صفحات مميزةعمر قدور

العرب يرشّون الأسيد على النساء في بلاد فارس/ عمر قدور

 

 

مع تناقل وسائل الأخبار أنباء هجمات بالأسيد على نساء إيرانيات، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي الإيراني حجماً غير مسبوق من الشتائم التي كيلت للعرب، اشتُهرت منها مقطوعة شعرية للإيراني يغما كلروني يخاطب فيها العرب بالقول: «كيف يمكنكم أن تنظروا إلى أيديكم قاتلة الجمال، وتلاطفوا أطفالكم بهذه الأيدي التي تغسل الماكياج من وجوه النساء بالحمض؟ اخرجوا من هذه الأرض، لقد صار لنا قرون نعيش في محيط من الحمض». ومن المعلوم، بحسب ما تناقلت المواقع الإخبارية أن منفّذي الاعتداءات بالأسيد على النساء، بذريعة سفورهن، هم من أعضاء حزب الله الإيراني أو أعضاء الحرس الثوري «الباسيج»؛ ذلك لم يمنع نشطاء إيرانيين من شتم العرب واعتبارهم مسؤولين عن تلك الجرائم، بدل توجيه الاتهام بشكل مباشر إلى الطغمة الحاكمة.

ربما يجوز القول بأن توجيه الشتائم إلى العرب يأتي بسبب الخوف من الطغمة الدينية الحاكمة، لذا لا يواجه أصحاب الشتائم سلطتهم الجائرة مباشرة، وإنما يلمّحون إليها باستخدام العرب كوسيط لشتمها، أي أن السلطة الدينية الجائرة والمكرهة تُشتم بوصفها عرباً. ولأن شتم العرب يندرج ضمن التراث الفارسي والإيراني فهو سلوك لا يقع صاحبه تحت طائلة القانون، وأكثر من ذلك يقع ضمن دائرة التواطؤ بين قوميي إيران ومتدينيها، إذ يجتمع الطرفان على شتيمة العرب كلٌّ لاعتباراته الخاصة، وأيضاً لاعتباراتهما المشتركة. ولا يُستبعد أن يدفع هذا التواطؤ طرفيه إلى تهميش قضية إعدام ريحانة جباري، فريحانة وفق الترسيمة السابقة تنتمي إلى الهامش المذهبي والعرقي معاً، بينما ينتمي مَن تحرش بها أولاً، ثم من تحرشوا بها بعد اعتقالها، إلى المتن، حتى إذا تجلى المتن برجل مخابرات ثم بقضاء «إسلامي» موجّه.

أن تُشتم السلطة الإيرانية مواربة، من خلال شتم العرب، أمرٌ لا يضيرها في شيء، بخاصة وهي تخوض حروبها الخارجية في العالم العربي، وبخاصة أيضاً مع الاحتقان المذهبي التي تولده تلك الحروب. فوفق منطق السلطة، لا بأس في شتم العرب لأنهم أصحاب ذلك «المذهب» البدائي المتخلف، ولا بأس حتى برمي خطايا السلطة الإيرانية على أولئك المتخلفين العرب، أي أن ما يمارسه حزب الله الإيراني والباسيج لا ينتمي إلى المذهب الشيعي الإيراني المتحضر. هنا يحضر الانقسام في صفوف الملالي أنفسهم، إذ يرى التيار المعتدل في رمي «القاذورات» على العرب خلاصاً من أجل تنقية الإسلام الإيراني من شبهة التطرف، بينما يرى المتطرفون في رميها على العرب خلاصاً لهم من المساءلة المباشرة أمام عموم الإيرانيين ودليلاً على خوف خصومهم وعدم قدرتهم على المواجهة كما ينبغي أن تكون.

إلا أن موسم العنصرية الجديد ضد العرب ليس جديداً تماماً، لأن هذه العنصرية لم تشهد توارياً كلياً في تاريخ إيران المعاصر، بل يمكن ردّها فعلياً إلى عهد بعيد جداً شكلت معركة القادسية نقطة جرح تاريخي لا يبدو أنه يتماثل إلى الشفاء. ففي الشاهنامة، وهي ملحمة لا تخفى أهميتها في الثقافة الإيرانية، تظهر صورة العرب كما كرستها الثقافة الفارسية السائدة آنذاك، والتي استمرت ذيولها وتداعياتها لاحقاً. العرب، وفق الشاهنامة ووفق الرواية المدرسية المعتمدة، هم كما تصورها رسالة رستم، آخر قائد فارسي، إلى عمرو بن أبي وقاص، إذ يقول فيها: «على من تنشد الانتصار أيها القائد العاري لجيش عارٍ، رغيف خبز يشبعك، ورغم ذلك تبقى جائعاً». ولا شك أن عبارة رستم «بدبلوماسيتها» تليق بقائد أرستقراطي، إذا قورنت بالعبارة الشهيرة جداً لكاتب من القرن العشرين هو محمد علي جمال زاده، يقول فيها: «في الصحراء يأكل العربي الجراد كما يشرب كلب أصفهان المياه المثلجة».

ومع أن قصص الغزوات المتبادلة والتوسعات الإمبراطورية هي سمة عامة للماضي، غير أن الجرح التاريخي الإيراني من خسارة القادسية يكاد يكون استثناء، لأن تلك الخسارة لم تؤدّ إلى زوال الإمبراطورية الساسانية فحسب، وإنما آذنت بتغييرات جوهرية في المجتمع الإيراني ككل. لقد كانت خسارة الحرب متعددة المستويات، فهي خسارة لأمة فارس الآرية أمام الجار السامي الأدنى على الصعيد العرقي، وهي خسارة حضارة الشمس الزرادشتية أمام حضارة الإسلام القمرية، وهي أيضاً خسارة اللغة الفارسية أمام اللغة العربية. لم يكن بلا مغزى على هذا الصعيد أن يكون من أوائل إجراءات رضا بهلوي لاستعادة مجد فارس إنشاء مجمع لتنقية الفارسية من المفردات العربية على غرار ما فعله أتاتورك في تركيا، مع الإشارة إلى أن اللغة العربية أيضاً تسللت إليها مفردات فارسية وصارت شائعة من دون أن تثير حساسية مقابلة. لكن ذلك لا يُعزى فقط إلى فترة النهوض القومي في عهد الشاه، ففي عهد القاجار في نهاية القرن التاسع عشر نقرأ كاتباً مثل ميرزا آغا كرماني يرى في الإسلام ديناً متخلفاً فرضته على الأمة الآرية النبيلة أمةٌ سامية هي حفنة من آكلي السحالي، وكأن الكاتب حينها يُرجع التردي في أحوال فارس إلى العرب وليس إلى حكم القاجار الذين ليسوا عرباً وليسوا إسلاميين على النمط الذي يمكن اتهام «ثورة» الخميني؛ لا يخرج عن هذا الإطار أن نعثر على شاعر هو نادر نادربور يرى في قصيدة له انتصارَ الخمينية بمثابة انتصار للقمر «العربي» على الشمس الإيرانية، بما يذكر بمقطوعة يغما كلروني الشائعة الآن.

أما ثورة الملالي فلم تقرّب مطلقاً بين الإيرانيين والعرب، ولم تحاول زرع ثقافة «تسامح» جديدة على رغم القرابة النظرية مع المحيط الإسلامي، ويصح القول إنها على العكس من ذلك عزفت على وتر الاختلاف عن المحيط الإسلامي العربي لاعتبارات متعددة المستويات. في المستوى الأول، لعب الفارق المذهبي مع الأكثرية السنية المجاورة دوراً في غاية السلبية لجهة تعزيز التمايز وصولاً إلى جعل المذهب الشيعي الإيراني بمثابة «دين» منفصل عن الإسلام المحيط به، ومن ثم رفع الدين ليصبح بمثابة هوية قومية. التشيع الإيراني، وفق ثقافة الملالي، هو استرداد الإسلام إلى موقعه الصحيح، وإلى الجهة القادرة على تأويله تأويلاً صحيحاً بعد انتزاعه من أولئك البدو المتخلفين. بيت القصيد هنا ليس في العنصرية إزاء العرب فحسب، إنه في الرد غير المباشر على الثقافة العنصرية السائدة التي لا تفرق بين الإسلام والعرب؛ الملالي يقولون بهذا إنهم إسلام، ولكن كما ينبغي أن يكون عليه الإسلام؛ إنهم بالمعنى المجازي المتداول إسلام لكنهم ليسوا عرباً. وثمة عامل سياسي مباشر لا ينبغي إغفاله هنا، فثورة الملالي سعت إلى استيعاب القوميين الإيرانيين الذين كان لهم ثقل كبير أيام الشاه، وكان من السهل على تيار من القوميين الاندماج في السلطة الثيوقراطية الجديدة طالما أن عداءها الديني والعرقي يرتكز في الدرجة الأولى على المحيط العربي، وطالما أنها تحتفظ بخط الرجعة «العرقي» مع الغرب بوصفه شقيقاً آرياً.

إذاً، لا غرابة في القول إن من يرشون النساء الإيرانيات بالأسيد في أصفهان «حيث يشرب الكلب مياهاً مثلجة» هم عرب أتوا بذاك الدين المتخلف ليفرضوه على البشرية، والأمر هنا ليس على شاكلة ما ينطق به «علمانيون» عرب يردّون كافة العلل إلى الإسلام، لأن العنصرية الإيرانية تماهي تماماً بين العرب وإسلامهم، بل بدل أن تلتفت الحملة الحالية ضد حزب الله الإيراني إلى محاكمة ملاليها كجزء من ثقافة إيرانية عمرها مئات السنين تنصرف إلى جعل متطرفيهم أعداءً خارجيين، أي أنها تتبرأ منهم بدل مواجهة ذاتها كما يليق بأي فكر نقدي. وأن تتزامن هذه الحملة مع الحرب الذي يخوضها الملالي على أكثر من جبهة عربية، وأيضاً مع الحلف الدولي الحالي ضد الإرهاب فذلك لا يبشّر بخير للعلاقة بين شعوب المنطقة، ولا يبشر أيضاً بأن الثقافة الإيرانية في خير.

المستقبل

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى