صبحي حديديمراجعات كتب

إدوارد سعيد والسماء الأخيرة/ صبحي حديدي

 

 

 

في لائحة أعمال إدوارد سعيد ثمة كتاب بعنوان «بعد السماء الأخيرة: حيوات فلسطينية»، غير معروف نسبياً على نطاق العالم العربي، يتسم بسلسلة خصائص في الموضوع واللغة والأسلوبية العامة تُفرده عن مجمل نتاج الراحل. بدأت فكرة هذا الكتاب من ظروف غريبة جمعت سعيد مع جان موهر، المصوّر الفوتوغرافي السويسري من أصل ألماني، الذي سبق أن تعاون مع الروائي والناقد الفني البريطاني جون بيرغر في ثلاثة أعمال، كما أصدر مجموعة ألبومات تتناول الفنون والثورات والحروب وموجات النزوح والهجرة.

ففي عام 1983 كان سعيد يتعاون مع هيئة الأمم المتحدة في تنظيم «المؤتمر الدولي حول قضية فلسطين»، وارتأى تكليف موهر بالتقاط صور فوتوغرافية تُعلّق في مدخل المؤتمر، وتعبّر عن حيوات الفلسطينيين في مختلف مناطق إقامتهم، داخل فلسطين وخارجها. المفاجأة الغريبة كانت موافقة إدارة المؤتمر على الفكرة، شرط أن تخلو الصور من أيّ تعليقات تشرحها؛ وبعد أخذ وردّ تمّ التوصل إلى تسوية تتضمن ذكر اسم البلد الذي التُقطت فيه الصورة فقط (الأردن، سوريا، لبنان، الضفة الغربية، قطاع غزة).

وهكذا قرّر سعيد وموهر وضع كتاب يحتوي على غالبية تلك الصور، ليس مع شروحاتها كما سجّلها المصوّر ساعة التقاطها، فحسب؛ بل مع نصوص مطوّلة كتبها سعيد خصيصاً، وامتدت على مقدّمة وخمسة فصول.

ويحلو لي، شخصياً، الافتراض بأنّ هذا الكتاب، صوراً وليس نصوصاً فقط، هو الأقرب إلى التعبير التطبيقي عن تفضيل سعيد لمدرسة «دراسات التابع» الهندية الشهيرة، التي أطلقتها في مطلع ثمانينيات القرن الماضي كتابات رانجيت غوها وإريك ستوكي حول تاريخ الهند بصفة خاصة. وهذا التيار استلهم توصيف المفكر الإيطالي أنتونيو غرامشي لشخصية «التابع»، المهمش والمستبعَد والمستعبَد والمقموع. وهكذا، في «بعد السماء الأخيرة»، قرأ سعيد التاريخ الفعلي، البشري المادي القائم في الزمان والمكان، لسلسلة نماذج فلسطينية؛ مبتدئاً من افتراض طريف، لكنه عميق الدلالة: رغم وجود أدبيات كثيرة تصف فلسطين والفلسطينيين، خاصة تلك التي سطرها الفلسطينيون أنفسهم، فإنّ الفلسطيني يظل مجهولاً نسبياً، بمعنى أنه لا ينتمي إلى شعب بقدر تمثيله لذريعة حرب وصراع ونزاع. يكتب سعيد: «منذ 1948 كان وجودنا من طراز أقلّ. عشنا الكثير الذي لم يُسجّل. قُتل منا الكثيرون، وأصابتنا ندوب، وأُخرسنا، دون أن نترك أثراً. والصورة التي تُستخدم في تمثيلنا لا تقوم إلا بإنقاص حقيقتنا الفعلية أكثر. وعند الكثيرين لا يُرى الفلسطيني أساساً إلا في هيئة المقاتل أو الإرهابي أو المطارَد».

هذه، استطراداً، قراءة شخصية وذاتية للفلسطينيين كجماعة وطنية مشتتة؛ «فاعلة، مفعول بها، فخورة، رقيقة، بائسة، طريفة، لا تُقهر، ساخرة، ارتيابية، دفاعية، واثقة، جذابة، آسرة…». لكنها، في غمرة هذا كله، أسيرة السؤال الجاثم في قصيدة محمود درويش، والذي يستمدّ الكتاب عنوانه منها: «إلى أين نذهبُ بعد الحدود الأخيرة؟/ أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة؟/ أين تنام النباتات بعد الهواء الأخير؟»… بذلك فإنّ الكتاب لا يندرج في أعمال سعيد النقدية، من حيث الشكل والمحتوى بالطبع، بل يراوح ــ ببراعة قصدية ملحوظة، وفي إطار نقلات أسلوبية لا تخفى ــ بين الموضوع الفلسطيني السياسي الذي بات سعيد ناطقاً بليغاً بملفاته المختلفة المعقدة؛ وبين نزعة تأريخ القضية الفلسطينية والشخصية الفلسطينية عبر تقنيات السرد والسردية؛ فضلاً عن تقنيات استكشاف التاريخ الباطن، كما اقترحتها دراسات التابع.

ورغم ذلك فإنّ الأدب، ثمّ النقد الأدبي استطراداً، لا يغيب نهائياً عن الكتاب، بل لعل حضوره من خلال أسماء غسان كنفاني وإميل حبيبي ومحمود درويش وتوفيق زياد وجبرا إبراهيم جبرا ومعين بسيسو وهشام شرابي يذهب بالأدب نحو أقصى ما تتيحه المخيلة الإبداعية عند تمثيل الشخصية الجَمْعية التي، في ذروة انفرادها كما شدد سعيد، لا تملك إلا تمثيل هذه أو تلك من السمات الأعمق للاجتماع الفلسطيني. والحال أنه يصعب أن نعثر في أيّ عمل من أعمال سعيد على لغة بهذه البلاغة العالية، وعلى انسراح المفردة نحو مناخات تصويرية أخاذة، وارتقاء النثر إلى سوية قصوى من التمثيل والتصوير والتجسيد والتشبيه، أو توظيف العبارة على النحو الأعلى إيعازاً دون نبرة خطابية، والأبرع توصيفاً دون تهويل ميلودرامي.

وبين الخيارات الشعبية الشائعة التي لفتت انتباه سعيد، ثمة نزوع الفلسطينيين الشباب إلى رياضات كمال الأجسام، والمصارعة، والملاكمة، والكاراتيه؛ الأمر الذي لا يقتصر تفسيره على هدف اكتساب القوّة، بقدر ما هو أيضاً رغبة عارمة في تأكيد الذات، و«الإلحاح على تفاصيل لا صلة تجمعها بالغرض العقلاني». هنالك أيضاً ذلك التشابه العجيب في عادات تأثيث البيوت، الثرية أو المتواضعة على حدّ سواء، وفي عادات المأكل والمشرب (وموهر يرصد، ببراعة وجماليات آسرة، أثاث البيت الفلسطيني وموقع الطعام فيه، بين المآدب الفخمة والسُفرة على الأرض، في مدن فلسطين وبلداتها، وفي المخيمات والمنافي).

والذكرى السبعون للنكبة لا تعيد التذكير بهذا الكتاب البديع، فقط؛ بل تستعيد فلسطين، التي إذا غُطيت خريطتها بالأساطير والرموز والأيقونات والدروب التي طرقتها كلّ الشعوب التي عاشت هنا… فلن يتبقى فضاء للأرض ذاتها، يفترض سعيد!

القدس العربي،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى