صفحات الثقافة

ممالك الصمت ومماليكه/ الياس خوري

 

 

في زحمة التعازي بموت الملك السعودي والتهاني بمبايعة الملك الجديد، غاب الصوت النقدي بشكل شبه كامل. فالمملكة المسورة بجدران الصمت، تلقت وتتلقى سيولا من وفود المعزّين. ومن أجل ذكرى الراحل وتقرّباً من الخلف تسيل أنهار من الدموع التي تلونت بأسوَدَيْ الحبر والنفط. «تبكي عليه البواكي»، كما كُتب، كما ان انتقال العرش هو مثال الاستقرار والسلاسة والشورى والديموقراطية المدروسة، كما قيل!

لكن والحق يُقال، فقد قامت الصحافة الإيرانية الهوى بتسجيل انتقاداتها للحكم السعودي الاستبدادي، وإمعاناً في توكيد موقفها الديموقراطي، وهو موقف ملوث أيضا برائحة النفط، فإنها ترى في الرئيس السوري الذي يبيد شعبه ويسلّم بلاده للخراب والغزاة، مشهداً مقاوِماً وديموقراطياً يستحق التأييد!

مات الشاعر المصري صلاح جاهين وهو يصرخ «عجبي» قبل أن يرى هذا المشهد الغرائبي، حيث يسيل النفط دماً في شرايين زمن الطوائف العربية. كلمة «عجبي»، لم تعد تفي بالغرض، «فإذا عُرف السبب زال العجب»، كما قالت العرب، ولكن ماذا لو كان السبب هو العجب بعينه؟

بالطبع لم يتوقف أحد عند نعي الرئيس الاسرائيلي للمليك الراحل! كما لم يثر أحد حكاية قطع رأس امرأة في ساحة عامة، في مشهد يعيد الداعشية ومشتقاتها إلى أصلها المذهبي، كما لم يرتفع صوت واحد بالسؤال عن المدّون السعودي رائف بدوي الذي حكم عليه بالسجن، وتسرّب فيديو جلده العلني إلى وسائل التواصل الاجتماعي. المسألة التي كانت تؤرق الجميع هي استقرار المملكة التي تمتلك أكبر مخزون للنفط في العالم. الملك الجديد وولي عهده وولي ولي العهد، قدموا مجتمعين صورة عن استقرار نسبي، وهذا ما أراح العالم المتمدن الذي يتسلى بمشاهدة بطولات القنّاص الامريكي على الشاشة، أو يتمتع بقراءة هلوسات كاتب فرنسي حوّل الإسلام إلى فوبيا الحياة المعاصرة، تمهيداً لنشوء نسخة جديدة من اللاسامية ضد المسلمين والعرب قد لا تقل وحشية عن نسختها النازية السابقة.

الاستقرار هو المسألة، في مشرق عربي غارق في الدم والفوضى. لاحظوا معي أن الاستقرار لا يعني سوى استقرار آبار النفط، وهذا يعتمد على وصفة سحرية تدمج الإسلام الوهابي بما بعد الحداثة. «مدن الملح» التي رسم عبدالرحمن منيف خرائطها الأولى تتحول اليوم إلى ناطحات سحاب، يتأمرك فيها الوهابي ويتوهبن فيها الأمريكي. عالم لا يُعقل إلا من خلال دمج البنى التقليدية والمتخلفة ببنية القمع الحديثة.

لكن مملكة النفط ليست مجرد بئر بترول، إنها دور، ودورها تضخم بعد نهاية مصر الناصرية، ثم تعملق بعد تحول المشرق العربي إلى ساحة للموت والحماقة على أيدي المستبدين الذين أعمى جنون السلطة بصرهم وبصيرتهم. الأساسي في هذا الدور ليس سياسيا كما يظن الكثيرون، فالسياسة السعودية، باستثناء مرحلة قصيرة خلال حكم الملك فيصل، الذي أدار الصراع مع الناصرية بخبث وذكاء، لا قوام لها. المبدأ الوحيد الذي يحكمها هو فن البقاء في السلطة من خلال نظام الزبائنية العشائري في الداخل المستند إلى التحالف بين الأسرة الحاكمة ورجال الدين الوهابيين، والخضوع لسياسات الحليف/ الحامي الأمريكي إقليميا ودوليا. وما بدا استقلالية سعودية نسبية خلال الثورات العربية، لم يكن سوى نتاج تراجع السياسة الأمريكية ومحاولة استعادة توازنها بعد الضربات التي أنزلتها بها حماقات جورج دبليو بوش ومغامراته العسكرية. الدور السياسي السعودي منضبط ومضطر للانضباط في الإطار الأمريكي، لذا فهو لا يستطيع أن يتجاوز مناكفة الأمريكيين إلا بشكل جزئي ومحدود.

أما الدور الحقيقي الذي كبر ويكبر ويهدد بابتلاع المنطقة فهو الدور الثقافي. الغريب اننا نتحدث عن هيمنة ثقافية تأتي من خارج حواضر النهضة العربية: القاهرة وبيروت وبغداد ودمشق، هذا هو الموضوع، أن تخرج الثقافة من هذه الأماكن، لتتحول إلى أداة من أجل خدمة أحد أكثر أشكال الاستبداد وضوحاً، لأنه يغلّب فكر المدرسة السلفية على فكر النهضة، ويفرض قواعد سلوك فكرية وثقافية واجتماعية وأخلاقية صارمة. وكانت النتيجة الأولى لهذا الدور هو تحطيم الإعلام العربي من خلال الاستيلاء عليه، وقد تم هذا الاستيلاء بصورة سهلة نسببياً بعد تحول إعلام بيروت إلى جزء من حطام مدينة انهكتها الحرب الأهلية والاحتلال الاسرائيلي وهيمنة نظام الاستبداد السوري. والآن يأتي دور الثقافة، حيث يتم الزحف لاحتلال الثقافة الحديثة بوسائل معقدة ومنهجية، بعدما تم احتلال الثقافة التقليدية بالمال وعبر التأثير في العاملين العرب في الصحراء.

ما هو المشروع السياسي من وراء هذه الهيمنة؟

من الواضح أن السعودية لا تملك سوى مشروع بقاء النظام، وهذا لا يحتاج إلى كل هذا الجهد الإعلامي والثقافي الذي تمارسه دول الخليج.

إذاً، ماذا؟

هل هو مجرد فائض قوة وثروة لا يمكن تصريفها إلا عبر تبديدها؟ أم هي محاولة لبناء أسوار إضافية تحمي السور الداخلي؟، أم أن أحد شروط بقاء النظام النفطي هو خراب المنطقة؟

الإسلام الوهابي قاد إلى القاعدة في أفغانستان، وهو يقود اليوم إلى داعش في العراق وسورية. أي ان هذه الأيديولوجية انتجت عدوها، وها هي اليوم مضطرة إلى المشاركة في حرب عالمية جديدة وخجولة ضد الإرهاب، ولو على مضض. إنها ثقافة المأزق، والمأزق يكتمل حين لا يكون من سقط فيه قادرا على التقدم أو التراجع. التقدم انتحار والتراجع موت.

ربما يعتقد نظام الاستبداد أن المماليك الجدد من إعلاميين ومثقفين يستطيعون تأجيل إعلان المأزق عبر تحويل الكلمات والصور إلى طبول؟ لكن لم يسبق لطبل أن أنقذ ممثلا سقطت خشبة المسرح تحت أقدامه، لكنه يواصل الدور حتى النهاية.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى