صفحات الثقافةعلا شيب الدين

أين البئر ودلوها؟!/ علا شيب الدين

 

 

 

بأُمّ العين الرؤوم الحزينة، شاهدتُ كيف “دُحرِجت” براءة الأطفال إلى قاع اللعب الدنيء. كان النهار قد انتصف، وكنتُ في حافلة. على الطريق، بين بلدتي صلخد ومدينة السويداء بجنوب سوريا، هناك قريتان لا بدّ من المرور منهما إنْ ذهاباً أو إياباً، اسم إحداهما الرَّحى، والأخرى الكَفر. هذه الأخيرة كانت تزيّن ساحتَها الرئيسية تحفةٌ فنيّة، متجلّية في بئر ودلو. قوام البئر “الفنيّة” هذه، حجارةٌ “صَرّ” صغيرة، ملتقَطة من البيئة الجبليّة المحلّية نفسها، مخرمَشة خشنة، يطغى عليها اللون البنّيّ الموشَّح بالأصفر الباهت والقرميديّ. تبدو البئر لـ”الرائي” كأنها مشغولة بالحنين الغامض، بالروح الهائمة، وبالرغبة الشغوفة في استرجاع تفاصيل ريفية معيّنة لِما فيها من حنوّ وشاعريّة.

إلى عمودٍ انتصبَ في وسط الساحة، تسلّق طفلان يبدوان في الثامنة من عمرهما، وحول دائرة البئر المستسلمة لمحض سماء، المفضية إلى قعرٍ مجهول نزولاً، وإلى ساحةٍ معلومة طلوعاً، تحلّقَ نحو خمسة أطفال، وإلى جانب البئر تجمهر نحو ثمانية آخرين كانوا يدبكون على إيقاع أغنية “وطنيّة”، طائفيّة حربوقة تطوف عادة في الكراجات والشوارع المزدحمة بالبسطات ومحال الأدوات المنزلية البلاستيكية والمنظفات ومساحيق التجميل الرديئة النوعية. كلّه، على أي حال، صناعة “وطنية” وما من غريب إلا “الشيطان”. خلَت الساحة- الملعب تقريباً، من الكبار في السنّ، ومن الكِبَر مطلقاً. قبالة الأطفال كان أحدهم يخطب بواسطة مايكرفون. بصوتٍ غليظ، راح يدعو الناس إلى “الانتخابات” قائلاً بالحرف الواحد: “بادرْ إلى الانتخاب. صوتكَ هو طلقة في وجه كلّ مَن تآمرَ على هذا الوطن”. كنتُ أرقب المشهد “الدراميّ – التراجيديّ” هذا من شبّاك الحافلة حينما توقّفتْ في الساحة، بضع دقائق، قبل أن تعاود المسير، إلى وجهتها المحدَّدة المحدودة. في المقعد الأول، جلس مسلّحان بزيّ الجيش، من شأنهما بثّ الرعب في نفوس الركّاب، وحراسة أجواء الإرهاب، بينما كان الجميع “خرساناً نعساناً” لا حول له ولا قوة.

قبل المرور بالمشهد الموصوف في عُجالة هنا، بنحو ساعة، كنتُ قد مررتُ بمشهد سيارات تجوب شوارع السويداء، ملأى بمسلّحين، يطلقون الرصاص الحيّ- الميت، في الهواء التوّاق إلى الانعتاق. كان مجرّد النظر إليهم مخيفاً حقاً، لكن ليس إلى درجة تراجُع الحرية عن نفسها في نفوس الأحرار. يجري الترهيب في الأيام “العادية”، فكيف لا يُفاقَم في يوم 3 حزيران 2014؟! أعني في يوم “الانتخابات الشرعية، الديموقراطية، الحرة النزيهة الشفافة في الوطن- المقبرة”. “وطنٌ” إنسانُه محطَّم من قبلُ ومن بعدُ، تُراقُ فيه دماء أهله، يومياً منذ أعوام (وينزف منذ عقود)، تتناثر أشلاؤهم، يُشرَّدون يهجَّرون، يقضون في المعتقلات تحت التعذيب، تُهدّم بيوتهم ومدارسهم ومستشفياتهم، تُدمَّر مدنهم وقراهم ومزارعهم ومصانعهم ومتاجرهم، وتُحرَق حضارتهُم وتُباد، تُسرَق وتُنهَب وتُسلَب وتُغتَصَب على مرأى من العالم أجمع، “الحر” والعبد؛ ولا شيء حقيقيّاً صادقاً. لا أحد! في ما عدا كل أحد حقيقيّ صادق ليس في إمكانه، فعلياً وواقعياً، وقْف المذبحة، ولجْم المأساة.

* * *

قبل يوم “الانتخابات” هذا، بثلاثة أيام ربما أو بيومين، كانت ثمة سيارة بمكبِّرات صوت، تجوب الشوارع في بلدتي إياها، وثمة صوت زاعق ذكوريّ يعزم على الناس باستخفاف شديد في العقول والنفوس، من أجل المشاركة في “الاستحقاق الرئاسيّ”. بحرقةٍ ابتسمتُ آنذاك، عندما تناهى إلى سمعي الاصطلاح الأخير، بينما كنتُ صباحاً، أَسقي وروديَ الليلكية والبيضاء والزهرية في حديقة بيتي المسحور من كرومٍ وعصافير. إنها المرّة الأولى منذ عقود طويلة مضت، تغيب عن مسامع “المواطنين” السوريين في “مناسبة” كهذه، اصطلاحاتٌ من مثل “الاستفتاء”. “تجديد البيعة”.

* * *

لتنتهِ الثورة إذاً! ما دامت الاصطلاحات السياسية قد تغيّرت، و”الإصلاحات” صارت واقعاً، فها هو “الرئيس”. “الدكتور”. “المتحضِّر”. المتعلّم “ببلاد برّا”- بس مش خاين ولا عميل ولا متآمر. “وطني” بامتياز!- “المصلِح”. “الفيلسوف المجدِّد”، ها هو قد قوّض الاصطلاحات القديمة الرثّة، واستبدلها بأخرى “حديثة”، لكن أبديّة على رغم أنوف “منافسيه” الذين طالما “رشَّحوا أنفسهم” إلى منصب رئاسة “الجمهورية”. ها هو نظام “الرئيس” يمعن من “جديد”، في تحويل الحداثة بوصفها جديداً مستمراً أو جِدّة دائمة ومتجدِّدة، أو تجاوزاً مستمرّاً للذات؛ إلى”أبديةٍ” مغلقة، على غرار الغلق التام والنهائيّ الكلّيّ المطلق في: “علّم آدمَ الأسماءَ كلَّها”. لتنتهِ الثورة إذاً! فأن “يفوز” “الرئيس المعلَّب” “متنازِلاً” عن نسبة 99,99 في المئة، مكتفياً بنسبةٍ “عفويةٍ” هي 88,7 في المئة هذه المرّة؛ يعني أنّ “المتآمرين” على البلد، قد أُوقِفوا عند حدّهم، بـ”طلقات” الأصوات “الحرة” في وجوههم (أُف. إنه لَأمر مملّ، حين لا يكون هناك مجال للاسترسال في الكلام، من دون التوقف “كِلّ شوَيْ” عند مفردات وتعبيرات لا يجوز ذِكرها من دون وضعها بين مزدوجَين).

* * *

وكانَ، أنّ “الفوزَ الكاسحَ” في “الانتخابات” والمخابرات، لـ”الرئيس المعلَّب”، لم يدفع الناس “العاديين” في محافظة السويداء، إلى الإدلاء باهتمامٍ بالغ مهمّ، إذ الغالبية هناك هي تلك المستعصمة بجملةٍ “أقلّوية” ببغائيّة: “الله يهدّي البال”، و”البال طاير وما بدّو يهدّي، مش لأنو حرّ. لأنو مُصرّ على إنّو: “حايدي عن ظهري بسيطة”. الأغلب “عايف حالو وما إلو خِلق لا للحزن الحقيقي ولا للفرح الحقيقي”. بلادة مطلقة يعني، تشوب الذهنيّة في هذه المحافظة العصيّة على التغيير. كل تغيير: سياسيّ، دينيّ، سوسيو/ ثقافيّ، فكريّ. لكن- والحقّ يُقال- كانت هناك مظاهر “احتفالية”، على مستوى “الشبّيحة”: رجال دين “عقلاء”. بعثيون “أمناء”. أعتى من هؤلاء، أولئك من المنحازين انحيازاً من طراز جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، إلى نظامٍ يقتل “شعبه” (مهلاً. شعبه! السوريون ليسوا شعباً لـ”أحد”). أحد المظاهر “الاحتفالية”، كان مرور بضع سيارات ليلاً، تعلو منها أصواتٌ “مُجاكِرة” مثابِرة على التأكيد القطعيّ الوثوقيّ بأن الأسد للأبد أو يُحرَق البلد. توقّفت السيارات. زمَّرتْ. لم يتفاعل أحد من نيام البلدة. غادرتْ. انتهت الاحتفالات. لم تنته الحرب. ولم تنته الثورة أيضاً، على الرغم من التحطيم المريع الممنهج والعشوائيّ (هل لثورة حقيقية أن تنتهي؟!).

قبل “فوز” “الرئيس المعلَّب”، لم تُرَ في شوارع المحافظة نفسها، صورة واحدة فقط لـ”المنافسين” الآخرين. امتلأت الشوارع فقط بصور “الرئيس نفسو ما غيرو”، بالترافق وتعبيرات لغوية خاصة بالشبّيحة والمخابرات من قبيل: “شهيد ورا شهيد، غيرَك ما بنريد”، وبالترافق طبعاً وكلمة “نعم” مكرَّرة في كل صورة نحو عشر مرّات أو – للأمانة- أقلّ بقليل.

* * *

مرّت أيام على مشهد الأطفال نفسه مع البئر والدلو في ساحة قرية الكَفر، قبل أن أمرَّ ثانية من الساحة نفسها، وأفاجأ بأن التحفة، قد اختفت تماماً، وبدت الساحة من دونها مقفرة بشعة. سألتُ مستغرِبةً، قريبةً – عائليّاً- وهي من أهالي القرية المذكورة: “أين البئر ودلوها؟!”، فلم يكن لديها معلومات في هذا الخصوص. اكتفت بالقول: “شو بعرّفني. يمكن البلدية شالتها”. خُيِّل إليّ أنّ البئر أُزيلت لغرض إزالة أي دليل على “انتخابات” مريضة مشوَّهة، هزلية هزيلة، استُعمِل الأطفال الذوات فيها كموضوعات. كأدوات في موضوع لا يفقهونه. مَن يدري؟ قد يكون السبب وراء اختفاء البئر ودلوها، هو الخشية من أن يكون أحد ما من “المتآمرين” قد صوّر المشهد المذكور، موثِّقاً بذلك مسرح الجريمة: “الصوت– الطلقة في الساحة – الملعب”.

كاتبة سورية

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى