد خرجت النساء في مظاهرات تخصهنّ وحدهن، بعد أن كانت المظاهرات حكراً على الرجال، وتجري يوم الجمعة فقط. بات مقبولاً وطبيعياً استخدامهن الإنترنت والكتابة والتعبير عن آرائهن. غير أن المعارك حصرت أعمال النساء داخل المنازل، وهي أعمال تُثمَّن جميعها وتقدَّر عالياً، من الخياطة إلى الطبخ للجيش الحر والتمريض في المستشفيات الميدانية التي يديرها ويبتّ في شؤونها أطباء ذكور. هكذا هي الأمور حالياً، والسبب المباشر هو توافر الكفاءات أكثر بين الرجال، وضرورة اتخاذ القرارات الفورية أحياناً. إنهم يحموننا، ولهذا فإن القرار النهائي يعود إليهم دائماً.

لا أحبُّ  تلقي الأوامر من أحد، بل التفاني في عملي، ولا أحب القيادة بمطلق معناها، فقد اختبرتُ ورأيت كيف يحتدّ ويتطرّف الذي يستلم منصباً، فيطلق الأوامر ويتعامل بفوقية واستعلاء. أسلوب الأوامر يستفزُّ ثورة أخرى، وأخاف أن يُقصي الشبان أجمعين، لا النساء فحسب. المجالس المحلية التي تشكّلت في مناطق عديدة لم تنبعْ تماماً من صفوف الثوار، بل تسلمها رجال كوجهاء البلد، لم يثوروا أو لم يكونوا مع الثورة منذ بدايتها الأولى. حدثتْ هذه المفاجأة في أكثر من منطقة. الثورة في جميع الأحوال ليست لهم وحدهم، ولا يمكن للقمع القديم أن يعود، ليمنعوا المرأة من الدراسة والعمل. أحب حلم المساواة البعيدة، وأحببتُ التعاون مع اللواتي يكبرنني سناً؛ إحداهن سيدة من داريا في عمر أمي تقريباً وفي مقامها، منفتحة ومثقفة وثورية، ساعدتني كثيراً وعلّمتني. أنا فتاة ملتزمة بالدين مثل كل بنات عائلتي، وتحجّبت في الصف السابع بكامل رضاي، دون فرض من أحد؛ استقررت على مانطو قصير محتشم، بعد اختبارات وتقلبات عديدة بين أزياء المحجبات وملابسهن، ارتديتُ خلالها حتى المانطو الطويل كذلك الذي كانت جدتي ترتديه. اللباس في النهاية حرية شخصية. أحبُّ الشعارات الدينية التي هتف بها الناس الذين ليسوا سلفيين ولا إخواناً مسلمين، ولا أمِيل إلى دولة إسلامية، ولا أستمع إلى دعاة الدين وشيوخه. أريد كل شيء واضحاً تحت الشرع والقانون. أين العدل في أن تقوم الدنيا ولا تقعد، فقط لأن فتاة مارست الجنس على سبيل المثال، أو حمّلت المجتمع عبء طفل بلا أب قد يُرمى في الشارع؟ لا أوافق على الاحتمالين، لكننا جميعاً نعلم أن الرجل يفعل الشيء نفسه، ولا يُقام عليه حدُّ الزنى، ولا يُقتل. أما إذا حملت المرأة وأجهضت جنينها فتلك مسألة أخرى. يجب أن ينزل بها عقابُ القاتلة لأنها أزهقتْ روحاً.

لا يجب أن تستلم المرأة مهاماً تفوق قدراتها المحدودة، ولا أن تتبوّأ مراكز قيادية، ولا يجب أن نسعى إلى تكريس فكرة أن تحمل السلاح، لأنها فكرة خطيرة جداً. خضعتُ لدورة شبة عسكرية، وبتُّ أعرف الآن أنواع بعض الأسلحة، وكيفية استخدام القليل منها، ولكنني لن أطبّق ما تعلّمته لأنني أخاف كثيراً. لدي صور أظهر فيها مذعورة، عيناي مغمضتان والسلاح بين يدي.

زوجان يافعان

لم أكن أكترثُ من قبل بمعرفة شيء عن الحقيقة. عند اندلاع ثورة تونس تذكرُت طل الملوحي. لا أعرف كيف صدقتُ أنها جاسوسة، لفرط ما قيل إننا في حالة حرب مع إسرائيل. تفرّجت مرات ومرات على مقطع فيديو تناشد فيه طفلةٌ الإفراج عن طل، وأبكاني ما رأيت. كان انطوائي يحبّبني بالمنزل فألزمُه أوقاتاً طويلة، وكنتُ أخافُ أحياناً حتى من رنين الهاتف فلا أردّ على الاتصال، ولا أتواصل مع أصدقائي إلا في المدرسة، وقلما أذهب إلى عرس أو مناسبة اجتماعية، وأخجل من الشبان. الآن أنا اجتماعية كما يُقال، طبعاً ضمن الحدود التي أحسِنُ التصرف داخلها وألتزم بها. أهلي يترحّمون على أيام انعزالي القديمة، ولدي الآن أصدقاء حتى من حماة، أهاتف الشبان منهم لأطمئن عليهم. لم أتخيل يوماً أنني سأتغير هكذا. قد تواتيني جرأة زائدة لأجرّب ما لم يخطر لي من قبل. صرتُ أناقش مواضيع حساسة في القابون، فأنتقد وأُعلي صوتي بالانتقاد، وأقول ما أشعر به حقاً. ازدادت قراءاتي ومتابعاتي تنوعاً، وخضتُ نقاشات لا تتصل دائماً بمجال عملي في التربية والتعليم. حين تحسّنت ظروف المدرسة التي عملتُ فيها كان الإعلام قد استغرقني، فتركتُ تدريس الأطفال. في الماضي، في هذه المدرسة نفسها، كان التمييز قائماً، فالموظفون ينادونني باسمي فقط وينادون بـ«الآنسة» معلمةً أخرى هي بنت ضابط «علوي».

تعرفتُ إلى خطيبي صديقِ أخي خلال الثورة. كان يزورنا يومياً، مثل شبان عديدين غيره يترددون على منزلنا. أحببته، أنا التي لم أعرف الحب إلا في الأغاني وقصص صديقاتي القليلات. علّمني في فترة خطوبتنا العديد من الأمور الإعلامية. أردنا أن ننشئ معاً منبراً إعلامياً؛ ومن أجل هذه الغاية ذهبتُ إلى دمشق، والتقيت بشبانٍ لا أعرفهم جيداً. لم يكن أهلي على دراية بعملي في الثورة. شاركتُ مرتين فقط في مظاهرات دمشق، ورفضتُ دعوات المشاركة التالية. كانت المظاهرة هناك مخيفة بالنسبة إلي، لأنني أجهل حارات الشام، وكان هذا الجهل سيعيق هروبي، هذا إذا لم يشلّه الخوف من الاعتقال، وربما إذا لُذتُ بمنزل أحدهم سلّمني إلى الأمن، بينما أعرف القابون بحاراتها وزواريبها، وأهلُها يعرفونني، وسيعتبرونني ابنتهم في ملاحقات الأمن ومداهمات البيوت، وبوسعي الهرب والتخفي دون أن أكون عبئاً على أحد.

كنتُ أخبرُ أهلي بأنني ذاهبة إلى الجامعة لأحضر المحاضرات. كذبتُ، وانكشفت أكاذيبي وسامحوني. كانت كذبتي الكبرى هي الدوام في الجامعة، بينما كنت في الحقيقة أتمرن على التمريض في دورة إسعاف أولي مدتها ثلاثة أسابيع. لقد تعلمتُ وكبرت في القابون ومدارسها وأحببتها، ولم أشترك بدورات تقوية تضطرني للذهاب إلى دمشق، أنا الصغرى المدللة بين أخواتي وإخوتي. بدخولي جامعة دمشق زرت العاصمة وحدي للمرة الأولى، وللمرة الأولى ركبتُ الباص بمفردي، ولم يكن لي فيها أصدقاء شبّان على الإطلاق. ذهبتُ إلى الجامعة وحدي لفترة وجيزة فقط، ففي الفصل الثاني من سنتي الدراسية الأولى بدأتِ الثورة. كنا نسهر في منزلنا الذي تركناه إثر ملاحقات الأمن ثم استطعنا أن نبيعه. كانت تلك السهرات بمثابة الاجتماعات. في الاجتماع الأول، عقب انتفاض أهالي درعا، أرسلتُ العديد من الرسائل الهاتفية للالتقاء في «جمعة العزة»، وهي الجمعة الأولى في الثورة على ما أعتقد. كانت الاستجابة غير متوقَّعة، فقد تجمّع أكثر من مائة شاب بعد صلاة الجمعة، عند الجامع الكبير في القابون. في اليوم نفسه لُوحق أخي بعد أن ضرب ضابطاً فتوارى في منزل خالي، واعتُقل في اليوم نفسه أقرباء آخرون.

بقي خطيبي على أرض الثورة، وآمن بسلميتها، بينما هرب وسافر العديد من أصحابه، ومنهم أخي الذي ظل يصيح من مكان آخر خارج سوريا، بوجوب أن تقع المعركة وتمتد، دون اكتراث بالمدنيين. بقينا سوياً ستة أشهر، إلى أن قرّر فجأة ضرورة الخطبة. اتصل بأخي وأبي في منتصف الليل، ثم أتى في اليوم التالي وحده، وفي اليوم الذي يليه جاء مع أبيه وإخوته الصغار، فأمه متوفية. دامت خطبتنا ستة أشهر تشرّد خلالها كثيراً. كان ينام كل ليلة عند صديق من أصدقائه. اعتقدنا مخطئين أن النظام سيسقط حين تأزفُ تلك الشهور الستة، وبسقوطه سوف نحتفل بزواجنا، ونقيم عرساً ندعو إليه أصدقاءنا. كان منزل أهله مطلاً على بناء القناصين، ومنزل زواجنا احتله الشبيحة الذين كنا ننتظر جلاءهم عنا، مثلما ننتظر الحرية. لم يسقط النظام وتزوّجنا، وكانت الحفلة صغيرةً وجميلة.

خشيت الاعتقال والاختطاف. في القابون يعاود شبيحة ظهورهم بين الفينة والأخرى، فيرابطون على مفترقات الطرق، في الأماكن التي تخلو من الجيش الحر، ويختطفون الفتيات. لقد اختطفوا امرأة وزوجها إلى «عش الورور» وعذّبوهما هناك، ثم حُمِّلتِ الزوجة وزراً أكبر، لأن اختفاء المرأة يحمل الأهل أحزاناً إضافية. بتُّ لا أخرج أبداً دون مُرافق، ولا أذهب إلى أي مكان من دون زوجي الذي ظل يصحبني إلى محاضرات سنتي الدراسية الثانية، بالرغم من ضيق وقته، وبالرغم من رسوبه في سنة التخرج لتخلُّفه عن الامتحانات. وحين أصبح مطلوباً للمخابرات قلّتْ زياراتنا إلى دمشق، بل انعدمت تقريباً، بعد أن كنتُ أوصل المناشير إلى البرامكة وكفرسوسة. لازمتُ أنا البيت الذي سكنَّاه في المبنى الذي يقطنه أهلي، كان هذا البيت شقة جيران غادروا إلى تركيا. تضاعف خوفي من اعتقال كلينا معاً، أنا وزوجي، بالرغم من أن المرأة تعبر الحواجز بسهولة عادة، وتستطيع أحياناً أن تمرّر شاباً من دون تدقيق. انحبسنا أمام شاشات الكمبيوتر، عند توافر التغطية والكهرباء. أسأل مَن يطلب مني شيئاً أن يأتي بنفسه ليأخذه، لكن مَن سيجازف ويأتي إلى القابون؟

قبل أن تتشكل التنسيقيات، كنت أجهّز برامج الفيديو والإيميل في البيت، وأنتظر رجوع أخي بما سجّله على هاتفه الجوال في المظاهرة التي دعا إليها وخرج فيها، ثم نرسل التسجيلات إلى صفحة الثورة السورية ضد بشار الأسد على الفيسبوك. لوحِقَ أخي، وقبل أن يغادر البلاد سراً، سلّمني معدّاته وكمبيوتره لأنوبَ عنه في العمل. بهذه المصادفة عملتُ في الإعلام الذي كنتُ تمنيت دراسته، لكنني لم أجتزْ امتحان القبول في كلية الإعلام، فدرستُ التربية ومناهج التدريس ولم أكملها بعد. وددتُ لو عملت ناطقة إعلامية خلال الثورة. نقلتُ الأخبار عبر إذاعة محلية ثمانية أشهر، لولا أن خطيبي صارحني بالغيرة، وقال: «افعلي ما تريدين، لا أريد أن أبدو كأنني أقمعك». يضايقه سماع صوتي على الإعلام، بالرغم من أنه يعمل ناطقاً إعلامياً.

أسّسنا مجلة «آبونا» التي رفضها شبان بعضهم مراهقون يصغروننا سناً، متذرعين بأن الوقت غير مناسب لمثل هذه الأفكار. ثم تفاجأوا بما رأوا. كتبنا لنحكي عن أوجاعنا وسيرة مكاننا ونقول آراءنا، متخذاتٍ قرارات مشتركة، كإعلامياتٍ هن صديقاتي اليافعات. كنا نطبع مجلتنا بحسب الظروف، فقد يوقفنا القصف عن الطباعة. ما كنتُ لأحلم بمثل هذه الحرية، بعد طول قمعٍ أضنى الجميع، فحتى لو كنتُ قد درستُ الإعلام قبل الثورة، واستطعتُ تدبر وظيفة في مجلة، لأعطوني مكاناً صغيراً مليئاً بالقيود وكئيباً.

شمعة مسروقة

خسرنا ابن خالي وابن خالتي. هذان الشابان الصادقان مِن أحبِّ الناس إلي، ولم أصدّقْ بعدُ مقتلهما. خسرتُ كذلك ثقتي بأناس خيّبوا التوقعات، فقد خرجوا في البداية من أجل ثورة ظلت محتفظة بعفويتها، إلى أن دخلت الأموال التي غيّرت أشخاصاً كثيرين، مثلما غيّرت غيرهم المناصبُ والسلاح، فصارت لهم مآربهم وأهدافهم الخاصة. أخافُ وينتابني الإحباط، وأحسبُ هذا الخوف يساور غالبية الناس. أخاف أن يأتي في المستقبل، والعفو على التسمية، أمثال ميشيل كيلو وجورج صبرا وهيثم مناع الذي أعجبنا به في بداية الثورة واستشهد أخوه في درعا، أو أي شخص آخر يعيش في الخارج ممن أمضوا الثورة في الفنادق يعقدون المؤتمرات، لكي يتسلّموا المناصب القيادية ويحصدوا ما رويناه بدمائنا، بينما يتمُّ الاستغناء عنا نحن الذين ضحّينا. المعارضة السياسية لا تمثل أحداً، ولا أعرف من أخبارها إلا رؤوس أقلام. مللناهم. وحين تبدأ تحليلاتهم السياسية، بعد انتهاء الأخبار الميدانية على التلفزيون، نطفئ الجهاز أو نغير القناة. أحمد ربي لأن الثورة التي طالت كشفت معدنهم، وأظهرت حقيقتهم، لكيلا نبقى مخدوعين بهم طوال عمرنا.

فُجعتُ بكثيرين اعتبرتُهم قدوة لي. أحدهم رجلٌ كبير بالسن أغراه المال، وكنت أبجّله. صرتُ أتمنى ألا يُغاث الفقراء والمساكين، لأنهم الخاسرون الوحيدون. صرت أترحّمُ على هاتفي الجوال البسيط الذي كنتُ أصوّر به؛ ألعن الكاميرات، وألعن الإغاثة وألعن أموالها التي قد يتناهبها لصوصٌ وعديمو ضمير. التقيتُ أناساً أعتبرهم يتاجرون بدماء أطفالهم الشهداء، حين يقولون حرفياً «لقد قدّم ابني حياته من أجل الثورة، فأين هي حصتي من هذه الأموال؟»، لا أريدُ ترديد كلام كتب. هنا في القابون سيدة مصابة، ابنها مفقود وزوجها استشهد، حين زُرتها لم يكن في بيتها شمعة توقدها أثناء ساعات انقطاع الكهرباء الطويلة. تعفّفتْ ولم تطالب بأي شيء، بالرغم من وصول الإعانات إلينا، ورجائي المتكرّر لكي تخبرني باحتياجاتها. أمثالها يبقونني مستمرة في الثورة، ومؤمنة بالعمل من أجل الذين دفعَتهم قلوبهم إلى الانتفاض، أولئك الذين تضرّروا واستشهد أبناؤهم ولم يصرخوا طالبين بالمقابل شيئاً أو تعويضاً، الفقراء الذين خسروا كل شيء.

(أيار 2013)

*****

جسرين

صوتٌ لا يُنْسى

الذاكرة الجمعية لدى السوريين موسومة بمجزرة كبرى سُمّيت «أحداث» الثمانينيات في حماة. ربما كان أثرها سبباً في القول باستحالة حصول أية ثورة في سوريا، فحسبنا أن الموجة التي بدأت في تونس لن تبلغ حدودنا، ولا مبرّر لأية محاولة احتجاج، لأن هذا النظام سوف يقتل الجميع. لكنّ حاجتي إلى المشاركة في الثورة كانت قوية، لا سيما أن والدي معتقل سياسي سابق. أتذكر، عند رجوعي من مسيرة احتفالية بالحركة التصحيحية، كيف سخر من هتافات «بالروح بالدم» التي كان التلاميذ يردّدونها، وكيف أمسكتْ جدتي بحذائها، وراحت تضرب صورة حافظ الأسد التي جلبتُها إلى البيت؛ يوم وفاته كان تلفازنا معطلاً. أتى ابن جيراننا وقال: «سمر. مات الرئيس». فقلت: «إياك أن تقول هذا، فالرئيس لا يموت»، ثم اكتشفنا أنه يموت، وينجب أولاداً ويورّثهم الرئاسة، ويُغيَّر الدستور من أجلهم، بينما يحتاج سنُّ قانون يخصُّ المرأة إلى عشرين عاماً، قانون يحميها من العنف المنزلي مثلاً. كان صعباً إخفاء هذا الازدواج، بين ما يُقال عن الأسد في المنازل وبين ما كانوا يلقّنوننا إياه في المناهج المدرسية حيث الدمج بين الوطن والقائد، كأنَّ ما نعيشه قدرٌ، والأمل الوحيد في تخفيف وطأته هو الهروب خارج البلاد. كان هذا الهروب حلمي وأنا صغيرة؛ سافرتُ في بدايات الثورة إلى بلدٍ أوروبي، وفي مكان يطلُّ على البحر صرَخَتُ بَغضائي المتراكمة على مرّ السنين تجاه بشار الأسد، مثلما صرختُها في بلدتي، دون أن يفهم أحد ذلك الصراخ الذي هدّأني وأذهلتني روعته. أشعر أحياناً بأن نشاطي في الثورة تعبير عن الإنسان المسجون في داخلي، وأحياناً أخرى أجد في ما أقوم به خلال الثورة انتقاماً لأبي الذي اتُّهِمَ تهمة جاهزة هي الانتساب إلى جماعات محظورة، والمتَّهَمون مثله لا يغادرون السجن، وفيه تُوفّي بعد أربع سنوات. تراني أمي أكمِلُ طريقه، وأقومُ بما يرغب كثيرون في القيام به.

منعني الخوف من الانضمام إلى الاعتصام أمام وزارة الداخلية في آذار 2011. أولى المظاهرات التي شهدتها في منطقتي جسرين لم تطالبْ بإسقاط النظام، بل كانت تضامناً إنسانياً مع الذين يتعرّضون للأذى في درعا المحاصرة وأماكن أخرى. فكّرنا بأن الدولة القائمة ليست كتاباً مقدساً لا يجوز المساس به وتغييره. أصبحنا قادرين على الصراخ، والمناداةِ بمواطنتنا، وإرواء شهوة الـ«لا» التي راودتنا طويلاً. لم نتوقّع أن سقوط الشهداء الأوائل في المظاهرات سوف يستنهض عوائلَهم كلَّها، فتركيبة المجتمع الأولية ازدادت تماسكاً في الخطر. النساء تجاوزن العديد من الخطوط الحمر ليلتحقن بصفوف الرجال. هتفتْ إحداهنّ في مظاهرة، وقد أزاحت خمارها: «بالحق بالدين بدنا المعتقلين»، ورجالُ كل عائلة يحيطون بنسائهن اللواتي كُنّ يقِفن في المؤخرة عادة، وخصوصاً حين يبدأ البثُّ على قناة الجزيرة.

ثمة صوتٌ لن أنساه ما حييت، سيبقى يتردد في داخلي، مدوّياً أعلى من صوت أبي وهو ينازع الموت تحت التعذيب. اختفتْ طائرة الميغ في سماء جسرين، وأصيبتْ في القصف طفلةٌ من قريباتي. كانت تلك الطفلة ذات السنوات الخمس، بين عشرات المصابين، تصيح صياحاً تخيّلته يجتاز أطراف الحي، ويصل إلى أقاصي الكون؛ في انعدام المسكّنات اضطر الطبيب إلى إزالة الشظايا من لحمها دون تخدير، وطلب منا إحضار بعض الأدوية بأية طريقة، عُنيتُ أنا بالسؤال فانبريتُ لهذه المجازفة. استغللتُ تساهل الحواجز مع عبور الفتيات من جسرين إلى دمشق، وقد عدتُ بالمضادات الحيوية وأدوية أخرى في حقيبة يدي. اعتمدنا مبدأ السلسلة المقطوعة، إذ كنت أعرف ممن سأستلم الدواء في باب الجابية وأعرف المصابين فحسب، وأسماء جميعنا مستعارة، ولا علم لي بتاتاً بباقي الخطوات. الحذر كالإقدام كان كبيراً، وهذا النظام عصابة يعاملنا رئيسها كقطيع من الحيوانات في مزرعة أبيه. في الواقع، أتى كلُّ ما فعله تثبيتاً لأفكارنا المسبَقة عنه، ولكن الوحشية تبقى مفاجئة دائماً. حين حلّقت الطائرات الحربية فوقنا للمرة الأولى، رأيناها تحوم غير مصدّقين أنها ستُغير علينا حقاً، ثم انهار أمامنا مبنى بأكمله. صرخنا كالمجانين. تيقّنا من عبث السلمية، ومن أن الطريق الوحيد هو الكفاح المسلح. وعند اقتحام الجيش النظامي للغوطة المحاصرة، تردّد إن الضباط لا يريدون أن يمشوا على الأرض، بل على أجساد القتلى. هدّدوا باغتصاب النساء إذا لم يقُم الأهالي بتسليم الإرهابيين. والآن، في هذه العقدة وهذا الانسداد، البلد تحترق وتتهدّم، وإذا كسّر مقاتلو الجيش الحر بنادقهم واستسلموا، فقد نُذْبَحُ جميعاً. الإنسان قاتل بالغريزة. في إحدى مغادراتي للغوطة رأيت على الطريق فردة «شحاطة» جفَّ الدم على بلاستيكها، ثم رأيتُ جثمان شاب ظلَّ ممدداً هناك على جنبات الطريق، مغطَّى بقطعة من الكرتون، والعابرون يرونه ذهاباً وإياباً، دون أن يتجرأ أحد على الاقتراب منه. مجرد جثة، وأخافتهم. خافوا من أن يُقتلوا إذا لمسوا الميتَ المجهول فلم يدفنوه. تلك القسوة التي عاينتُها بأم عيني أحرقتْ إيماني بالإنسان. المجازر أخمدت توقُّدَ طاقتي. كلُّ مجزرة تعيدني إلى الصمت والتقصير في العمل، وتعاودني كآبة تطول أحياناً. حفاظاً على توازني، أو لأحمي ما تبقّى منه، توقّفتُ مؤخراً عن مشاهدة نشرات الأخبار.

وما أتى الشيطان، ثالثهما

السؤال محرم بين أسوار التابوهات الثلاثة (السياسة، الدين، الجنس) التي يتفرّع منها ألف تابو وتابو، وأيةُ فكرة تمردٍ تخبو ما إن تلمع في الرأس. المنطقة التي تربّيت فيها بالغوطة الشرقية منطقة محافظة، انحصرت بين الدين والأعراف من جهة، والرقابة السياسية الأمنية من جهة أخرى، وقد عُوملت المرأة كنصف إنسان أو أقل، كوعاء الغايةُ منه إنجاب الأطفال، ضئيلة الأدوار، منتَقصة ومقيَّدة، ولا يعترف بها المجتمع الذي لا يزال يحفل بتزويج قاصرات دون سن السادسة عشر، ولا يقبل بإكمال الفتيات تعليمهن، مردّداً إن المرأة لا تخرج إلا ثلاث مرات: من بطن أمها إلى بيت أبيها، ومن بيت أبيها إلى بيت زوجها، ومن بيت زوجها إلى القبر؛ تربيتُ في بيئةٍ الرجلُ فيها مِن بعد الله إله، وبتفكيرٍ تشلُّه المعوقات تصرفتُ، واتخذتُ قراراتي بناءً على أشياء لا وجود لها، لكنني مع ذلك ضمن عائلة أبي الفتاةُ الوحيدة التي دخلت الجامعة. درستُ علم الاجتماع، بعد أن كبرتُ على فكرة أن الجامعة حلمٌ مستحيل.

في أحاديث الطلبة خلال الدراسة في دمشق لم يكن هناك ما يمنع شتم الله علانية، أما إذا حدث وتطرّقنا إلى السياسة، بالأحرى إذا نطقنا اسم بشار أو حافظ الأسد، تلاصقنا وتهامسنا، وتلفّتنا لنتأكد من أن أحداً لم يسمعنا. تناولتُ علاقة الأقليات بالمواطنة في بحث رسالة الماجستير التي ما استكملتها، وأحببتُ آنذاك، ولا أزال أحبّ، مؤلفات برهان غليون ومقترحاته في بناء دولة القانون التي لا أزال أحلم بها، دولة إذا أخطأ رئيسها حُوسب وحُوكم، مثلما يحاكم اللصوص إذا سرقوا أبسط الأشياء. العديد من أصدقائي وزملائي في الكلية قاموا بأبحاث مستجدة أخرى، وأتانا جميعاً الجواب نفسه: «مع عدم الموافقة». بعضهم رأوني متناقضة أجمع بين التديُّن وتحرر الآراء، لكن التابوهات عذّبتني طويلاً؛ ما أسأتُ بإيماني إلى أحد، ما شربتُ الكحول، ولا خلعتُ الحجاب الذي لم يختزلْ في يوم أنوثةَ المرأة، بل قد تكون المحجَّبات عرضة للتحرش الجنسي أكثر من السافرات. أسكنت الثورة شباناً وفتيات تخالطوا في منزل واحد، وقبل بدئها فرضَ عليَّ العمل البقاءَ وحدي مع شاب في المكتب نفسه؛ كنتُ أبقي بابه مفتوحاً وما أغوانا الشيطان.

 

بعض صديقاتي يرتحن بتدخين السجائر وأنا يريحني وجود الله. هذه الراحة أجملُ عندي، وأسهل عليّ من تبني معتقد جديد سيقودني إلى صراعات لا أعرفها داخل نفسي. لا أزال عذراء. أقول لأصدقائي إنني لن أمارس الجنس إلا مع شخص أحبه، وأعتقد أن للزنا وآية تحريمه في القرآن تفاسير وُضعت للتقييم لا للتقييد، فوسائل الإثبات، وشهود الواقعة الأربعة، تعني عدم المجاهرة بالمعصية. هذه المواضيع جديدة علي وشائكة، ولم تتضح معالمها بالنسبة إلي. أخبرني صديقي محمد إنه لو لم يمارسْ جنساً مأجوراً لما خرج في مظاهرة طوال حياته، لأنه كان يريد أن يختبر تلك الأحاسيس، بالرغم من أنه مرتبط بفتاة أخرى. هذا الصديق نفسه يقول: «يظنُّ كلُّ ذكرٍ في مجتمعنا أنه مالك الأعضاء الأنثوية لنساء عائلته كلهنّ».

(أيار 2013)

موقع الجمهورية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى