صفحات المستقبل

أن نثور بلا ثورة/ روجيه عوطة

 

 

لم يعد خافياً على أحد أن الخطاب، الأكثر ذيوعاً عن الثورة في سوريا، ومحاذاةً لها، بدأ يضعف، وينهار. لذا، لا يتردد في ستر مأزقه بإعلان فشلها، أو بالثبات في تفجع حاد على المفقود من أوطان ومجتمعات ودول. والحال، أن التحسر هذا، كان مسبوقاً بانشراحٍ في غير حينه، كما أنه قد يتضاعف ليصبح توبة إلى نظام البعث. وعندها، يكون قد انحسر بالكامل، وعاد إلى الحضن السلطوي، الذي انفصل عنه، من دون أن ينشق عن لغته وسلوكه. بل أنه، على خلاف ذلك، استمد مقولاته الأساسية منه، ولم ينتقده سوى بالضدية، أو العكسية. فلأن خطاب النظام ممانع، صار لاممانعاً، ولأن النظام آحادي، صار ثنائياً. وعلى هذا النحو، تقدم نحو الثورة، طالباً من خائضيها أن يحققوا إمكانه، الذي استنفدته الأحداث، وبات يشكل عائقاً أمام المتحولين في سياقاتها.

إمكان النقص

تنطلق اللاممانعة من وصف الواقع الجديد، الذي أنتجته الثورة، بأنه ناقص، نظراً إلى أنه لا يناسب صورته الحاضرة مسبقاً في خطابها. بالتالي، لا بد من سدّ هذا النقص بإمكانٍ غير موجود في الواقع، بل خارجه، أو بالأحرى في مثاله. وعلى السوريين أن ينفذوه، من أجل أن “يحققوا أهداف الثورة”، التي يحددها الخطاب بكلياتٍ جامدة، مثل الحرية والديموقراطية والعدالة، بلا أن يعطفها على الأحداث، أو يربطها بها. على هذا الأساس، تبدو الثورة، في هذا الخطاب، كأنها بحث عن ذلك الإمكان، أي تفتيش عن الناقص، الذي قد يكون الدولة الحديثة، أو اللاطائفية، أو الفردية إلخ. فمهما بحث السوريون لن يجدوه، وذلك، ليس لأن بحثهم ضعيف، بل لأنه يفتشون عن إمكان متخيل، في حين أن في مقدورهم أن يصنعوا إمكاناتهم، التي تشكل جزءاً من واقعهم نفسه، فلا يستندون إلى مثال، أو متخيل خارجي، عليهم “تحقيقه”.

فالواقع، بعد اندلاع الثورة، لا ينضبط أو يتحدد بحسب معايير اللاممانعة، أي بثنائياتها الضخمة أو الضئيلة، نظراً إلى أن أحداثه تتكاثر، تتسارع وتتباطأ. وكل حدث منها يخلق مستويات، وسياقات مجهولة، مثلما أنه يضع السوريين أمام مُحالات جديدة، يرتكزون عليها، من أجل أن يتفاعلوا مع المتغيرات، ويبدعوا إمكاناتهم، التي لا تتألف بالنقص بتاتاً. فالواقع غير ناقص، وأحداثه تسأل خائضيها أن يذهبوا إليها، من دون الرجوع إلى متخيل أو مثالي خارجي، يحاولون “تحقيقه”، أو إسقاطه السلبي على آنياتهاز بل بالإنتقال من الإمكان إلى الحالي، وذلك بمسار واقعي ينطوي عليهما. فبدل “تحقيق” الإمكان، يجري إتمامه، وبدل إغلاقه على نقص، تجري صناعته في الواقع، الذي يحضر داخله.

كسرات وسياقات

فالثورة، كإنفجار، حطمت “الأبد”، فتّتته إلى كسرات، تتدفق وتسيل في سياقات غزيرة. إلا أن خطاب اللاممانعة، حاول تقييدها بمسارات ثنائية، إذ يتركها تجري من ناحية، ويضبطها من ناحية أخرى. وهذا ما تعبر عنه إحدى مقولاته، ومفادها أن الثورة اندلعت لتؤسس قوانين وضوابط، أو لتبني قواعد ومعايير جديدة. لكنها، في الواقع، وبالعطف على الأحداث، لا يمكن الأخذ بهذه المقولة. ليس لأن الثورة تهدم وتطيح فقط، على ما يردد المقلب الآخر من خطاب اللاممانعة. بل لأن تلك الأفعال لا تنتجها الثورة بالأصل، بل أحداث واقعها وسياقاته، الذي يغير معاني الهدم والبناء، والإطاحة والتأسيس.

إذ كرست اللاممانعة مقولات عن الثورة، أدت بها، في النهاية، إلى إعلان فشلها، أو التشاؤم من مآلتها. وذلك لأنها انطلقت من صورة ناقصة عن واقعها، كما استندت إلى معايير هوياتية مثالية، أو إيديولوجية، لتصنيف خائضيه سلبياً وإيجابياً، بين ريفيين ومدينيين، متطرفين ومعتدلين، إلخ.

مع العلم، أن الرد المباشر، الذي يصدر عن الجانب الثاني من الخطاب، يتقيد بالصورة الناقصة نفسها، والمعايير المثالية ذاتها. ففي حال قال أحدهم أن “الثورة فشلت”، يرد عليه آخر بأن “الثورة انتصرت”. أو في حال عبّر عن “تشاؤمه”، يقابله الآخر بـ”تفاؤله”. فكل منهما يقف ضد الثاني، يتبادلان المقولات المتعارضة. وفي ذلك الوقت، يغضان النظر عن واقع مواجهة السلطات البعثية، الذي لم يعد متعلقاً بالثورة، والتي جوهرها خطاب اللاممانعة، واضعاً إياها على طرف مناقض للنظام. ذاك، أن الثنائية الأساسية، التي يتحرك خطاب اللاممانعة وفقها، هي النظام/الثورة. طرفها الأول، يبيد السوريين ويسحقهم. والطرف الثاني، يحددهم، ويقيدهم، وبالتالي، يعيق تحولهم إلى ثوريين.

إحتجاز التحول

في هذا المطاف، يصح القول بأن اللاممانعة حولت الثورة إلى مريض، إلى شخص ناقص، احتجزته في غرفة، بحجة العناية به، ووقفت تتفرج على الواقع المختلف الذي شيده في الخارج. وكلما ظهر حدث جديد، لا تنظر في كيفية تدبيره، والتفاعل معه لمواجهة النظام، بل إنها تحدق في جسم المريض. فإما يذكرها ذلك بجسم آخر، فتعقد المقارنة بين “القضيتين الفلسطينية والسورية” مثلاً، أو أنها تتفجع على احتضاره، أو تردد أنه بخير.

إلا أن الأخطر، في هذا الفعل، ليس احتجاز الثورة، كصورة ناقصة من خارجها، بل هو اعتقال السوريين في غرفة المريض نفسه، ومنعهم من الخروج إلى واقعهم، ومحاولة إقناعهم بنقائصه، وضرورة استمداد قوتهم من جسم الثورة. فبعدما انفصل خطاب اللاممانعة عن النظام، أو بالأحرى فُطم عنه، راح يحدد أحداث الثورة، ويضبط واقعها، كي يحولها إلى نظام جديد، ينتمي إليه، تعويضاً عن ذاك الذي ابتعد عنه.

فالنقص، الذي يشير إليه الخطاب في جسم الثورة، أو بالأحرى في واقعها، هو نفسه غياب النظام، بحيث أنه يرغب في سدّه، أي في عودة “الأبد”، ولو بأشكال متفاوتة. بالتالي، ليست إمكانات اللاممانعة سوى هذيانات المفطوم عن نظام الممانعة، التي لم تعد تعيق، بعد الأحداث الجديدة بين سوريا والعراق، انفصال الناس عن الأنظمة فحسب، بل باتت تؤخر انتقالهم من الإنفصال إلى الإنشقاق، كما لم تعد تعيق تحولهم إلى هذيانيين، بل تؤجل ذهابهم من الهذيان إلى الإنفصام.

في النتيجة، الممانعة اعتقلت السوريين بخطاب شمولي. الآن، اللاممانعة، تحدد الناس، وتضبط تحركاتهم، وصناعتهم الأحداث، بخطاب ثنائي، جوهَر ثورتهم، واحتجزهم في توصيفها الناقص. كيف جرى ذلك؟ وكيف للممكن الواقعي أن يخرج السوريون من الثورة ووصفها، ليصيروا ثوريين، لا كي يعودوا إلى نظام البعث، أو إلى الثورة ونظامها اللاممانع؟ فالثورة انفجرت في آذار 2011، أنتجت واقعاً جديداً، وأحداثاً مختلفة، لا يعين سردها التأريخي، بحسب روزنامة خارجية، على إدراكها. كما لا يساعد الوقوف على خريطتها الجغرافية، بالإستناد إلى أرض “البعث”، على فهمها. ثمة إمكانات أخرى، موجودة في الواقع، لا بد من الكشف عنها، كي يظل السوريون قادرين على التحول إلى ثوريين. وقبل ذلك، على الخروج من الثورة نفسها، أي كي يثوروا بلا يهجسوا في مقولة الثورة.

يبقى أن هذه السلسلة تستند إلى مواد عديدة، منها نصوص ومقالات كتبها صاحب هذه السطور في السابق، كما كتبها أصدقاء ورفاق وزملاء كُثر بين العامين 2011 و2014، ومنها فيديوهات وأغان ولافتات وصور ولوحات، سُجلت أو خُطّت أو التقطت أو رُسمت في الفترة عينها. على أن الحلقات الآتية، والتي حاولت هذه التوطئة الإشارة إلى منقودها الأساسي – أي ثنائيات اللاممانعة – ستتطرق إلى مواضيع شتى، بتجريب إستفهامي، يبتعد من طرق اللاممانعة، صاحبة الأجوبة الجاهزة، والتي لا تخرجها إلى العلن سوى أسئلة النظام، لأنها، بالأصل، تسكن فيها.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى