صفحات الرأي

أين “اليسار” من سوريا؟ الجزء الأول


 ترجمة يوسف حداد

إن معارضة  النظام الاسرائيلي العنصري ورياء سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تسوغها حجج ملموسة. إن إدانة الأنظمة المتسلطة في العالم العربي والنضال ضدها يرتكزان أيضا ً على مبررات موضوعية. كما وإن ما يدعونا، لا بل يحتم علينا، دعم المقاومة في الحالتين المذكورتين آنفا ً مبني على حجة صلبة. جوهر هذه الحجة هو المبادىء الأساسية في الأخلاق والسياسة، مبادىء يجب الحكم بها على القمع للإنتفاضة السورية.

لكن البعض في معسكر اليسار في المنطقة، وفي لبنان بوجه خاص، يتلقفون المشهد الدموي في سوريا بقدر من الغموض الملفت. فهل على اليساريين “الصالحين” دعم المعارضة وإدانة ممارسات النظام التي فاقت كل الحدود، أو عليهم الإلتزام بموقف حيادي (وهو موقف قائم بحد ذاته)؟

“المعضلة” المطروحة أمامنا مضللة. فمنطلقها إجلال وتقدير للدعم الذي يوفره النظام السوري للمقاومة – لا سيما حزب الله – ضد الإمبريالية الأمريكية والإسرائيلية. حفنة قليلة من اليساريين تخالف الرأي السائد هذا، حتى من بين الذين كانوا يوجهون سهام الانتقادات لسياسات النظام السوري قبل إنطلاق شرارة التظاهرات العارمة.

لكن التظاهرات المتواصلة منذ خمسة أشهر ضد النظام السوري والرد القمعي الذي خلف حتى الآن أكثر من ألفي قتيل وآلاف المصابين والمعتقلين، يجب أن يوصدا باب الغموض في الموقف. يتساءل المرء كيف لهذه الممارسات القمعية التي يتبناها النظام السوري أن تؤول إلى الخلاص من عنصرية ووحشية السياسات الإسرائيلية؟ كيف لها أن توقف هدم المنازل، ومخططات الترحيل والتهجير، والإستيطان العنصري وغير الشرعي على الأراضي الفلسطينية؟ كيف لهذه الممارسات التصدي للسياسات المنافقة التي تنتهجها الولايات المتحدة في المنطقة، وتدميرها للعراق، ودعمها لسياسية إسرائيل العنصرية وللدكتاتوريات العربية المناهضة لمعسكر المقاومة؟

إذا كان التصدي للإمبريالية بالنسبة لأحدهم تجسيدا ً لموقف سياسي وليس مبدأ راسخا ً، عندها يصبح الموقف الداعم للنظام السوري مفهوما ً، لكنه يبقى مجردا ً من أي مبدأ. غير أن هذا التوجه يتجانس مع موقف الإسرائيليين وداعمي إسرائيل الذين يرفضون سياساتها العنصرية لكنهم يقدمون مبررات لدعمهم لها. أما المثير للسخرية فهو أن أولئك اليساريون الإسرائيليون هم غالبا ً عرضة للتأنيب من قبل الفئة الداعمة للمقاومة لتخليهم عن كل ما يمت بصلة لليسار.

إذا ً أين المبدأ من كل هذا؟ رغم أن السؤال قد يبدو ساذجا ً لكنه موجه  للذين يدعون تبني مواقف مبدئية دون سواها. النظام السوري تجاوز بأشواط الخطوط الحمراء وعلى أولئك الذين يولوا الأولوية للمقاومة العودة لمبادئهم. كذلك لا مكان للمتطرفين القوميين – حملة شعار “وطني في الحق والباطل” – الذين يكيلون النظام السوري بأهازيج الولاء. إذا كان المرء يواجه الإمبريالية وفقا ً لقناعاته فعليه رفض قمع المتظاهرين من قبل النظام السوري وفقا ً لهذه القناعات عينها. ومهما يملك النظام السوري من رصيد مقاوم فإن هذا الرصيد تلاشى مع شروعه بقتل شعبه، حيث وصل إلى معدل مئة قتيل تقريبا أسبوعيا ً خلال الأشهر الخمسة الأخيرة.

إذا السؤال المطروح هو ليس إذا ما يتوجب على اليسار – الذي أصبح هلاميا ً بشكل مطرد إذ أنه بات ينطوي تحت لوائه ليبراليون ورجعيون حتى بعضا ً ممن يتبنى سياسات فاشية – دعم أو معارضة النظام السوري. فهذا قرار ينبغي أن يتخذه الناس في عالمنا هذا: هل نتبنى موقفاً سياسياً أم مبدأ؟ هل نؤازر بلدا ً أم مبدأ؟ هل نغلب الوطنية والقومية على المبدأ؟ وإذا صح هذا الحال، فلماذا كنا ننتقد الأمريكيين في دعمهم للحرب على العراق؟ لماذا نرفض اقتصاد التساقط الذي يحطم حياة العديد بانتظار سراب النمو المستدام؟ لماذا ننتقد الاسرائيليين لدعمهم السياسات العنصرية لدولتهم؟

إدانة الطغيان من مطلق مبدئي يحتم ادانته بغض النظر عن من كان يمارسه، وإلا فلن يعود بوسعنا الالتماس إلى ما هو مبدئي. عندها قد نقع في شرك تكرار الأمر الذي كثير منا أدانه بصوت عال وعن وجه حق. ألم نتهم الحرب الأمريكية على الإرهاب بأنها متعجرفة ومنافقة لأنها تخرق المبادىء التي تتدعي بأنها ترفعها؟

بالتأكيد هناك مناطق رمادية، ولهذا السبب كان من الممكن دعم المساندة السورية للمقاومة وفي الوقت عينه إدانة سياسة النظام الداخلية قبل التظاهرات. لكن الأشهر الخمسة الماضية أظهرت أنه لا يمكن العفو عن النظام تحت ستار رصيده المقاوم ولأنه لا وجود لليسار دون مبادىء.

نشر المقال لأول مرة باللغة الأنجليزية على موقع الجزيرة نت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى