صفحات الثقافةممدوح عزام

الأميرة الملعونة والمقرَّر المقدس/ ممدوح عزام

 

 

أثار أحد أبناء عمومتي، حين كنّا فتيانا، زوبعة من الذم والقدح في شخصه الذي لا يحب القراءة، ذلك أن القراءة في العرف العام مرادف عضوي للكتاب المدرسي، في مجتمع أُمي يعتبر الشرطي أرفع منصب يمكن أن يصل إليه المرء في حياته.

وتكرر عقاب ابن العم، من قبل والديه المحبطين، إلى أن تمكنا أخيراً من إرغامه على قراءة مقرراته المدرسية مقابل السماح له بحضور فيلم سينمائي مرة واحدة في الأسبوع.

وهكذا شوهد من قبل الكثيرين ممن زاروا المنزل، يجلس على شرفة العلّية، وبين يديه مقرر التاريخ، أو الجغرافية. إلى أن فاجأه ذات يوم شقيقه الأكبر، وهو غافل، وانتزع كتاب الاستظهار من بين يديه، آملا أن يسمِّع له دروسه التي يفترض أنه حفظها.

المفاجأة أنه كان يضع داخل دفتي كتابه المدرسي، سيرة الأميرة ذات الهمة، حيث كان قد قطع مسافة تزيد على نصف الحكاية الممتعة، وقد نسي كل من حوله، فلم يسمع وقع خطوات أخيه، وقبض عليه في جرم قراءة الحكاية بدلاً من المقرر.

أذكر أنه حرم من العشاء في تلك الليلة، وأن الحارة كلها سمعت بما اعتبر جناية مضادة لـ”العلم”، وعومل الفتى بازدراء من قبل المعلمين الذين سمعوا أنه يلهو بسيرة الأميرة.

لم يكن يكره القراءة، بل بالعكس تماماً، كان مولعاً بها، وقد اكتشفت في ما بعد أنه كان يدخر “خرجيته”، كي يشتري بما يتجمع منها روايات الجيب، أو سلسلة أقرأ، أو كتاب الهلال، أو سلسلة كتابي، وبفضل أحجام تلك الكتب الصغيرة، فقد كان يستطيع أن يخبئ النسخة في أي مكان لا يفكر الرقباء من العائلة التي تحتقر الرواية، في الوصول إليه.

هل كان هذا يعني احتقار الخيال في المجتمع، أم يعني فقدان البوصلة؟ كانت الثقافة العربية قد رفعت شعار العلم في مواجهة التخلف والجهل والخرافة. واستوردت الشعارات وحدها، دون أن يرتبط ذلك بنشاط اقتصادي مواز، أو تنوير عقلاني، أو تبدّلات جوهرية على أنماط الإنتاج.

كما أن التعليم نفسه اتسم بالتلقين والعشوائية في تدريس المواد المختارة. وفي سياق ذلك احتُقر الخيال الشعبي، ورُفضت الحكايات، واعتُبرت الجدّات رمزاً للتأخر، وصرنا نسمع دائماً كلاماً يصف حكاياتهن بأنها خرافة. فأحدث هذا قطيعة شاملة، منعت العرب من قراءة “ألف ليلة وليلة” وغيرها من الحكايات الشعبية.

ويزيد الأمر غرابة أن الثقافة ذاتها التي رفضت مخيّلتها الشعبية، سرعان ما هرولت لتبنيها بعد اختراقين ثقافيين كبيرين لها. الأول: هو اهتمام الغرب المتزايد بألف ليلة. والثاني: هو ترجمة رواية “مائة عام من العزلة”. الأول أعادها إلى المخيّلة المكتوبة، حيث بدأ يظهر الاهتمام بألف ليلة، وبالسير الشعبية. والثاني أعادها إلى المخيلة الشفوية، حيث بات الكتّاب العرب يعيدون ارتباطهم بقصص الجدات.

غير أن الثقافة الرسمية ظلت ترفض إدخال “ألف ليلة وليلة” إلى المقرّر. فالمقرّرات تنتمي إلى ثقافة “مفيدة” لا يجوز تدنيسها بخفّة الحكاية التي لا تلتزم بشروط التقدّم.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى