صفحات الثقافة

ألذّ سندويش مجبول بالغدر وتأنيب الضمير/ بثينة مراد

 

 

على الرغم من أنّ السندويش وجبة خفيفة وعملية لا بديل عنها أحياناً، إلاّ أن التلاميذ هم أكثر من يكرهونه. هو كالمدرسة، شرّ لا بد منه وقصاص مجبرون عليه. أتذكَّر وقت الفسحة، أصحابي وأنا نقبض بامتعاض على سندويش يتلوَّى بين أيدينا ولا نشعر تجاهه بأي رغبة.

أحاول أن أشرح لأمي أنه يصعب بلعه، فتجيبني بكلام مغمغم عن الغذاء السليم. لكن ما إن بلغت التاسعة من عمري، اكتشفت المزايا الحقيقية للكذب حتى رحت أرميه في سلة المهملات.

الأشهى، هو سندويش عُمَّال البُنى. غليظ كأيديهم المشققة بفعل المعاول والإسمنت ومدكوك بالعدس أو الفول.

لا يمكن تناوله إلاَّ قضمة يمين وقضمة يسار، من هنا حبة زيتون ومن هناك شرحة بندورة أو خيار. يختتم بالحمد والشكر، وبكاسة شايٍ مرٍّ كأيَّامهم المتعِبة. محلاة بعناية كأحلامهم بالشقق التي يبنونها ويرحلون عند اكتمالها. ختامها، نفس سيجارة محلية الصنع يختلط دخانها مع لهيب الشاي ولفحات الصقيع أو الحر.

وهناك السندويش اللايت، الأنيق، سعراته الحرارية محسوبة على الميزان، ألوانه منسقة كفستان. هذا السندويش نسائي بامتياز. يحضَّر خصوصاً لمن تتحرك بجسم أقرب إلى سوء التغذية منه إلى الرشاقة. ورغم ذلك، تراها تتناوله بدقة وتأنٍ. طموحها أن تنهيه، دون المساس بأحمر الشفاه، وقد نقص وزنها.

سندويش الريجيم هذا، يتنافى مع “سندويش ما بعد منتصف الليل”. هو سندويش الحالات المتطرفة، كالانتقام من الأرق أو من يوم عمل مرهق. في بيروت، تشكل بعض المطاعم التي لا تغلق أبوابها رمزاً مشبعاً بالدهون لهذا السندويش القاتل، لكنَّه بالتأكيد ألذ السندويشات، فطعمه كالحُب المجبول بالغدر وتأنيب الضمير.

أمَّا الأهم، هو سندويش الزعتر وزيت الزيتون. للأسف لم تجر عليه الأبحاث العلميَّة، لكن أمَّهاتنا وجدَّاتنا، يؤكدن أنه يرفع معدل الذكاء شرط تناوله كل يوم. وعندما يتمرد الأولاد على الفقر، وفي نفسهم شوق إلى سندويش غنيّ يحوي مارتاديللا أو جبنة، فهذه الأم الحكيمة التي بيدها ألف حيلة ستروي لهم قصة الزعتر.

تلك النبتة البريَّة التي تُقطف بعد أن تعاند أوراقها الصغيرة جفاف السماء وبرد الشتاء: “كونوا كالزعتر الطيب والصبور”. هذا الدرس إن أثمر، لن يكون إلاّ أبناء أذكياء في تعاملهم مع حياة صعبة.

لا بدَّ أنَّ السندويش مرَّ برحلة طويلة قبل أن يصبح اسمه عالمياً. ربما بدأت رحلته مع راعٍ وضع طعامه داخل رغيف، لفّه بقماشة وعلَّقه على عصا. قد تكون هذه لحظة ميلاد السندويش المنسيَّة، فهو تطوَّر معنا ليلبي حاجتنا إلى زوَّادة سريعة وغير مكلفة.

أما اليوم، فالسندويش له مطاعمه وأشكاله المختلفة، حتى أنّ بعض كتب الطبخ باتت تفرد له مساحات خاصة، لعلمها أننا في سعينا اليوميِّ المحموم خلف لقمة عيشنا، لم نعد نملك الوقت لنجلس ونضع هذه اللقمة في صحن.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى