صفحات العالم

أي جزء من «الحرية» لا يفهمه النظام السوري ؟

 


غدي فرنسيس

تحت «رنين السيوف» وأنباء الدماء، ثمة من يجلس في منزله ويتحرّك في مجتمعه كارهاً كل شيء وكل الناس. مقاهي دمشق ومكاتب حماه ومطاعم حلب والسويداء تحتضنه وحيداً بين الجموع. هو «المختلف» بينهم دائماً. مواطن سوري يلفظه محيطه. يجد في الاثنين تطرّفاً يمزقه بين الضدّين إلى «قلقٍ» دائم. القتل على الشارعين يدق نواقيس «حرب أهلية» في هواجسه، والنظام أمامه يستمر في «التذاكي»، و«التمسّك بدور الضحية». يتابع الإعلام من دون ثقة بأحد. لا يثق بالبحر ولا بالقبطان، ولا بالسفينة… تلك هي الغالبية التي لا تزال صامتة، وتتجه يومياً إلى نقد الحلول التي يطرحها القبطان. كيف تعطى فرصة لبناء سفينة النجاة؟

تيار العقلاء الممتد

من الشمال إلى الجنوب

من بين عشرات الوجوه على امتداد خريطة سوريا، هناك مواطن واحد يتكرر في كل المناطق. ثمة خوف واحد مشترك بينهم، وكره واحد مشترك بينهم، وتوحّد واحد. تجدهم بالمفرد أو بالجمع القليل: بقايا أحزاب، يساريون، فلسطينيون، إعلاميون، كتّاب، أطباء، رجال أعمال، طلاب جامعيون، رواد فن، سائق أجرة، بائع شاورما، ضابط جيش يهوى القراءة، ضابط امن يتابع الدكتوراه في الجامعة، روائية… وغيرهم كثر، مختلفون عن المعارضة والموالاة.

لا يغيب العقل عن المجتمع السوري اليوم، ولا يغيب الوعي القادر على معالجة كل المخاطر الداخلية والخارجية، لكن صوته هو الغائب. يسكته القمع والخوف والقلق ويضعه مشهد الدماء في صمت. في جامعة دمشق صرخ طالب الهندسة «أكره الطرفين، لأنهما أحمقان، أخرقان، مؤذيان.. وأحب ميشيل كيلو». في مكتبة حماه صرخ سامر صرخة مشابهة. من قلب كوادر التلفزيون السوري «زميلة» تنتقد إعلامها وتصفه بأنه «الغبي، المتطرّف، والكاذب». تكره عملها، تحاول أن تجد مخرجاً من الحصار: «حصار أن تكون على متن سفينة لا تثق بقبطانها، فوق بحر هائج الأمواج… نزداد قرباً من الغرق، ومذياع السفينة يدق الموسيقى. نرى أمامنا العواصف، والقبطان غائب…». هكذا حال العقل الذي يعمل في التلفزيون السوري الآن. هكذا حال عقل آخر يكتب في جريدة «تشرين». هذا ما يقولونه في لقاءات «بعد العمل». من قلب دوائر الدولة، هم مختلفون. ومن صلب المعارضة التاريخية، ولا ينزلون إلى الشارع، فهناك ما يردعهم، وهناك ما ينفّرهم… في الضفتين.

في ساحة المحافظة معارض حموي، لأب اشتراكي عربي يريد أن يحلم بالحراك النموذجي ضد النظام. ينظر صباحاً إلى شارع أهله، يراهم يبتعدون عن أنفسهم، يبتعدون عن «حلمه» أكثر كل يوم: «ما زلت لا أنزل، لكنني طبعاً، وتاريخياً، ضد النظام». يراهم ينزلقون إلى ما لا يريد أن يكون. معارض يريد أن يعارض ليبني أحلامه وأفكاره في وطنه. غاب حقه تحت طيات الفساد لسنوات. سلب ممتلكاته لأنه «ضد» النظام الذي يحاسبه من قبل أن يولد. وحتى اليوم، يريد أن يعوّل على حلم، وتعمي البصيرة مشاهد يراها وأنباء يسمعها وشائعات خطيرة يراها تتناثر في الشارع.

أما في حمص فهو تلميذ جامعة «البعث» الذي يسخر من اجتماعات البعث وجبهته، وينزل ليراقب يوم الجمعة في باب السباع وبابا عمر، فيعود ضارباً رأسه. «ما أنتم يا أهلي في حمص؟». يشاهدهم يحرقون علم «حزب الله» في التظاهرة فيغضبونه: «بحق الله لا تضيعوا الهدف». يقتل منهم واحد، تجده يدمع. يسمع غضبهم، يلتاع في وحدته. يحاول أن يبحث عن متنفس لوعيه، يقترب من الحزبيين، فيجدهم غارقين في التبرير لـ«قائد المجتمع والدولة»… «خلصونا رح نروح فراطة»، يقول، ثم يعود إلى بيته في حي النزهة، فيكاد يختنق، «أهلي لا يشبهونني».

«لقمان» حمص، و«عمر» دمشق، و«فداء» جرمانا، و«وائل» حماه، و«بشار» المزة، و«سيزار» حلب، و«جورج» اللاذقية و«عبد الكريم» بانياس، و«حمد» السويداء… كلهم عاقلون في سوريا اليوم، ضد كل الناس، يتضامنون مع كل الدماء: الكل شهداء، الكل أبرياء، النظام مخطئ ولكن الفتنة والمؤامرة لم تعودا مجرّد نواقيس يطلقها النظام لحماية نفسه، هما بيننا، في شوارعنا، في جامعتنا، في ناسنا وجيراننا..الفتنة احتمال وارد… كيف يعلو صوتي؟

هي وهو وهنّ وهم يتنفسون ويتابعون الحدث، ويعيشونه في سوريا الآن. وليس لهم صوت. سوريا 23 مليون نسمة، 7 ملايين في دمشق وحدها، 6 ملايين في حلب، مليون في حماه، طلاب جامعة دمشق وجامعة اللاذقية وجامعة حمص… من بين ملايين الشعب السوري هناك تيار غير منظّم لا يعرف نفسه. تيار صامت يتخبّط في الحاضر ويخاف على الغد. لو قدّر لهم أن يعرفوا بعضهم بعضاً أو يصبحوا جسماً واحداً، ربما صحّت تسميته اليوم تيار «العقلاء».

المشكلة.. الكارثة… الحاجة

لا بد من اجتماع لتيار العقلاء… ولكن كيف؟ يسأل الأربعيني اللاذقاني نفسه، ويجيب من فوق أوراقه الكثيرة في بيروت. ابن الساحل له سنوات في النضال السياسي، داخل الإطار الحزبي الضيّق وخارجه. اليوم له منظار على المجتمع بحكم دوره وعمله المتعاقد مع الشأن العام والمواطن. يوجّه عينيه نحو فلسطين، فيعود إلى قناعاته وعقيدته، فينطلق منها في الحل: «المشكلة» أنهم ليسوا شرائح: أفراد، ناشطون، سياسيون… وبقايا أحزاب. الكارثة أن لا مؤسسة أو تنظيم يجمعهم ولا يشكّلون تياراً قادراً على الضغط على النظام. لا النظام يساعدهم لوضع عنوان ولا المعارضة تمشي ليتبعوها.

تحتدم عيناه، يشد أسنانه على سيجارته، ينفخ في ما يشبه الحسرة، كأنه عاد إلى ذاته يحكي عنها: «يقدمون مواقف كإعلانات براءة للتاريخ…. هؤلاء يجب جمعهم في لافتة موحدة… يجب أن يصبحوا تياراً، هناك ضرورة أن يتشكل هذا التيار مهما كان الثمن. الشارع في حاجة إلى من يستطيع أن يثمر حقيقته على الأرض».

بعد لقائه وجوهاً سياسية يعرفها، يتكلّم لسان سوري آخر عن المشكلة الطارئة. ليل الجمعة، كان الحديث والسجائر محتقنة في دمشق. لجنة حوار معلن عنها، أسماء لا ترضيهم، وصلوا إلى يقين أن الحلول المطروحة يجب دفعها إلى الأمام. للمرة الأولى منذ بداية الأزمة، كان الثلاثيني الساحلي يراجع نفسه أمام أصدقائه: «هل يعتبرونني موالاة… كيف؟». يجد نفسه في ضفة الرئيس، واثق به، ولكنه مختلف. لم يعد من الممكن الاستمرار بـ«التذاكي على الناس». يوصّف مشكلة الإعلام والدولة التاريخية: «المشكلة أننا بشكل عام نحب أن نلعب دور الضحية… مؤامرة! مندسون! قناصة! يا أخي نعم، ولكن لا… كأن «فزاعة» ولدت منذ أول يوم في درعا، علامَ ولمَ؟» يرد الآخر: «لم يعد الهم أن تبحث في السبب والمسؤول الذي أوصلنا إلى «الطائفية»، المشكلة موجودة في الأرض، فلنتّجه إلى معالجتها».

يدور الحديث الثلاثي: أسوأ ما في السلطة أنها خلال خمسين سنة كانت تقول «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، وتطفئ تحت هذا العنوان جميع العناوين الأخرى، والحالة ذاتها في الجبهة وفي أحزابها. الخطورة في شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، فقد أصبح ثقافة، ولكن لا يمكن الخوض مع «الثورة» اليوم في التفاصيل لأن «لا صوت يعلو على صوت الثورة».

المجتمع اتجه تدريجياً إلى هويته الدينية، فلم يترك له أي شيء آخر. تترك الجوامع وحدها منابر حرة، في مكان آخر كان النظام يغض الطرف عن التنظيمات الإسلامية. تحت طريقة إدارة المجتمع التي «أنجزها» البعث العلماني، كبر حجم التطرّف الديني وانحسر الحزبي. وضع في معلّبات سياسية… قتلت الأحزاب لتصبح كطوائف أخرى. غيّروا مفهوم «الحزب» في المجتمع… كيف تعاد صياغته من جديد كي تفرز المعارضة أنواعها ونتّجه إلى المرحلة الثانية من تغيير النظام. نحن نتّفق على ضرورة تغييره لكن من أين نبدأ؟

أعط المعارضة منابر

«الحل الوحيد هو الحوار الحقيقي لا التمثيلية»…هذا رأي المعارضة الشقراء، وهذا رأي الدكتور المعتدل في المقهى الواحد في دمشق. يصف الدواء: على النظام أن يعترف بالآخر ويجري حواراً حقيقي على مستويين. حوار وطني مع الرؤوس التي تستطيع أن «تنظّر» للحل، وهي المعارضة المثقفة والمدنية، وحوار آخر مع الأرض والعشائر والمطالب المعيشية. لا يجوز الخلط بين من يريد «حفر بئر» و«استعادة الأرض» مع من يريد «إلغاء المادة الثامنة من الدستور» وتعديل المدة الرئاسية وبناء دولة حقيقية مدنية.

ترد الجهة الأخرى من الطاولة: لم يسمحوا للمجتمع بأن ينظم نفسه، واليوم يدفعون الثمن. النظام اليوم يتعرّف على شعبه، الفجوة أوسع مما يتوقّع، لأن الصوت كان ممنوعاً، والخوف كان يسكن الجميع. اليوم، يضعون الإصلاح عنواناً، فليدعوا لكل ذي رأي أن يقول رأيه علناً للجهات الرسمية عبر هيئات… اسمها «أحزاب».

يعود رامي ليقول مستغرباً «إذا كنت تريد إسقاط النظام لا أستطيع أن أحاورك، وإذا كان مطلبك ضريبياً معيشياً فقط، فهذا حوار لا يتم على مستوى الوطن».

وفود يستقبلها الرئيس من المناطق. فتعتب وفود أخرى. الناطقون باسم الأرض لا يعبرون عن الضمير الوطني المعارض. والضمير الوطني المعارض لا قدم له على الأرض. فكيف الحل إذاً: تسمح للضمير الوطني و«الوعي السوري» الذي تعوّل عليه أن يحتلّ منابر الدولة. فلينفلش كتّاب المعارضة وأدباؤها وإعلاميوها في الإعلام، ولينخرط حزبيوها القدامى ومناضلوها السياسيون ممن هم على الشاشات في لجان الحوار. ليعطَ المذياع للصوت الآخر، كي يسمعه الناس. الرهان الوحيد للبلاد هو المعارضة، والطريق الوحيد للمعارضة ببناء قانون إعلام حر حقيقي وقانون أحزاب حقيقي.

هنا يرد رامي «هذا بعد الحوار». فيقاطع الدكتور، لمَ الانتظار؟ الوصفة جاهزة. ما هو قانون الإعلام؟ يجيب نفسه بحاجبين مرتفعين: الحرية. ما هو قانون الأحزاب الحر؟ الحرية للأحزاب الوطنية. إذا قالت الموالاة إن معظم من يحتجّون وينزلون إلى الشارع لا يفهمون معنى «الحرية» التي ينادون من أجلها، يقول لهم العقلاء: لنسلّم جدلاً، ولكن لنتعرف إليها أولا… ولكن النظام يعرف ما هو المطلب، لم يتأخر في إعطائه سلسلة حريّات سياسية؟ ما دام قادراً على تقديم التنازلات ودفع الضرائب، ما الجزء الذي لا يفهمه النظام من كلمة: حرية؟

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى