صفحات الناس

أمي مهاجرة غير شرعية/ ملاذ الزعبي

لم يساورني القلق بداية. لطالما غابت التغطية عن جوّال والدتي، فمنذ انتقالها إلى بيت جديد في الإسكندرية والاتصالات بيننا متقطعة. قليل من الشك تسرب إلى أفكاري لغياب التغطية عن هاتف أخي المحمول أيضاً، استحال الشك قلقاً بعد محاولتي الفاشلة للاتصال بزوجة أخي، كان إذاً لا بد من الاتصال بأبي، أمر حاولت تجنبه فاشلاً كي لا أضطر إلى الكذب رداً على استفساراته عن صلاتي وصيامي وقيامي وغض بصري وحفظ لساني.

 –   مرحبا بابا

 –   وعليكم السلام ورحمة الله، أهلاً بابا

 –   بابا حاولت اتصل بأمي وبعبد الر…

 –   أمك وأخوك ومرته وبنته بالبحر من يومين، بطريقهم على إيطاليا ومنها عالسويد.

كان جواب أبي حاداً كنصل السكين، وبارداً وكأنه يحدثني عن زيارة أمي المعتادة إلى بيت جارتنا “أم أنس” عندما كان لا يزال هناك بيت وجيران وحي وزيارات في درعا، روايته غير المكترثة بدت أشبه بصعود عدة درجات من طابق إلى طابق أو في أسوأ الأحوال وصف مقتضب لمشوار تبضع طويل ومجهد، لا عن رحلة قد تكون الأخيرة.

شرح لي والدي بحياد مذيع نشرة أخبار، أنهم فضلوا عدم إخباري كي لا أعترض، سبق لهم أن طرحوا الفكرة، وثقب صراخي الغاضب سماعة الهاتف حينها، اختاروا الذهاب إلى السويد مع الذاهبين، “رحلة مضمونة وكل شيء مؤمن”، سيصلون إلى إيطاليا في غضون أيام، ومنها ينتقلون براً إلى ألمانيا عبر النمسا ومن ثم الدنمارك قبل بلوغ هدفهم.. الجنة السويدية.

تتالى الأيام اللاحقة في قلق مستمر، والدتي الستينية وابنة أخي التي لم تكمل عامها الأول، استهلكا الجزء الأكبر من أفكاري، “أخي وزوجته شابان قادران على تحمل الرحلة القاسية”، أقول في نفسي، ثم أقرأ خبراً عاجلاً عن قارب غرق قبالة الشواطئ الإيطالية ركابه سوريون وفلسطينيون، أتجاهل الخبر، محاولاً التركيز على مجزرة في ريف إدلب، أو تتبع مسار صاروخ سكود انطلق من القلمون باتجاه الشمال السوري، يصبح الخبر العاجل قديماً وتتضح تفاصيله أكثر: الغارقون معظمهم أفارقة وليس بينهم سوريون، وهو آتٍ من السواحل الليبية وليس المصرية، أتنفس الصعداء مؤقتاً، وأحاول ملء وقتي بأخبار المجازر السورية التي تطبعت معها منذ زمن.

ليلة اليوم الخامس يأتي خبر جديد من وكالة آكي، خفر السواحل الإيطالي ينقذ زورقاً يحمل مهاجرين غير شرعيين سوريين من الغرق، بعد جنوحه بالقرب من جزيرة صقلية، ثم يأتي الخبر “السعيد” صباح اليوم التالي، عائلتي كانت ضمن الناجين على هذا الزورق تحديداً، والفضل لأخي “البطل”، الوحيد الذي كان يحمل جوالاً على متن القارب، وبفضل جواله استطاعت السلطات الإيطالية تحديد موقع القارب عن طريق “نظام تحديد الموقع”- GPS.

مرة أخرى يعاودني الشعور أنني “أخو البطل”، ميزة خبرتها جيداً في الشهر الثاني للثورة بعد اعتقاله من قبل الأمن في درعا، حينها تاجرت بذلك ما استطعت للعب دور الضحية والتقرب من الفتيات، فالاعتقال في دمشق حيث أقيم، كان مؤسطراً ولم يتحول إلى مسألة معتادة بعد. أفكر أنني لا أستطيع استغلال ذلك الآن، ولن يكون في إمكاني إنشاء صفحة في “فايسبوك” تطالب بمنح عائلتي اللجوء مثلما أنشأت صفحة للمطالبة بحرية أخي.

وصلت عائلتي إلى السويد بعد أيام، استقرت في قرية قرب مدينة “هالمشتاد” في انتظار إكمال الأوراق، الاتصالات بيننا متقطعة، سأبدأ بالإعداد لتحقيق صحافي عن الهجرة غير الشرعية للسوريين من مصر إلى السويد عبر البحر المتوسط، ولدي شاهدة عيان مستعدة للكلام.. أمّي.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى