صفحات سوريةمازن عزي

أميركا وروسيا: الإرث والكبرياء/ مازن عزي

 

 

تسعى روسيا وأميركا، إلى عدم تسمية ما يحدث في سوريا “انهياراً” لـ”وقف الأعمال العدائية”، بل تفضلان وصفه بـ”خروق”، فـ”الهدنة” ما زالت “صامدة”. مستوى المعارك ونوعية الذخائر المستعملة في أرياف حلب واللاذقية وحماة، لا تدع مجالاً للشك، بأن الراعيين يكذبان، في محاولة للابقاء على مسار عملية سياسية غامضة، في جنيف. “وقف الأعمال العدائية” انتهى على الأرض، وعادت الحرب إلى مستوياتها السابقة، في ظل تعثر موازٍ للعملية السياسية، المشوهة أصلاً.

الهدنة كما العملية السياسية، هي تسميات لما لا يشبه الواقع. مجرد انعكاس لرغبات الراعيين الدوليين، اللذان لا يجدان حرجاً في تسمية الأشياء بنقائضها. ولكن ما الذي يدفع قوتين دوليتين، للوقوع في مطب العجز، رغم توافقهما، في القضية السورية؟ أهو نقص الإرادة أم نقص القدرة، أم كلاهما؟ وبعيداً عن التبصير وقراءة الكف والفنجان في مقاربة السياسات الدولية، هل يمكن انطلاقاً من القضية السورية، فهم دوافع السلطتين في روسيا وأميركا، للتدخل الخارجي، وهل بالإمكان الوصول إلى معايير تنظم عمليتي التدخل والانسحاب لديهما؟ هل يمكن ذلك، باتباع منهج تركيبي، يمزج بين تحليل السلطة كمجموعة فاعلة تعمل بانسجام لتنفيذ دور سياسي، وبين تحليل نفسي لدوافع شخوصها.

التمييز الأساس، يبقى في كون الحكم في أميركا، يقوم على طواقم إدارية تتناوب السلطة، ما يعني عدم وجود استمرارية لذات النهج، وإن كانت البراغماتية الأميركية تجعل الفروق واهية بين الديموقراطيين والجمهوريين، في حين تهيمن أقلية “أوليغارشية”، على بنية السلطة في روسيا، وتحتكر منافذ الوصول إلى السلطة، وتتلاعب بمفاتيح الاقتصاد والثروة.

الإدارة الأميركية الحالية، الديموقراطية، تجمع بشكل غامض، بين الواقعية السياسية والطوباوية والبراغماتية، في السياسة الخارجية. السلطة التنفيذية، الإدارة، تلجأ إلى السلطة التشريعية حين تريد “عدم الفعل”، كإحالة التدخل العسكري في سوريا إلى الكونغرس بعد استخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية، في آب/أغسطس 2013. ولكنها تهدد المجلسين، النواب والشيوخ، في حال معارضتهما لـ”الفعل”، لتمرير الإتفاق النووي مع نظام الملالي في طهران. الإدارات الأميركية عموماً، والحالية خصوصاً، تعمل على وقع استطلاعات الرأي، وتحركها ديناميات السياسة الداخلية، ومراكز القوى وجماعات الضغط ومراكز الأبحاث، في صناعة السياسة الخارجية. فكل ما لا يجد صداه لدى الأميركيين المستطلعة أراؤهم، في نشرات أخبار الساعة الثامنة، لا صدى له في السياسة الخارجية.

إلا أن إهانة “القوة” الأميركية حول العالم، وصلت إلى حدود قصوى؛ من أسر البحارة الأميركيين على يد “الحرس الثوري”، إلى الاستفزازات الروسية اليومية للبارجات والطائرات الأميركية حول العالم. ومع ذلك فالإدارة تسعى إلى التقرب أكثر من روسيا وإيران، وإعطائهما فرصاً متزايدة، لحلحلة المشاكل في الشرق الأوسط، ولو على حساب حلفاء تاريخيين كتركيا ودول الخليج. انسحاب الإدارة الأميركية الحالية من الشرق الأوسط، يكاد يحوّله إلى أحد أكبر الأزمات المعاصرة، ويُنذر بانفجارات كبرى قادمة، في أوروبا وتركيا. الأمر الذي يجعل السؤال مشروعاً: هل ما تفعله الإدارة في التعاطي مع العالم الخارجي، يسمى سياسة؟

أين تنتهي الخيارات الشخصية، وتبدأ السياسة، في ظل هاجس الـ”Legacy” للرئيس أوباما، الذي يكاد يكون المعيار الوحيد الواضح في المقاربة الأميركية لـ”السياسة” الخارجية. أم أن المقولة التاريخية: “نحن نريد، ونحن قادرون” باتت معه: “نحن قادرون.. ولا نريد”. ما الذي يجعل فعلاً، دولة عظمى، قادرة على فعل المستحيل، من غزو الفضاء إلى سبر البيانات الرقمية عبر العالم، عاجزة عن إيجاد استراتيجية لحل مشكلة راح ضحيتها نصف مليون قتيل خلال السنوات الخمس الماضية؟ أهو فعلاً عدم الرغبة في التدخل في وحول الشرق الأوسط، القضية الخاسرة، أم انعدام القدرة على الفعل؟ ثمة شيء محيّر هنا، حتى المرشحين الجمهوريين للرئاسة الأميركية، يستخدمون الملف الخارجي، واستعادة الدور الأميركي، كدعاية انتخابية، في ما يشبه ما “يطلبه الجمهور”.

في المقلب الآخر، يعيش فلاديمير بوتين، هاجس استعادة “الكرامة” الروسية، بمعنى استعداده للتنمر في العالم، وكيل الإهانات إلى الآخرين. “كبرياء” بوتين المجروح دائماً، يقابل “إرث” أوباما. وفي حين يمكن ملاحظة سمات واضحة للإدارة الأميركية، كفريق عمل، له خصائص فردية وجماعية، يكاد يكون الأمر صعباً في الحالة الروسية، إذ إن بوتين تمكن خلال السنوات الماضية، من تأسيس حكم طغياني، هيمن به على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية في روسيا. الطغيان في الداخل، يحتاج إلى مبررات خارجية، كمنازلة الأعداء على التخوم، وحماية المصالح الروسية في المياه الدافئة. التمدد الروسي، جاء في ظل انسحاب أميركي، لكنه سيظل محكوماً بالقدرات الروسية، المحدودة. ذلك ما قد يجعله تمدداً استعراضياً، بمبررات استراتيجية.

تدّخل روسيا العسكري في سوريا، وانسحابها الشكلي، هي قرارات بوتينية بامتياز، فلا مؤسسات تشريعية أو قضائية، تعارض أو تناقش. السلطة التنفيذية الروسية، متغولة على بقية السلطات، والشرعية مشتقة منها. ما يجعل الاستنتاج ممكناً، بإن التدخل و”الانسحاب”، هما بدوافع شخصية لبوتين، تتضمن محاولات لتحصيل مكاسب في أماكن أخرى.

في الحالتين، الروسية والأميركية، تكون السياسة الخارجية، ذات دوافع شخصية، تكاد لا تنظمها سوى مصطلحات فضفاضة حول الأمن القومي، والمحيط الاستراتيجي الآمن. وبمقارنة الدوافع النفسية، يكون “الإرث” معادلاً لـ”الكبرياء”، أو كبرياءً مقلوباً. وحين يتواجه الطغيان الروسي الفاعل مع تردد الإدارة الأميركية، تكون الغلبة للأول، فـ”الكبرياء” يهزم “الإرث”، والطغيان يستقوي على الإدارة.

إلا أن ذلك يطرح سؤالاً آخر: متى تحوّل الحكم إلى إدارة، والديموقراطية إلى حكم البيروقراطية، ألا يكون ذلك طغياناً أيضاً؟ فمن قال إن العدوان يكون دائماً من خلال الفعل، ومن قال إن “عدم الفعل” لا يقود إلى كوارث أيضاً. فالطريق إلى جهنم مفروش بالنيات “الخيرة”، أكانت مدعومة بالإرث، أو بالكبرياء.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى