سلامة كيلةصفحات سورية

أميركا في علاقة “حميمة” مع السلطة السورية

 

                                            سلامة كيلة

إرث الحرب الباردة فرض التوافق بين “النقيضين” في القول إن أميركا هي ضد النظام السوري. “معادو الإمبريالية” اعتبروا الأمر بديهياً، حيث يبدو التموضع الواقعي يقوم على وجود النظام في تحالف “معاد” لأميركا، وهو محور إيران سوريا حزب الله، والذي يتوسع عالمياً ليشمل روسيا والصين وفنزويلا وكوبا وكوريا الشمالية. و”المتغربون”، أي متبعو “الغرب”، وهم الليبراليون، وانطلاقاً من هذا التقسيم العالمي للتحالفات اعتبروا أن أميركا هي ضد النظام، وأنها مع إسقاطه لكسر “محور الممانعة والمقاومة”.

ولقد بنى كل منهما إستراتيجيته على هذا الأساس، فباتت الثورة “مؤامرة إمبريالية” بالنسبة لـ”معادي الإمبريالية”، وبات “الغرب” معنياً بانتصار الثورة بالنسبة لليبراليين.

لهذا كانت تصريحات جون كيري الأخيرة صادمة، وأيضاً كاشفة. فقد أكد على ضرورة جلوس المعارضة والأسد على طاولة الحوار لإيجاد حل سياسي لـ”الأزمة السورية”. قبلها أشار إلى التفاهم مع الروس على الحل الذي يقوم على أساس وثيقة جنيف، التي اختلف حينها التفسير الروسي عن التفسير الأميركي بشأن “بقاء الأسد”. لكن استلام كيري وزارة الخارجية الأميركية فتح على سلسلة تصريحات تؤكد على الحل السياسي ورفض التدخل والتسليح. وكان اجتماع “أصدقاء سوريا” الذي عُقد في روما مناسبة لكي تُجرّ هذه الدول إلى بيان يوافق على دعم “مبادرة جنيف”، وأيضاً وفق التفسير الروسي.

هذا الميل الأميركي لدعم الدور الروسي في سوريا بدا مفاجئاً لـ”الممانعين” من طرف، والمصابين بـ”الوله” الأميركي من جهة أخرى. حيث ظهر أن أميركا ليست بعيدة عن روسيا، حليفة “الممانعين” و”عدوة” الليبراليين. ومن ثم أن تقسيم العالم الذي ترسّخ في “عقل” هؤلاء وأولئك قد زال. وأننا على أعتاب تقاسم جديد، ربما تكون سوريا هي المفصل فيه، أو هي البداية في طريق تشكّل تحالفات جديدة، وأشكال سيطرة جديدة.

منذ البداية لم يكن الموقف الأميركي من النظام السوري حاسماً، بل ظل مائعاً، يعلو مرة ويخفت مرات. يهدد في لحظة ويغض النظر أوقاتا كثيرة. لقد فقد الخطاب الأميركي، وخطاب أوباما خصوصاً، نبرة الحسم التي اتسم بها تجاه زين العابدين بن علي وحسني مبارك. وبدت السياسة الأميركية بعيدة عن المشهد، ودون اكتراث حقيقي. من يعود إلى سلسلة التصريحات الأميركية تجاه سوريا طيلة العامين المنصرمين سوف يلحظ ذلك. خصوصاً الآن، بعد أن تبيّن الأمر، ولم تعد “المسبقات الذهنية” ذات قيمة.

لكن هذا الموقف الأميركي ليس جديداً تماماً، حيث صرّح باراك أوباما بداية العام الفائت بأن على روسيا أن ترعى مرحلة انتقالية في سوريا “على غرار ما جرى في اليمن”. روسيا حينها ارتبكت في التقاط “الحدث”، لأنها لم تكن تفهم الواقع السوري بما يكفي.

فقد كانت لديها تقديرات (مسربة من قبل عملائها) بكبر عدد المسلحين. حينها صرّح لافروف، وهو يزور القاهرة للقاء الجامعة العربية، بأنه: كيف يمكن إجراء عملية انتقال للسلطة في وضع يمكن أن يستغله المسلحون للسيطرة على المدن؟ وبالتالي اندفعت إلى دعم خطة السلطة في البدء بهجوم شامل على “معاقل المسلحين” لتصفيتهم.

ولقد بدأت ذلك في الهجوم على بابا عمرو، وبمشاركة لوجستية واستخباراتية وعملية روسية (وإيرانية). وإذا كان عدد المسلحين أقل من التقدير الروسي كثيراً، فقد تزايد كثيراً بعد هذا الهجوم بدل أن تتحقق “الخطة الروسية” في تصفية المسلحين، وتعقّد الوضع أكثر كثيراً.

ربما لعبت أميركا حينها دوراً في زيادة تعقيد الوضع، حيث ظهر “تفاعلها” مع الوضع السوري، وبدا أنها باتت تريد إطالة أمد الصراع من أجل زيادة التدمير الذي بدأته السلطة لكي تضعف سوريا، ويرث الروس وضعاً مرتبكاً فيها.

ربما لعب الأخضر الإبراهيمي دور “الوسيط”، حيث بدا أن خطوات من التوافق باتت تتحقق. خصوصاً بعد تسلّم جون كيري وزارة الخارجية. وشهدنا ارتباكات في وضع القوى التي كانت تتصارع على سوريا، فرنسا وتركيا وقطر خصوصاً. فرنسا سارعت لـ”الاستيلاء” على مالي، مالي التي عملت أميركا خلال عقد سابق على وضعها تحت السيطرة الأميركية عبر دعم قوات أفيركوم، كجزء من السيطرة على أفريقيا. ولا ندري ماذا يمكن أن تفعل تركيا أو قطر؟

الآن، بات واضحاً أن الأمور “تسير نحو الحل”، لكن في شكل جديد ربما، يقوم على توافق أميركي روسي على تحقيق مرحلة انتقالية في سوريا لا تشمل تنحية بشار الأسد، يشرف الروس على تحقيقها. في المرة السابقة، حين طلب أوباما من روسيا أن ترعى مرحلة انتقالية لم تفكّر أميركا في دور لها. الآن يبدو أنه بات لها دور معيّن. لكن في كل الأحوال ما السبب الذي جعل أميركا تقدّم سوريا لروسيا بكل هذه “السلاسة”؟ وأصلاً لماذا ظهر أن أميركا لم تعد معنية بسوريا، وأنها لا تريد أن تحقق ما حاولته بعيد احتلال العراق، أي تغيير النظام لمصلحتها؟

أولاً أشرنا مراراً إلى أن أميركا باتت مضطرة للانسحاب من العالم لمصلحة “الانغلاق على الذات” بشكل ما. فقد تفاقمت أزمتها المالية، ولا يبدو أنها قادرة على حلّها رغم مرور أكثر من أربع سنوات على انفجارها. وأن انفجار أزمات جديدة بات ممكناً، بل ربما حتمياً.

لهذا أصبحت منطقة الباسيفيك/ المحيط الهادئ هي الأولوية في إستراتيجيتها للمرحلة القادمة، هذه الإستراتيجية التي أُقرّت بداية السنة السابقة، وفرضت سحب جزء كبير من قواتها في العالم، ونقل قطعها البحرية من منطقة الخليج العربي إلى هناك. وهي بذلك تميل إلى “مواجهة الصين”، أو بشكل أدق حماية أميركا من الصين.

هذا الأمر جعلها تتجاوز مخططاتها في “الشرق الأوسط”، وتُخفض الاهتمام به. طبعاً دون تجاهل منطقة الخليج التي باتت الفوائض النفطية هي ضمن خطط السيطرة المالية الأميركية بأشكال مختلفة، في سياق محاولتها تجاوز أزمتها.

وثانياً، وهي تتخوّف من الصين، تريد كسب روسيا، بعد أن ظهر أن تحولات العالم أخذت تشد كل منهما إلى الآخر، بالضبط في مواجهة أميركا. ولهذا، ظهر أن أميركا تتخلى عن تحالفاتها القديمة مع أوروبا، أو على الأقل تهمّش هذه التحالفات لمصلحة وضع جديد يقوم على التفاهم مع روسيا.

هنا انفتح باب الحوار بشأن “تقاسم العالم”، وحلّ نقاط الخلاف بينهما. وهي كثيرة، منها الدرع الصاروخية في أوروبا، ومناطق النفوذ. وروسيا عادت للبحث عن وجود لها في الشرق، خصوصاً سوريا، بعد انقطاع طويل، وتراجع في العلاقات الاقتصادية والسياسية. لأنها تريد منفذاً على البحر المتوسط (قاعدة طرطوس)، وتريد مصالح اقتصادية كانت انقطعت منذ سقوط الاتحاد السوفياتي.

المنافس هنا هو فرنسا، التي طالما استفادت من الخلاف الأميركي مع النظام السوري لكي تحاول تعزيز وجودها في سوريا، ولقد فشلت فشلاً ذريعاً زمن جاك شيراك، ثم زمن ساركوزي. وتركيا التي استفادت من القطيعة الأميركية الفرنسية مع النظام السوري لكي تفرض علاقة أكثر من جيّدة، حصلت خلالها على اتفاق إستراتيجي كان يعزز الهيمنة على الاقتصاد السوري. فلماذا لا تساوم أميركا روسيا عليها؟

هذا الأمر جعل الموقف الأميركي يميل إلى أن يدعم سيطرة روسيا على سوريا. ولهذا أخذت الإدارة الأميركية تروّض “محبيها” في المعارضة على قبول “الوالي” الجديد.

هذا إذن هو جوهر الموقف الأميركي. وإذا كانت أميركا قد دعمت التصريحات الفرنسية البريطانية بشأن تسليح المعارضة، فسيكون ذلك جزءاً من “المناورة” التي يجب أن تصبّ في إنجاح “الحل الروسي” ربما من خلال الضغط على قوى السلطة لكي تقبل هي الأخرى هذا الحل دون تلكؤ أو تردد، خصوصاً بعد أن اختلّ ميزان القوى العسكري، وباتت قوى السلطة منهكة، ومقدرتها تتراجع. وربما سيكون دور أميركا هو لجم “أتباعها” في حال الوصول إلى مرحلة تنفيذ هذا الحل.

ما يبدو واضحاً هنا هو أن الوضع العالمي لم يعد هو ذاك الذي كان زمن الحرب الباردة، لهذا يجب تغيير المنظور الذي حكم قطاعات من القوى كانت تستفيد من حالة التناقض بين “الشرق” و”الغرب”، أو تؤسس رؤيتها على أساسها.

وأيضاً لم يعد هو ذاك الذي تبع انهيار الاتحاد السوفياتي وتسيُّد أميركا على العالم، واندفاعها للسيطرة المباشرة وتغيير النظم، و”فرض الديمقراطية”. بالتالي “الهوى الأميركي” لم يعد مفيداً.

الوضع العالمي بات يتسم بضعف في الرأسمالية، وميل لتقاسم جديد للعالم، ولتشكيل التحالفات. الثنائية سقطت، والأحادية كذلك، وبات العالم مفتوحاً على صراعات كبيرة، هي بالضبط صراعات الشعوب ضد الرأسمالية.

أقول لـ”الممانعين”، لقد فزتم بالتحالف مع أميركا. وأقول للمعارضة التي حفيت وهي تطالب أميركا بالتدخل، ها قد تدخلت أميركا، لعل غرامها يفيدكم؟

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى