صفحات الثقافةممدوح عزام

مساطر نقديّة/ ممدوح عزام

 

 

 

أفكّر أن مصطلح “النمط” أو “النموذج” الذي ساد في مرحلة من مراحل تأهيل النقد العربي، يمكن أن يكون قد أضرّ كثيراً بطريقة تلقّي الرواية العربية، من جهة، كما يمكن أن يكون قد تسبّب بالكثير من سوء الفهم، من جهة ثانية.

وبحسب ذاك المقترح، فإن الشخصيات في الرواية تمثل الفئة أو الشريحة أو الطبقة التي تنتمي إليها. فحسنين، في رواية نجيب محفوظ “بداية ونهاية”، يلجأ إلى التخلّص من تناقضاته بحل فردي “نموذجي” هو الانتحار، وهو حل موجود “عند كل فرد من البورجوازية الصغيرة يبحث عن حل لمأساته”، كما يقول كتاب “في الثقافة المصرية” لمحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس. وهذا الموقف هو اتجاه عام في “كل” روايات محفوظ الذي يصنّفه الكاتبان على أنه “روائي البورجوازية الصغيرة المصرية”.

يفترض اعتماد هذا الموقف النقدي أن العامل في الرواية هو كل عامل، أو أن الفلاح هو الفلاحون، أو أن الطبيب أو الشرطي أو المحامي، يمثل في شخصه الصفات الجوهرية للفئة أو الشريحة أو الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، ما قد يؤدي إلى تكميم الكتابة الروائية، أو أي شكل من أشكال الكتابة الفنية التي تقدّم شخصيات من الجنسين، كالمسرح أو القصة أو السينما أو التلفزيون.

وقد سبق للناقد الألماني هورست ريديكر أن ذكر في كتابه “الانعكاس والفعل” أن النقاد في ألمانيا الشرقية لاموا أحد الروائيين قائلين: “ماذا دهاك، هل عُمدة مدننا على هذه الشاكلة؟”، وأن نقاداً حذّروا روائياً آخر بالقول: “لا تصوّر، لو سمحت، مفوض الشرطة بدور ثانوي، أبلهاً”. وأذكر أن المحامين في مصر رفعوا قضايا ضد المسلسل المصري “أوبرا عايدة” بذريعة أنه يظهر المحامي بطريقة مبتذلة، بينما كان الروائي الألماني يتحدث عن عُمدة واحد وحسب، وكان الممثل في المسلسل المصري يؤدي دور محام واحد فقط.

وبمثل هذه الاعتراضات “يمكن أن تنتفي إمكانية إسباغ صفات سلبية على أي إنسان يمارس مهنة معينة”، بحسب ريديكر. فهل نحن هنا أمام المقدمات التي دفعت بفكرة البطل الإيجابي إلى صدارة فكر اليسار النقدي؟

في الغالب يظهر كلا الموقفين في الأنظمة الشمولية، أو في الثقافات التابعة التي تتلقى المفاهيم الجاهزة، سواء ذاك الموقف الذي يزعم حضور النمط أو النموذج في كل الأعمال الفنية، أو ذاك الموقف الذي يسعى إلى محاسبة الكاتب استناداً إلى هذه المقدمة المزعومة التي تختلق سمات موحدة لأي مجموعة بشرية.

الأخطر من ذلك أن تكون مثل هذه الأفكار قد تسللت إلى الحياة العامة، بمعنى أن تتوازى مع فكر لا نقدي أو ظلامي يساوي بين الأفراد ويماثلهم داخل المجموعات العرقية أو الإثنية أو الطائفية التي ينتمون إليها. وبهذا المعنى يكون “النمط” مثالاً قبيحاً على الكيفية التي يمكن فيها لمفاهيم ذات طابع أدبي أن تخلّف تأثيراً مدمراً في الحياة الاجتماعية، بقدر ما يمكن أن تتسبب في إعاقة الإبداع حين تظهر كمسطرة للقياس تُصنَّف وفقها الشخصيات الأدبية، أو الروائيون، وفق جدول طبقي مغلق الحدود.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى