صفحات الثقافةفرج بيرقدار

أوروبا.. قليلاً من الأصول يا أصيلة!*

 


فرج بيرقدار

عزيزتي أوروبا! أيتها العجوز المقامِرة المتهورة المتوجِّسة الأنانيَّة والبخيلة حتى على نفسها.

آمل أن تعذري صراحتي في توصيفك بكل ما سبق من صفات لم أكن أتمنَّاها لك أنتِ التي ما زلتِ صبية في قراءاتي وذاكرتي وأحلامي.

ما الذي حدث لكِ حتى اختلّتْ موازينك وأعرافك بعد سبعين أو ثمانين عاماً على انتهاء احتلالكِ الرحيم لبلاد العرب الذين أنا منهم؟!

سمَّيتُه احتلالاً رحيماً لأني من جهة أراه كذلك حقاً (رغم فظائعه)، وذلك بالمقارنة مع الاحتلالات اللاحقة التي شهدتها البلدان العربية بعد الاستقلال على أيدي طغاتها المحلّيّين، ولأني من جهة أخرى أرغب في ردَّ الجميل للباحث والمؤرِّخ الفرنسي غوستاف لوبون الذي حاول إنصافنا (رغم فظائعنا) عندما قال: لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب.

هرمتِ يا عزيزتي كثيراً خلال تلك العقود، وقد اتضح ذلك أكثر وبصورة دراماتيكية متسارعة خلال عشرين السنة الماضية!

هل السبب هو تعبكِ، أم استرخاؤك، أم إغراءات الاطمئنان واللعب الحرّ والمكشوف بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أم أمريكا التي حاولت وتحاول بصلافة أو بيأس ملءَ الفراغ بمفردها؟

أنتِ الآن مَنْ وماذا وإلى أين؟

أسئلة كثيرة تحرق لساني، وكان يتوجب عليك توجيهها لنفسك، قبل أن أوجِّهها أنا إلى حضرتك التي ما زالت محترمة عندي رغم كلِّ شيء.

أجبانة أنتِ الآن أمام شعوبكِ؟!

ألم يعد يهمّكِ أن تدافعي عن مصالحهم؟

لماذا لا تصارحينهم بما تفعلين وبما تنوين؟

لماذا يزداد غموضك وتكثر أسراركِ عاماً بعد عام؟!

في الحقيقة أخشى أن يكون الأمر أبعد من الجبن. أخشى أن يكون تنصّلاً من الوعود وانسحاباً من المسؤولية وانقلاباً كاملاً على الذات؟!

هل تنازلتِ سيدتي عن أحلامك الكونيّة التي طالما تباهيت بها حضارياً وتنويرياً وكنتِ على حق؟

هل تخلَّيتِ عن دوركِ العالمي حتى في الدفاع عن الديموقراطية وحقوق الإنسان وأنت راعيتها الأولى منذ الثورة الفرنسية وحتى وقت قريب، أعني قبل ريغان وكلينتون وبوش وأوباما وما لا أدري؟!

كم كان بودّي لو أسحب أوباما إلى شاطئ آخر، ولكنْ للأمنيات سبيل وللوقائع سبيل مغاير.

فأمريكا دولة ومؤسسات وتروستات ومصالح، لا يستطيع أوباما أوغيره تغييرها ببساطة مهما حسنت النيات، وأيضاً ليس في تاريخ أمريكا، من عراقة في إرثها الفلسفي والأخلاقي والثقافي، ما يكفي أو يساعد على التغيير .

ولكن دعيني من أمريكا الآن.

فرنسا.. وهي ضلع أصيل من ضلوعك يا سيّدتي، برّأت الثائر السوري إبراهيم هنانو من تهمته في قيادة ثورته المسلحة ضدها، حين كانت فرنسا تحتلّ بلدي سورية، في حين لم تبرّئ السلطات السورية الديكتاتورية الشمولية ‘ حضرتي’ وآلافاً مثلي من تهمة بسيطة ومسالمة تتعلق بحرية الرأي وأحياناً بحرية الصمت!

هكذا كانت فرنسا في تلك الأيام!

يا لتلك الأيام!

تُرى لو أعادت فرنسا الآن محاكمة إبراهيم هنانو فما الذي يمكن أن يحدث؟

لست جازماً في الإجابة، وإن كنت أجدني أميل إلى الاعتقاد أن فرنسا الآن يمكن أن تتخذ حكماً قاسياً ضده، بل وربما ترسله إلى مكان مجهول، أو تحيله إلى أجهزة سرية داخل فرنسا أو خارجها، وربما تسلِّمه إلى النظام السوري ليتعامل معه، بخبرته القمعية المعهودة والموثوقة، نيابة عن فرنسا!

في الحقيقة ما قلته عن فرنسا يمكن قوله بدرجة أكثر أو أقل عن معظم البلدان الأوروبية.

هل أصبحت ديكتاتورياتنا في الشرق نموذجكِ المفضّل؟!

أوشك أن أومن بالله والشيطان في اللحظة نفسها، فهل تساعدينني يا أوروبا في اختيار أحدهما، أو في أن تطرحي عليَّ وعلى نفسكِ خياراً ثالثاً؟

عزيزتي أوروبا.. أيتها العجوز المسكينة المتصابية!

غربكِ يتهالك منذ قرابة عشرين عاماً، وها أنتِ الآن تمعنين في تهالكه أكثر فأكثر، بل وتحاولين دفع شمالكِ الاسكندينافي إلى التهالك أيضاً، لماذا؟!

أهي قوانين وإملاءات العولمة الوحشية ما يدفعك إلى ذلك؟

حماكِ الله من كل مكروه عَوْلَميّ وحشيّ أو إسلاميّ متطرف، وحماكِ الله من نفسكِ.

في الواقع ثمة عولمة وحشية وعولمة إنسانية، فأين أنت من الاثنتين؟

أتذكّر الآن مبادئ الثورة الفرنسية وأبكي.

أتذكّر الآن ألمانيا بعد اندحار هتلر وأبكي.

أتذكّر السويد قبل اغتيال أولف بالما وأبكي.

لا أبكي على ما كانوه إلا مقارنةً بما هم عليه الآن، وبما بات واضحاً من صورة المستقبل.

إن المجتمع البشري اليوم، يتأرجح فوق هوَّة سحيقة، تفصل ما بين تقدمه التكنولوجي وتخلفه الأخلاقي.

ثقب الأوزون في الأخلاق والسياسة أخطر مما هو في الطبيعة.

كانت الظروف في عونك أيتها العجوز التي لا تخجل من مراوغاتها والتفافاتها على الأخلاق والقوانين .. لا تخجل حتى من تطاولها على مستحقات أطفالها ومرضاها ومتقاعديها، وللأسف يبدو أنها لا تخجل من المستقبل أيضا!ً

إلى أين يا أوروبا؟!

تلجلجتْ بكِ السبلُ يا عزيزتي إلى أن لم تعودي أنتِ نفسكِ.

أنظري إلى لعنة ما يحدث لفقرائك واللاجئين من قضم متدرِّج، ولكنه شره ودؤوب، لحقوقهم ومكاسبهم وضماناتهم!

ستأتيك من اللاجئين أمواج فضّاحة لا سبيل إلى ردِّها أو التعامل معها وأنت السبب.

كان يمكنك بأقل من نصف آلاف المليارات التي صرفتها على حروب خاسرة، منفردة أو بالتشارك مع أمريكا، أن تتجنّبي تلك الهجرات، وتجنِّبي أصحابها ويلات المنافي. بل كان يكفي أن لا تخترعي طغاتنا، أو على الأقل أن ترفعي الحماية أو الغطاء عنهم. صدقيني أنهم ليسوا مؤبدين، وعليك أن تفكري في مستقبل العلاقة مع الشعوب ذات الأعمار الضالعة في تاريخها لا مع طغاتها الذين لم يبق في أعمار استبدادهم الكثير.

أيُّ مستقبلٍ مفخَّخ هذا الذي تحثين الخطا في اتجاهه؟!

أوروبا.. أنظري قليلاً إلى الشمس أو الروح أو الله أو الحب أو الشعر أو الموسيقا، إلى أفق الحلم لا إلى القبر الذي عند قدميكِ، فليس البزنس هو الشروق المرجوّ.

أنظري إلى الأجيال الجديدة عندكِ وعلى مقربة منكِ وإلى أين يذهبون!

قليلاً من الخمر أو الصحو يحيي قلب الإنسان.

وأنتِ يا أوروبا لا صحو ولا سُكْر، فماذا تتمنين أو تنتظرين؟

أهتلراً جديداً؟

أم لعنةً من غامض علم الله؟!

إن كنتِ تنتظرين أحدهما فسيأتيكِ، واللهِ والأبالِسَة، بأكثر مما تهملين من واجباتكِ ومسؤولياتك.

تذكّري أنه قد يبدأ الخلقُ جميلاً ومعافى، وينتهي ممسوخاً ومريضاً، ولا أتمنى لكِ ذلك.

وقد يبدأ الخلقُ مستقبِلاً ومرحِّباً وينتهي طارداً ومتجهِّماً ولا أتمنى لكِ ذلك.

أوروبا!

عزيزتي أوروبا!

قليلاً من الأصول يا أصيلة!

‘ شاعر من سورية

الأصل العربي لرسالة قدّمتُها في مهرجان ‘ باسّا بورتا العالمي’ في بروكسل يوم 25 آذار (مارس) 2011، وقد كانت ثيمة المهرجان لهذا العام ‘ رسائل إلى أوروبا’، شارك فيها خمسة عشر شاعراً يعيشون في أوروبا ولكنهم من أصول غير أوروبية. وقد قرئت جميع النصوص بالإنكليزية والفرنسية والفلمنكية إضافة إلى لغاتها الأمّ.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى