سلامة كيلةصفحات سورية

أوراق بنما/ سلامة كيلة

 

 

 

أصبح الحديث عن أوراق بنما مسترسلاً، بعد أن جرى كشف الشركات التي تعمل في “ملاذات آمنة”، والحسابات المصرفية التي تختبئ في هذه الملاذات. والأرقام المتداولة مهولة، على الرغم من أن المعلومات المنشورة أولية، حيث ظهر أن هناك كثيرين من كبار السياسيين والزعماء والرؤساء ورجال الأعمال ممن يخفي أرصدته، أو نشاطه التجاري عبر شركات مسجلة في “الأوف شور”. وبهذا طاولت الفضائح سياسيين ورجال أعمالٍ كثيرين، وظهر أن جزءاً مهماً من الاقتصاد العالمي “يعمل في الخفاء”، حيث هناك تريليونات الدولارات توظف تحت هذه “القوقعة” التي هي “الملاذات الآمنة”.

التهرب الضريبي جزء من العملية، وربما كان الجزء الأضعف. ومشاركة رأسماليي البلدان الإمبريالية ربما تكون الأقل. وكما يبدو من الأسماء المفرج عنها أن الأكثر ميلاً إلى هذه الممارسة سياسيون وزعماء نهبوا دولهم، وبالتالي، كان من الطبيعي أن تُخفى الأموال التي نهبوها، بالضبط لأنها أموال نهب. وظهرت في القائمة الأولية أسماء عربية عديدة من بشار الأسد إلى علي عبدالله صالح إلى حسني مبارك، ومسؤولين في الجزائر والعراق وغيرهما.

كنا نعرف كيف نهب “القطاع العام”، وكيف عملت الفئات التي حكمت على نهب الثروات الوطنية وتهريب الأموال إلى الخارج. وكنا نعرف أن الأموال تهرّب إلى أماكن مجهولة، لكنها تهرّب بفعل سيطرة المهربين على السلطة، وفي ظل حكم استبدادي. وربما لم نكن نعرف المبالغ التي نهبت، على الرغم من أننا لمسنا كيف انهار الاقتصاد، وكيف سيطر “رجال أعمال جدد”، هم أقرباء رجالات السلطة الأساسيين، على الاقتصاد، بعد أن فُرضت اللبرلة، فقد عملت الفئات التي سيطرت على السلطة على نهب القطاع العام من خلال “السرقة”، والسمسرة، والفساد. ومن ثم تحوّلت إلى “رجال أعمال جدد”، سرعان ما سيطروا على الاقتصاد، بعد أن أقرّت السلطة الخصخصة. وفي هذه العملية، نُهب القطاع العام، ونهبت الديون التي قُدّمت لمعالجة وهم “عجز الميزانية”، فتراكمت على الشعوب ديون كبيرة، وفُرض عليهم دفع فوائد الديون وأقساطها، ولا زالت الديون ضخمة.

كانت هذه العملية بحاجة إلى “ملاذاتٍ آمنة” لكي تخفي النهب هذا، ولكي لا يُعرف الذين سرقوا ونهبوا، وبالتالي، لكي يراكم هؤلاء مليارات الدولارات نتيجة موقعهم السلطوي. هذه عملية طاولت البلدان العربية، كما طاولت بلداناً كثيرة، وشكلت عملية نهب ضخمة لاقتصاداتٍ كانت تحدّد اقتصادات نامية، وبعد أن نشطت الدولة، بوصفها رب عمل، من أجل تحقيق التطور ومراكمة الرأسمال.

وإذا كانت كل أوراق بنما تهم في البحث الذي يُظهر كيف تحول الاقتصاد الرأسمالي إلى اقتصاد مافياوي، فإن ما يهمنا أكثر هو الأرقام التي تتعلق بنهب مجتمعاتنا، بالضبط لكي نعرف المبالغ التي نهبت ومن نهبها. فقد أُفقرنا بالضبط نتيجة هذه العملية التي تعلقت باتخاذ الاستبداد غطاءً لممارسة عملية نهب فظيعة، جعلت بضعة أفراد مليارديرات هرّبوا أموالهم إلى الخارج، ونشطوا تحت مسميات “وهمية” وبحماية الملاذات الآمنة.

ربما نستطيع اليوم توثيق ما نهب من مجتمعاتنا، وكشف كل الذين نهبوا خلال عقود طويلة، وبالأسماء. لكن، يجب أن يكون واضحاً أن الملاذات الآمنة من صنع الرأسمالية، وأن الرأسمالية نفسها قامت بالنهب، وتشجع عليه، وتريد أن تنزح ثروات الشعوب إلى بلدانها، وأن تستخدمها هي لمصلحتها. وطابع الرأسمالية الراهن، القائم على أساس المضاربات المالية والنهب والسرقة، يشجّع على ظاهرة الملاذات الآمنة، ويحمي المافيات التي نهبت وتنهب الشعوب، ويحتضن الأموال التي تهرّب من الأطراف. بالتالي، نستطيع القول إن الكشف عن الملاذات الآمنة، وعن النشاط الذي يجري فيها، يوضح طبيعة الرأسمالية الراهنة، كرأسمالية مافياوية أصلاً، جوهر نشاطها هو المضاربات والنهب.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى