صفحات العالم

أن تأكل من صحن السيد الرئيس

 


وحيد الطويلة

فى منتصف التسعينات هبطت إلى سورية حافظ الأسد، شعرت أننى فى الستينات، كانت أغانى مارسيل خليفة تزحف علينا من المحلات إلى قلب الشارع، وكانت صور حافظ الأسد مكتظة بالشوارع، لا تعبر صورة حتى تجد أختها، لتشعر أن الرئيس معك فى كل خطوة، تتابعه ويحفظك، بينما لافتة تتكرر فى كل مكان عليها عبارة مقدسة: خالدان إلى الأبد السادس من تشرين وحافظ الأسد.

كان وزير الإعلام فى منتصف الثمانينات من القرن الماضى وأظن اسمه أحمد إسكندر قد اخترع طقوس عبادة الأسد الأب ووضع لها البروتوكول والأغانى بالمشية والوقفة، صك عبارة السيد الرئيس وصارت هى المعتمدة المنزلة، ولم يجرؤ أحد بعدها أن يذكر اسم الأسد مسبوقا بكلمة الرئيس فقط.

كنت فى سورية قبل أن يموت باسل نجل السيد الرئيس بوقت قصير، قرأت مقالا فى مجلة الحوادث اللبنانية يريد من سطره الأول أن يقول لنا شيئاً واحداً، أن باسل الأسد هو المرشح الذى جادت به السماء الرحيمة على أم رأسنا ليحفظ لنا القيادة القطرية بعد أن يودعنا القائد الخالد إلى الأبد حافظ الأسد إلى ربه، بعد أن تفنى نصف الكرة الأرضية، متكئا فى رأيه على سبب واحد كاف لإلجامنا – رغم وجود أسباب كثيرة من وجهة نظرة الفاتكة – هو أن الابن سر أبيه.

رحل باسل، أخذ سره معه وقبل أربعينه طلع علينا نفس الكاتب فى نفس المجلة، يعدد لنا الأسباب التى جعلت السماء تغير أقدراها، وأنها كانت رحيمة بنا، أذكى منا جميعا، حين خبأت لنا سر الأسرار واختارت لنا بشار الأسد، خير خلف لخير سلف، وأفحمنا بالقول أن السبب الرئيسى هو أن الابن سر أبيه.

كان الأسد الكبير يحتضر واستطاعت إسرائيل أن تحصل على عينة من بوله فى قلب عاصمة عربية كان فيها، وانتهت إلى أن وقته اقترب، اللافت فى الأمر أن ذاكرتى أسفعتنى واكتشفت أن كاتب المقالين شخص واحد هو بهجت سليمان، عرفت فيما بعد أنه يشغل منصباً كبيراً فى جهاز أمن الدولة فى سوريا.

أمر طبيعى فى سورية.. لم لا؟ نجاح العطار أبلغت عن أخويها، فتبوأت معقد وزير الثقافة لأربع وعشرين عاماً، وعندما اكتشفوا أن المدة غير غير كافية مقابل خدمتها، اخترعوا لها منصب نائب الرئيس للشئون الثقافية، ولم أكن أعرف أن الشئون الثقافية تتغير معانيها فى بلادنا.

رحل السيد الرئيس وتم سلق الدستور فى ساعات، وبشرنا الكاتب الكبير جهاد الخازن بالقول أن الأسد إصلاحى يذهب بسيارته مع ضيوفه إلى المطاعم، تسمع من آخرين أن الرئيس كان يتناول عشاءه مع أسرته على طاولة بجانبهم فى نفس المطعم، ويدفع حسابه بنفسه، ويترك بقشيشاً أيضا.

 

قالت فنانة تشكيلية من النوع الغليظ وهى تتمعشق، إنها كانت فى إحدى الحفلات وجاء الرئيس واختار طاولتها، وأنه أكل قليلا من صحنه ثم أستأذن، وأنها – يا لعدالة السماء وحسد الحاسدين – أكلت من صحنه بعد انصرافه، وأنه متواضع، وطعم الأكل أحلى من طبقه.

كدت أجن، إذا كان الرئيس بكل هذه المواصفات فلماذا تمتلئ السجون فى سوريا بأصدقائنا؟.. إذا كان كذلك فلماذا لا يستجيب لنداءتنا صباح مساء؟.. لماذا لا يتحمل رياض الترك الذى قضى ثلاثة أرباع عمره فى السجون، التى قضت على السبعين من أعوامه.

جاءنا الرد على شكل نكتة سمجة، أن سورية لا تضم بين جنبات سجونها سجيناً واحدا للرأى، وإنما تضم فقط سجناء الرأى الآخر.

قاد رفعت الأسد فى الثمانينات تجريدة التأديب بالطائرات والدبابات فى مشهد لم يؤثر حتى عن إسرائيل وأمريكا، ولسنوات تسمع عن مذبحة حماة فى الخارج، ولا يجرؤ أى فرد فى سورية أن يأتى على ذكرها إلا بالخونة والشراذم والإخوانجية.

عندما شم النظام رائحة المظاهرات بدأت كتائبه فى إطلاق شعارها الشهير: إما أن تكون مع المشروع الصهيونى، وإما أن تكون ضده.

لسنوات اكتوينا بهذا الكلام الفارغ، بالنضال باللغة من هذا النظام الذى لم يتورع حتى عن اتهام ملائكة السماء، هذا إذا كان يؤمن بأن هناك سماء غير سمائه.

لسنوات أخذنا هذا النظام نحو الهتاف الحنجورى والممانعة الفارغة، ذلك النظام الذى حاول لسنوات أن يطوى القضية الفلسطينية تحت إبطه، ليفاوض الأمريكان بها قبل الإسرائيليين باحثاً عن دور إقليمى ومخترعاً له، وترددت مقولة إذا كانت الحرب لا تنعقد بغير مصر، فالسلام لا يتم بغير سورية، وأكل لبنان بخيره ونسائه تحت شعار وحدة المسار.

وبدأت المظاهرات، واعتبر الأسد بسخرية أن دعاوى الإصلاح لا يجب أن تكون ظاهرة أو عدوى أو حتى ضرورية.

.. وبدأت المعركة..

لا كاميرا واحدة فى أية مدينة، لا محطة تليفزيون حتى تنقل ما تفترى به العصابات المسلحة التى تريد الشر بالوطن الصامد، لا صحفى واحد محايد أو نصف محايد، لا شىء سوى دبابات النظام وجيشه الذى يقتل شعبه وإعلامه البائس، الذى يسوغ القتل، والمحطات كلها تضطر لأن تقول عن الأفلام التى صورها الناشطون أو المتظاهرون أنها غير مؤكدة المصدر بدعوى المهنية.

والتليفزيون السورى يذيع برامجا عن شهداء الوطن، أولئك الجنود الذين رفضوا أن يقتلوا أبناء جلدتهم، فقتلتهم كتائب ماهر الأسد حتى لا ينتشر وباء رفض الأوامر، وحتى يكونوا عبرة لغيرهم، ولا بأس بالاستفادة منهم شهداء على شاشة التليفزيون السورى.

مذابح درعا والبيضة وبانياس وحمص، والنظام يقول إن مندسين أطلقوا النار على قوات الأمن فمات المتظاهرين، نكتة سخيفة لا يصنعها إلا هكذا، نظام ولغ فى دم أبنائه.

ومذيعة قناة الدنيا التى تتبع النظام تبشر الجميع بعد غزوة درعا، بأنه لم يعد هناك شاهد عيان واحد فيها، بعد أن أصبح الرجال بالطبع إما شهداء وإما معتقلين، ولا تليفون ماركة الثريا ليرسل أخباراً إلى العالم بعد أن قطعوا الكهرباء، وفرغت بطارياته، والنظام العالمى الجديد ينتظر حتى يكمل الملاكم جولته الأولى والثانية، فإن قٌتل الجميع دعوا إلى التهدئة والإصلاح، وإن لم يستطع فقد يستحون ويقولون إن النظام فاقد لشرعيته، والجيش سيغادر إلى محافظة أخرى لملاحقة الشراذم الذين يقفون مع المشروع الصهيونى، ومثقفو سوريا بعضهم على شاشة قنوات النظام يقولون أن الوطن خط أحمر، والدماء التى تسيل فداؤه، ولا بأس أن يعتبرهم الأسد شهداء فيما بعد، والنصف الآخر يأكلون من صحن الرئيس، الذى لم يعد يتسع إلا للدم، رائحة الدم تطفح منه، والمثقفون يقولون إنه كاتشب من النوع الرخيص.

نظام الأسد يستغفلنا جميعاً، يظننا صغاراً أو صاغرين أو يجب أن نكون، ومن يفتح فمه فهو عميل مدجن مع المشروع الأمريكى وباقى التهم التافهة.

وداوود عبد السيد عندما صنع فيلمة أرض الخوف، كان يريد أن يسمية جمهورية الخوف.

وأغانى مارسيل خليفة حلت محلها أغانى الدم.

وأنا.. وأنا أكاد لا أنام.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى