صفحات الثقافة

أن تفقد مسقط الرأس مرغماً/ خليل صويلح

 

 

في حال نجحت لعبة الخرائط الجديدة، في خلخلة تضاريس البلاد، فإن شخصاً مثلي ولد في «ريف الجزيرة السورية»، سيجد نفسه مرغماً بلا «مسقط رأس». وتالياً فإن عبارة «عاد إلى مسقط رأسه» التي تُستخدم في السيرة، ستكون عصيّة على التحقّق. كنت فقدت الأمل بزيارة أهلي بعد غزو كتائب الرايات السود المنطقة، وفرض تعاليمهم الصارمة على الأهالي بما لا أستطيع تنفيذه، بالإضافة إلى صعوبة عبور نحو ألف كيلو متر من الحواجز والكتائب المسلّحة وقطّاع الطرق، تفصل دمشق عن الحسكة، من دون مخاطرة.

باندحار البرابرة خارج حدود المدينة وريفها، استعدت مسقط رأسي ذهنياً، لكنني لم أهنأ طويلاً بهذه الفكرة. هجوم الأكراد على المدينة و «تحريرها؟» أربكني مجدّداً، من دون أن أفقد الأمل تماماً هذه المرّة، مستنجداً بذاكرة مضادة تذهب بعيداً نحو المرحلة التي كان يكتب فيها سليم بركات «القامشلي» في جندبه الحديدي، قبل أن يصححها في كتاباته اللاحقة إلى «قامشلو»! أفضّل الأولى على الثانية تلك التي تعني بالتركية «أرض القصب»، كما سوف استعيد وجوه الشعبة الثانية أدبي في «ثانوية أبي تمّام»، وذلك الخليط من الإثنيات المختلطة: من عرب، وسريان، وأكراد، وايزيديين، وآشوريين، وأرمن.

لا أعلم اليوم أين انتهت الدروب بأصدقاء الأمس: كخوشابا الآشوري، ويعقوب المسيحي، وعزو الكردي، وجاسم البدوي، وآخرين، لكن ما أتذكّره جيّداً هو أن مدرّب حصة الفتوة البعثي، كان يضطهدنا جميعاً بصرف النظر عن أصولنا، ولطالما تجاورنا في الباحة في تنفيذ عقوبة «الرقصة الروسية». كان «مقهى حيدو رزقو» الآشوري بكؤوس شايه الثقيل محطتنا الثانية، بعد أن نتناول وجبة الكباب في «مطعم طاووس» الكردي، أما دكان «توفيق طالاني» المسيحي لبيع الأقمشة، فكان عنواني البريدي لفترةٍ طويلة. في ذلك الزمن السعيد صفقنا جميعاً لبهلوانيات «جاك خابوط» وهو يتمدد تحت عجلات سيارة ثم ينهض سليماً، وكيف كانت «عطية» تسدد ضرباتها إلى مرمى الخصم في مباريات كرة السلة للإناث. وستكون رحلاتنا المدرسية الاستثنائية إلى «رأس العين» لزيارة نبع المياه الكبريتية، ثم قصر «أصفر ونجّار»، وهما مزارعان يتحدران من «ماردين» كانا أول من جلب زراعة القطن إلى المنطقة قبل أن تطيحهما قرارات التأميم الاشتراكية. بعدها سيجفُّ نهر الخابور، وستتسع مساحات التصحّر في القرى، وستذبل عناقيد العنب في كروم «تل تمر» لنفتقد النبيذ الآشوري، وستدمّر الكنائس بمفخخات البرابرة الجدّد، وسوف يهاجر معظم المسيحيين من القامشلي التي كانت يوماً ما «باريس الصغرى». الآن فقط سأكتشف أن هذه المنطقة كردية، وينبغي تحريرها وتهجير الأقوام الأخرى. ما هذا العبث؟ أيها الكردي دع لي مسقط رأسي فقط، فأنا لست وافداً من جبال طوروس إثر مجزرة ارتكبها الآخرون بحقك، أنا من احتضنك ضيفاً ووليفاً و «كريفاً» جرياً على أعراف العشائر المحليّة. مائة سنة لا تصنع تاريخاً أو أمة، والبرغل الكردي الشهي لا يكتمل طعمه من دون مزجه بالسمن العربي. أبي كان يرفض حصاد موسم قمحه إلى أن تصل حصّادة صديقه الكردي «شيركو»، وأعراسنا البدوية لا تشتعل إلا بموسيقى الدبكة الكردية. لا تتوهم دولةً محاطة بالأعداء من كل جهاتها، فكّر بالمواطنة أولاً، وبأن نتقاسم معاً القمح والقطن والنفط وعناق الأشقاء، مثلما كنّا نتقاسم النكبات والإهمال والضيم وطين كراجات الأرياف. من حقك أن تستعيد حنجرتك بالغناء الكردي، وأن تكتب بالكردية، ولكن لا تطعن هذه الجغرافيا بالميثيولوجيا المنسيّة. كنْ ذئباً ولا تكن ضبعاً، في الوقت الضائع للخرائط، فأميركا لا تُرضع أحداً من ثدييها وقت العطش. لا أريد لأصدقائي الأكراد أن ينجروا وراء الأوهام في بناء إمبراطورية متخيّلة، فالذخيرة الأميركية في تحرير «الأراضي المغتصبة» لا تُباع بالمجان، وستنفد يوماً، كما أنها ليست من أجل الحق في تقرير المصير. أخشى أن يكون هذا «الزحف المقدس» نحو»أرض الميعاد» المشتهاة، مصيدة لخنق الأنفاس، ودفن الألفة، وإيقاظ الخصومة، وذلك بتوجيه فوهات البنادق نحو الشمال بدلاً من الجنوب، لإزاحة العبء عن»أرض ميعاد» أخرى، بحروبٍ طويلة لن تبقي- في نهاية المطاف – أحداً، كي يرفع علماً على سارية.

آلة البزق بين أنامل العازف الكردي، تحتاج إلى ربابة الشاعر البدوي الجوّال كي يكتمل شجن الأغنية، بحنجرة إبراهيم كيفو السرياني، كذلك لن تكتمل حكاية «ممو زين» من دون سماع «فراقيات عبد الله الفاضل»، ومثلما اقتسمنا الحنطة والتمر واللبن والنبيذ والعجاج في الأمس، دعونا نتقاسم مسقط الرأس أيضاً، من دون رطانة الحواجز في مداخل المدن.

(روائي سوري)

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى