صفحات الثقافةمحمد كتيلة

أنا فلسطيني لاجئ.. أحمل تذكرة إقامة مؤقتة حتى أعود إلى بلادي لا لأعدم!


محمد كتيلة

هل أوجعك الرصاص يا صاحبي، وفي أي قلب اصابوك وأردوك قتيلاً؟ عشت وكأنك لم تعش، واختتموا بدايتك ونهايتك وكأنك ما كنت ولا كنت ولا تعرفنا عليك ….هناك ولدت يا صاحبي، ويا أخي في الشقاء والمودة، وهنا في دمشق القديمة، أكملت ولادتك إلى حد الفجيعة.

عشت في قلبين، واحد منهما فلسطينيٌ شقيٌ، صعب المراس جامح، سهل الملامح واضح، والآخر دمشقيٌ، خفيف الظل لطيفٌ، هادئ وشفيفٌ كخيال وردة… فبأي قلب أصبتَّ وبأي قلب أجهزوا على حياتك من أولها إلى آخرها، أم أن القتلة السفلة، أصابوك وأماتوك وأردوك صريعاً في الإثنين معاً بطلقة واحدة؟.

إقتحموا بيتك وداهموك بسؤال هو الأغرب إلى الآن ولا يسأل، لا في أوقات السلم ولا في زمن الحرب، ولا في أي حصار كان… من أين أنت: فقلت لهم فلسطيني ولم تكمل، ولو أكملت لانفجر الملح في دمهم وغادروك على استحياء أو من غباء السؤال، أو من الضجر، لوقعوا في فخ السؤال، وعادوا أدراجهم إلى أسيادهم وجنرالاتهم، خاسئين خائبين واجمين من شدة الخزي والعار، يلفهم الخجل تعلوهم الفضيحة… سألوك لا ليسألوك، سألوك حتى لا يسهو عنك فقد يغضب جنرال الموت، سألوك ليتذكروا أنهم قتلوك، ليخرجوك من قائمة الحياة ويستريحوا.

هل كان من الصعب عليك أن تكمل يا صاحبي الأخير لتقول: أنا فلسطيني لاجئ، أحمل تذكرة إقامة مؤقتة، أحملها في جيبي وأينما ذهبت كما أحمل قلبي في صدري المتعب… تذكرة إقامة طارئة مؤقتة، حتى أعود إلى بلادي هناك وراء الحدود، لا لأقتل هنا أو لأعدم.

وحسناً أجبت بما أجبت، لأنك لو قلت غير ذلك، وقبل أن يسرح بك الخيال، لطار بك البيت وترحمنا عليك وعلى أمك، لكنك لم تصغ إلى وجيب قلبك الدمشقي ولم تخجل، فقد تنجو من غرابة السؤال ومن يسأل، وينقذك قلبك الفلسطيني من الموت الذي لا يرحم ولا يؤجل.

بعد أن إقتحموا بيتك وفتشوا البيت، ولم يجدوا فيه غير جدران الغرف والأثاث المتواضع وأمك في صومعتها على حالها، سألوك: ماذا تفعل هنا، يجب أن تخلي البيت، فأجبت على حامض السؤال، وأرخيت العنان لحبل الصبر القصير: أنا هنا لأن هذا بيتي، وأفعل في بيتي ما أحب وما أريد وما أرغب وما أشتهي، أفعل ما يفعله سائر الناس في بيوتهم في الأحوال العادية والطارئة، إلا إذا خُسفت الأرض وابتلُعتُ أنا وبيتي، عندها لن يكون ذلك من شأني، ولن أفعل شيئاً ولن أكون … أنا هنا وسأبقى هنا، ولن أخرج من بيتي، لأنني أخاف أن أمشي في الضباب الناجم عن تدمير البيوت وإحراقها، ولا أحب أن أتنفس أرواح جيراني المنبعثة من بين الركام والخراب، ولا تلك التي تبخرت وارتفعت إلى السماء، وما أخافه أكثر لو خرجت، أن يسقط على رأسي برميل متفجر، فأضيع في زحام الموت، ولا أجد من يبكي علي، وقد أختفي ولا يبقى مني أثر، وعندها، كيف وأين سيجدني أهلي من حولي ومن أطراف المخيم، وأخوتي، كيف سيعرفون أخوتي، أولئك الذين ينتظرونني الآن على سماعة الهاتف في الطرف البعيد من الدنيا… فإن كان لا بد من الموت، فليكن هنا، قرب أمي وفي ظلالها، حيث لا أحبذ أن أحرج أهلي في البحث عني بلا جدوى، لاوقت لديهم، فهم أيضاً بحاجة لمن يتفقدهم ويبحث عنهم، وكلهم الآن يفتشون عن مأوى ومن دون توقف، ومن داخل الحصار وخارج الحصار، ومن هلاك إلى هلاك، بعد أن توقفت الحياة واغتربت وضاعت بهم السبل….. لا لا، لن أخرج من البيت، أموت هنا ولا أخرج، فالموت في البيت لن يكون أجمل لكنه أرحم ولأخف وطأة، وقد يصبح بيتي كفني.. سأبقى هنا في بيتي المؤقت، ما دمت فلسطينياً ولاجئا، ولي ما أفعله هنا، أغلي ماء البئر لأسقي أمي وكما ترون، لقد يبست وتكسرت أغصان أمالها البعيدة، ولم يبق منها إلا الجذور، أحاول قدر ما استطيع أ ن لا أخفي عنها ظلي وأن لا أختفي من حولها، فقد تموت، فكيف أذهب وإلى أين أذهب، فكوا الحصار أولاً، أوقفوا القتل وتدمير البيوت، ومن بعدها قد نرحل من هنا ولأسبابنا، وقد لا نرحل إذا ما ضاقت بنا الدنيا… قد نذهب أنا وأمي وقد لا نذهب، ومن يدري، فقد يهرع إلينا الكثير من سكان هذه الأرض المحروقة، ممن يهيمون على وجوههم في آخر الليل ورابعة النهار، أو ممن غادروا بيوتهم أوهجِّروا منها قسراً وترويعاً وقهراً، فمن سيفتح لهم الباب ؟.

ما رأيتك تبكي يا صاحبي في حياتي ولا في حياتك كلها، ولا سمعتك مرة تشتكي، ولا عرفت لو ن الدموع في عينيك، رغم كل قساوة الحياة، فهل بكيت يا أخي في لحظاتك الأخيرة؟ يا ليتني لا أعرف، لأنني حتى الآن لا أستطيع أن أكون خارج المشهد، كما أنني أفقد صوابي كلما حاولت أن أتخيل شكل وقوفك أمامهم وهم يصلونك بالرصاص، ما شكل هذا الموت وهذا الوقوف، وأنت تعرف والكل يعرف، أنك مظلوم ووحيد وأعزل، حمامة بيضاء في مواجهة الرصاص الجهنمي، فهل لكل هذا الموت من هديل، من شهقة للروح، من إستغاثة ما.. هل إستنجدت وتمسكت بالهواء أم برب السماوات والأرض، أم أنك كنت تناجيه وتسأله: لماذا خلقتني يا ربي وخلقت هذه الوحوش؟ لا أعلم شيئاً عن تلك اللحظات الرهيبة، والتي يصبح فيها المخلوق البريء، من أضعف وأخف المخلوقات على الأرض، فمن أين آتتك القوة لتموت هكذا، بريئاً ومظلوماً، أم أنك مت أكثر من مرة قبل أن تنهمر عليك الطلقات اللعينة وسيول غضب الوحوش؟ كيف لي أن لا أخاف عليك الآن منهم أكثر.. هل تصدقني يا أخي ويا إبن أمي وحبيبي ويا صاحبي، أن خوفي عليك يزداد كلما فكرت في نهايتك، ولن أدعك أبداً أن تموت إلى ما لا نهاية، وسأوصيك يا صاحبي بأن لا تغفر لي لو نسيت أن أخاف عليك، فأنا أعرفهم قبلك يا أخي وتذوقت مراراً ما يشبه هذا الموت وبالتقسيط ولسنوات طوال عجاف… أخاف عليك الآن واليوم وفي الغد وما بعد هذا الطوفان، ولماذا أخاف عليك وأنا أعرف أين أنت الآن، لأنني أخشى عليك من النسيان، وكم أخاف أن تبقى لوحدك الشاهد والشهيد ومن يشهد….فلتذهبن الآن من غير موت وليكن مصرعك في الدنيا منفاك في الآخرة، وما هي إلا طريقتنا الوحيدة لنلتقي أو لنتلو عليك وعلينا سورة الوداع من كتاب المنفى الفلسطيني.

كاتب فلسطيني يقيم في كندا

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك رداً على شامي أصيل إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى