صفحات سورية

أي تغيير نريد في سوريا؟


ميشيل شماس

خمسة أشهر مضت على الاحتجاجات التي تشهدها سوريا سالت فيها دماء كثيرة واعتقالات واسعة، ووعود كثيرة بالإصلاح لم يتحقق منها شيء جوهري على أرض الواقع.. قوانين ومراسيم وقرارات كثيرة صدرت لم تغير من الأمر شيئاً، في ظل استمرار الحل الأمني، فالدم السوري مازال يسيل على أرض الوطن، ويستمر التضييق على حرية الناس..بالقمع والاعتقالات، ولم يعد هناك أمامنا متسع من الوقت للخروج من هذه الأزمة الوطنية التي تعصف بسوريا بأقل الخسائر..

إن التغيير الذي يطمح إليه كافة السوريات والسوريين هو تغيير يقوم على قاعدة احترام حريات الناس وحقوقهم الأساسية، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال دستور جديد يعيد صياغة العلاقة القائمة بين الدولة ومواطنيها على أساس عقد جديد يقوم على الالتزام الطوعي والاحترام المتبادل والمساواة بالمشاركة الفعالة لجميع السوريين في تحمل مسؤولية بناء الوطن، بعيداً عن أي ولاء قسري أو تهميش أو عزل أو إهمال، وهذا يتطلب أولاً وقف الاعتقالات وإطلاق سراح جميع الذين اعتقلوا على خلفية مشاركتهم في التظاهرات، وإطلاق سراح من تبقى في السجون من معتقلي الرأي والضمير وإغلاق ملف الاعتقال السياسي نهائياً، ومحاكمة جميع الذين تسببوا بعمليات القتل والتخريب أياً كانوا، محاكمة علنية عادلة، ودفع المظالم عن الناس، وإطلاق الحريات العامة الأساسية، ضمن إطار قوانين ديموقراطية تضمن حرية العمل السياسي والتعددية السياسية والحزبية والنقابية والإعلامية. فلا معنى لصدور قانون الأحزاب السياسية في ظل عدم النص على مبدأ تداول السلطة سلمياً الذي يعتبر وجوده جوهر الحياة السياسية والديموقراطية، ولا معنى لقانون الأحزاب في ظل بقاء المادة الثامنة من الدستور التي تسمح بهيمنة حزب واحد على الحياة السياسية، واحتكاره سلطة قيادة الدولة والمجتمع. ولا معنى لقانون ينظم عمل وسائل الإعلام ما لم يكون حراً ومفتوحاً أمام الرأي الأخر المختلف..

ولا بد من تعديل قانون الانتخاب بما يضمن وصول جميع ممثلي الشعب السوري الحقيقيين إلى البرلمان، ويعيد الاعتبار لمبدأ الانتخاب الحر والمباشر والسري في جميع المستويات، مع التأكيد خصوصاً على ترك الخيار للشعب أن يختار مرشحه لرئاسة الجمهورية من بين عدد من المرشحين تحت إشراف القضاء.إذ ليس من المعقول أن ينحصر الترشيح لرئاسة الجمهورية بدين وحزب معين يفرض مرشحاً وحيداً كي “يختاره” الشعب.

وبالتوازي مع الإصلاح السياسي، لابد من إصلاح الإدارة باعتبار أن الإصلاح السياسي والإداري يتكاملان مع بعضهما البعض، فهما وجهان لعملة واحدة لا يتحقق وجه الواحد منها إلا إذا كان ملتصقاً بالآخر.

ويشكل إصلاح الإدارة الطريق الأقصر إلى إصلاح مؤسسات الدولة. شرط أن يستند ذلك على قاعدة محاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين أياً كانت مراكزهم، وإصلاح أجهزة الرقابة التي أصبحت سيفاً مصلتاً على الكفاءات الوطنية الشريفة، وجعلها إدارة مستقلة بعيداً عن أي تدخل سياسي أو امني، وتحصينها ضد كل ترهيب أو إغراء. واعتماد مبدأ الكفاءة والنزاهة في تعيين الموظفين خاصة في المراكز والمناصب المهمة، لأن المدير النظيف الكفء العادل هو الضمانة الكبرى لنجاح الإدارة وتحصينها ضد الفساد، لأن الإدارة الفاسدة هي التي تفسد المواطن، أما إذا صَلُحت الإدارة واستقام عمل مؤسساتها فسيؤدي ذلك بالنتيجة إلى قطع الطريق أمام الوساطات والولاءات، وسيختفي مشهد المواطنين وهم يتسكعون أمام أبواب المؤسسات العامة بانتظار استلام معاملاتهم التي سوف تنجز بوقتها المحدد بعيداً عن دفع الرشاوى لانجاز تلك المعاملات..

وحيث أن هذا المواطن يدين بالولاء لهذه الدولة، ويلتزم بالقوانين والأنظمة، فمن واجب هذه الدولة بالدرجة الأولى أن تقدم لمواطنيها إدارة كفوءة ونزيهة وحيادية وعادلة تشرف على تقديم أفضل الخدمات التي هي حق لكل مواطن ومقيم على أرض الدولة، مادام يلتزم بدفع قيمة تلك الخدمات على شكل ضرائب ورسوم لتلك الإدارة.

باختصار، فإن عميلة الإصلاح والتغيير لا يمكن أن تكون موسمية أو منحصرة في جانب معين، بل هي عملية متكاملة مترابطة ودائمة، ولابد أن تشمل مختلف الجوانب، ويشكل إصلاح القضاء بما يضمن استقلاله ونزاهته وكفاءته المدخل الحقيقي لنجاح عملية الإصلاح ككل. وبجب أن يترافق ذلك مع تطوير مناهج التربية والتعليم في مدارسنا، وذلك بتقديم مواد تتدرج في أفق التربية على احترام القانون وحقوق الانسان، وإنشاء مقاعد في الجامعات تهتم بالقضايا الفكرية والسياسية والقانونية التي يطرحها موضوع حقوق الانسان في بلادنا والعالم، علنا نساهم في تكوين وعي حقوقي وأخلاقي ذي محتوى إنساني لدى الناس جميعاً، بدءاً من البيت والمدرسة والجامعة والمعمل..الخ، وجعله منطلقاً وأساساً في بناء وتطوير وطننا وإعلاء رايته عالياً بين الأمم، فما قيمة نصوص الدستور والقوانين إذا لم يقم على تطبيق تلك النصوص نقابة محامين حرة مستقلة وسلطة قضائية مستقلة كفوءة وعادلة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى