صفحات الرأي

إرهاب برشلونة: عمق المشكلة وتناقض الأبعاد/ شفيق ناظم الغبرا

 

 

 

من الذي يستطيع منع سيارة تهاجم المارة وحامل سكين يسعى لحصد ما يستطيع من الأبرياء؟ وكيف تمكن السيطرة على شيخ سجن بسبب جرم ثم نجح من سجنه بإقناع شبان صغار يشعرون بالعزلة الاجتماعية والفئوية والثقافية بالقيام بعملية ضد مدنيين أبرياء؟ القصص ذاتها تتكرر، العنف يتطور في السجون، والشاب الضائع الذي يعيش بلا هدف يجد المعنى في سجنه وعزلته وخوفه وانتقامه من نفسه ومن الآخرين الذين لا يعرفهم. القصص تتوالى منذ زمن الزرقاوي في الأردن، وصولاً الى خلية برشلونة اليوم. إن الأعمال التي يقوم بها تنظيم «داعش»، بعد خسارته «عاصمته» في العراق، كما وقع في برشلونة منذ أيام وفي مدن أوروبية عدة، هي انعكاس لحالة لا يبدو أن علاجها متوافر في المدى المنظور. حوادث العنف في العالم والتي يقوم بها شبان ينتمون للعالم العربي مرآة عاكسة لعلاقة الشرق بالغرب والمجتمعات ببعضها بعضاً، وهي انعكاس لفشل تعامل العالم العربي مع نزاعاته وخلافاته.

إن جنون العنف يبدأ في مجتمعاتنا منذ الطفولة لكنه ينطلق من المنزل الى المدرسة، كما نراه في الشارع والناحية والمصنع ومكان العمل، وهناك جانب من العنف والكراهية نأخذه من الثقافة التي تعتمد الحفظ وترفض التقييم والنقد والرأي والرأي الآخر. العقدة الأكبر والأخطر كانت وما زالت في تعامل الدولة مع المواطن وصاحب الرأي والعامل والفلاح وأبناء الطبقات المهمشة. في هذه الزاوية، يقع الإشكال الأخطر والانفجار الأوسع.

إن العنف أمر مكتسب في المجتمع العربي، فصناعته مرتبطة بأوضاعنا العربية وبطريقة تعامل نظامنا السياسي مع الثقافة النقدية والحرة، مما يحد من بروز ثقافة إنسانية تحتفي بالإنسان وإنتاجه كما تتبنى قيم العدالة والتصدي للظلم. إن العنف الذي يمارسه النظام السياسي العربي كالسجن والإخفاء والخطف والإبعاد والاضطهاد بحق المختلفين والمعارضين والنقاد هو من طبائع السلوكيات الرسمية التي تنتشر في طول البلاد العربية وعرضها. إن فشل النظام العربي في التعامل مع الاختلاف سواء كان اقتصادياً أم قضائياً وحقوقياً وسياسياً مسؤول عن العنف والإرهاب العربي. هذا النمط من العنف الرسمي يولد بين فئات المجتمع وأفراده عقلية تتشبه بعقلية النظام السياسي.

يغادر الناس البلدان العربية بسبب محدودية الفرص وانتشار الفساد وضيق أفق النخب وشدة القمع. فالعرب ممن يتركون أوطانهم يتكبدون الأسوأ ويتعرضون للأخطار لمغادرة بلدانهم. عدد المعارضين العرب في المنافي سيساوي في أحد الأيام عدد شعوبها في أوطانها، فالأمة طاردة للشعوب والطوائف والفئات والأقليات والغالبيات، ولنا في ما وقع في سورية والعراق وغيرهما من دول العرب نموذج لعقلية الطرد الجماعي. إن من يتركون العالم العربي يحملون معهم شعوراً بالألم والضيق ويشعرون بالعنف الذي مورس على أجسادهم وأرواحهم. لهذا وبطبيعة الحال ينقلون للأوطان الجديدة ولعائلاتهم وأبنائهم وبناتهم المولودين في الغربة مخاوفهم وارتباكهم مع الحياة. في النهاية، يترك من يغادر العالم العربي من المهمشين و «المستضعفين» عالماً خاب ظنهم به ويذهبون الى عالم آخر بلا خبرات ولا قدرات ولا ثقافة حياة تسمح لهم بالتأقلم والنجاح في العالم الجديد. لهذا من الطبيعي أن يجدوا أنفسهم في أدنى السلم، حيث تتفاقم معاناتهم ومعاناة أسرهم نتيجة عزلة ثقافية واجتماعية وحياتية كبرى. هذه حالة مربكة لأكثر الناس توازناً.

العالم العربي بطيء في التغير والتأقلم، فهو ينتج الفساد وأساليب الاجتثاث. ربما يصح القول إن العالم العربي هو آخر مواقع الاستبداد، بشكله الأشد في المعمورة. قطاع كبير يعاني من الاجتثاث في دول عدة. بل يبرز في الساحة العربية من يدعو لمزيد من الإقصاء والاجتثاث للأطراف غير الممثلة في السلطة السياسية، وعادة لا يعبأ من يدعو للاجتثاث بما سيقع في اليوم التالي، بل قلما يستطيع دعاة الاجتثاث رؤية تلك العلاقة الجنونية بين الاجتثاث من جهة وبين التحول الى الراديكالية والعنف والسلفية الجهادية من جهة أخرى.

الدعوة للتصفيات والملاحقات ومنع الحق في التعبير تتضمن سعياً لاستمرار الديكتاتورية في المجتمعات العربية وعزلاً لقوى اجتماعية قادرة على التأثير الإيحابي في قطاع كبير من المجتمع العربي. هكذا نجد في الغرب ”فوبيا الإسلام“ والخوف من الإسلام، لكننا نجد في الشرق العربي الاستبدادي «فوبيا» الخوف غير المبرر من فئات متهمة لكونها معارضة. في واقع كهذا لا توجد مؤشرات الى نهاية العنف، بل تشير كل التوقعات الى ارتفاع وتيرته في الزمن القادم.

نظام الاستبداد العربي قلما يحقق انتصاراً في الاقتصاد والتنمية والحرية والتعليم والاكتشاف والمسرح والسينما واللغة والموسيقى والطب والهندسة والصراع مع إسرائيل والصهيونية أو حتى إيران أو السيطرة الأميركية على الدول العربية، لهذا يبحث عن انتصارات وهمية ومعارك لا تبدو مبنية على أسس. سنجد في إقليمنا مدرسة تتخصص في حملات اجتثاث ضد الأطراف الضعيفة. هذه مدرسة تفضل أن تهاجم الشعب بدلاً من حكومته وتتهم الشعب بالفساد عوضاً عن الفاسدين. إنها مدرسة تفضل أن تقصي أقلية وطائفة وتمنع كل حرية على أن تعيد النظر وتبدأ إصلاحاً مسؤولاً. إن العجز عن نقد الدولة ومساءلة القادة ونقد الاستبداد هو أصل الداء العربي قديماً وجديداً.

العالم سيلاحق الدول العربية كما سيلاحق كل الأمة بسبب هذا العنف، كما سنلاحق نحن العرب بعضنا بعضاً في رحلة انتقام متبادل لا تتوقف. سيلوم كل منا الآخر على العنف، بينما يستمر حال تدمير العرب بواسطة العرب. الكراهية في العالم ستشملنا جميعاً، وسيسأل العالم عن الجذور التي تجعل من العنف طبيعة من طبائع الواقع العربي. إن ملاحقة من يقوم بالعنف كـ «داعش» أو «القاعدة» هي تعامل مطلوب، لكنه تعامل شكلي مع مظاهر العنف وابتعاد من جوهر المشكلة. لإيقاف العنف، على النظام العربي أن ينظر في مرآته وصورته وطريقة تعامله مع معارضاته التي تجوب الكون. على النظام العربي أن يتمعن في اضطهاده النقاد وفي اتهامه المعارضين السلميين بالإرهاب. على النظام العربي أن يعيد النظر فيسمح بتشكيل أحزاب مخالفة وإعلام حر، ويتوقف عن انتهاك الحقوق وتجريد المواطنة. عندما يقوم النظام العربي بذلك سيتنفس العالم الصعداء وسيجد أن جانباً كبيراً (باستثناء ذلك الذي تنتجه الصهيونية) من العنف المنتج في واقعنا السياسي بدأ يتراجع.

* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى