صفحات سوريةمازن عزي

إرهاب يكافح إرهاباً/ مازن عزي

 

 

الخلط بين الإرهاب والعنف في المسألة السورية، يكاد يكون منهجياً، حتى باتت معه كل الأطراف، بما فيها الموسومة بالإرهاب، تحارب “الإرهاب”. وفي حين يبدو الفصل بين مفهومي السلطة والعنف، في الحالة السورية، شبه متعذر، فقد بات إحلال وصف “الإرهاب” بديلاً عن العنف، وسيلة لتبرير أفعال سلطات الأمر الواقع على الأرض.

على الأرض السورية، ثلاثة أحلاف دولية وإقليمية تنازل الإرهاب: “التحالف الدولي” برعاية أميركية، وتحالف “الممانعة” الروسي-الإيراني، وتحالف إسلامي ينتظر دوره. مجموع الدول المشاركة في “مكافحة الإرهاب” يزيد عن السبعين، هذا عدا عن الأطراف المحلية-الإقليمية، التي ترتكز مشروعية انخراطها في الشأن السوري على “محاربة الإرهاب”، كمليشيا “حزب الله” اللبناني ومليشيا “الحرس الثوري” الإيراني. وتلك المليشيات وإخواتها، ذات التابعية لولاية الفقيه، تخوض حرباً، مهما تعددت موجباتها الفقهية الجهادية، من حماية مقامات الشيعة إلى استعجال ظهور المهدي، فسيبقى تبريرها السياسي الذي تسوّقه لها طهران هو “محاربة الإرهاب” السني. لكن كيف يمكن لتنظيمات مصنفة أميركياً وأوروبياً، بالإرهاب، أن تبرر لحربها بمكافحته، لا بل إن فعلها يتم في حال من القبول بدورها الراهن، من قبل واصميها. الأمر يستدعي التساؤل عن ماهية “الإرهاب” الذي يتيح لكيان، عسكري أو سياسي، إمكانية الحلول فيه ومنازعته، في الوقت ذاته، مع الحفاظ على وحدة وجوده.

المشكلة ظاهرياً تبدو في التوافق على تصنيف الإرهاب وجماعاته، وهو أمر سرعان ما اتضحت صعوبة الخوض فيه على أرضية التجاذب السياسي للقوى الإقليمية والدولية. ما يحيل إلى السؤال عن المعايير المستخدمة للفرز والمستندة إلى السمات السحرية التي تجعل الإرهاب إرهاباً. لا بل أن هناك ميلاً ثقافياً، إلى تعميم الوصف بالإرهاب، ليخرج من إطار المجموعات المسلحة، إلى صبغ السنّة كطائفة وجماعة أهلية، بكمون الفعل الإرهابي في بنيتها العقلية. إعادة قابلية اﻹرهاب إلى جماعة أهلية، يحمل في الوقت عينه، عمقاً لا يقل إرهاباً، يتمثل في تحويل أي عضو في الجماعة السنيّة إلى مشروع إرهابي. تغييب الدوافع الاجتماعية والبنى السياسية والفروق المحلية، عن سياق الفعل “الارهابي”، يحيل بالضرورة إلى ضرب من العبث بالتاريخ، وتكريس هويات نهائية سحرية. هذا عدا عن مغالطاته المنهجية، فهو يسعى إلى وصف عنف صادر عن مجموعات مسلحة تنتمي إلى جماعة بعينها، بالإرهاب، في حين تسقط موجبات التوصيف لعنف مماثل من قبل جماعات أخرى لأسباب سياسية. كما أن المنطق المتبع لرمي خصوم السياسة بالإرهاب، عدا أنه غير مجدٍ، فهو يقوم على تضليل أساسي، يرفع من قيمة أي عنف صادر عن الخصم إلى مرتبة اﻹرهاب. وفي السياق السوري، نجحت بروباغاندا النظام وحلفائه في تثبيت “الإرهاب” كعلامة مسجلة للسنة. وهذا يحيل إلى أن الخطاب المهيمن على الحقل الخطابي العام، هو سردية “الممانعة”، ما يعكس بالضرورة ميل ميزان القوى باتجاهها.

الأزمة الرئيسية في التعاطي مع ملف الإرهاب، هي في ضرورة فك الالتباس القائم بين تعميماته، وما يستتبعها من تعمية وتضليل. والإرهاب ليس إلا حكم قيمة سياسية، لتجريم العنف، الذي يصعب وجوده في معزل عن السلطة. والسلطة بهذا المعنى، في الحالة السورية، هي سلطات الأمر الواقع، سلطات النظام والمعارضة، وسلطات الأحلاف الإقليمية والدولية. والعنف كما تذهب حنا أرندت، هو الوسيلة التي تلجأ إليها السلطة، في طور ضعفها، أو الظاهرة التي تحدث في غياب السلطة.

وإذا أمكن رد انطلاق الثورة في سوريا إلى إنكشاف السلطة أمام مناوئيها ولجوئها إلى العنف كوسيلة وحيدة لاخضاع المحكومين الذين تحسسوا عجزها عن السياسة وانتفاء شرعيتها، فهل يجوز الحديث عن حالة استثنائية تتماهى فيها السلطة، كجماعة تعمل بتناغم، إلى مجموعة تنفيذية للعنف؟ وكيف يمكن هنا تفسير بقاء جماعات أهلية بكاملها تدعم السلطة، وتوافقها مع فعلها العنفي، بما في ذلك سنّة دمشق. ألا يحمل الأمر تناقضاً، في الابقاء على عقد اجتماعي منقوص، يخوّل السلطة تبرير عنفها تجاه شركاء الأمس في الوطن؟

الوهن والانحطاط في السلطة يقود إلى العنف، والعنف يستتبع بالتالي ردوداً عنفية. الأزمة في سوريا، بهذا المعنى، هي انتشار للعنف حتى حدوده القصوى، وتشكّل سلطات ثانوية تدين بالعنف كوسيلة لاخضاع الخصوم. النظام السوري ومعارضاته، أصبحوا سلطات محلية تستخدم العنف، وتجد فيه الوسيلة للبقاء. المشكلة الرئيسية هنا تبقى في تبرير العنف، ووصفه في حالة السلطة السورية وحماتها الإقليميين والدوليين، بـ”مكافحة الإرهاب” السنّي. إلا أن مكافحة الإرهاب لا تعدو كونها تبريراً للعنف، تتقاذفه الأطراف المتحاربة من دون أي شرعية. فلا شرعية للعنف، مهما طال زمن حدوثه. وكل تبرير يستند إلى نتائج مستقبلية، لا يمكن التأكد من تحققه، ولا يعدو في نهاية المطاف كونه تبريراً. وكلما زاد الشد على وتر “محاربة الإرهاب”، كلما انتفت شرعية السلطات التي تعزف نغمته التبريرية. على العكس من ذلك، تبدو الشرعية أمراً يزداد ابتعاداً عن مجمل الجماعات المقاتلة، وبالأخص تلك الدائرة في فلك السلطة السورية، كون الشرعية فعلاً أصيلاً قائماً على الإجماع، ويستمد راهنيته من الماضي التوافقي للقوى ضمن المجتمع السياسي.

وكما هو حال أزمة تبرير السلطة للعنف، تجهد الجماعات اﻹسلامية المقاتلة في نسج مخيال يربط انتصارها المستقبلي بوعود إلهية حصرية. فغياب الحاضر، والإغراق في متخيل ماضوي، لتبرير العنف، هو افقار لشرعية سلطات الأمر الواقع، وتحويلها إلى مجموعات متقاتلة، لا يمكنها إلا الاستمرار في القتال. وفي حين يبقى الدفاع عن الذات، شرعية تحوزها سلطات المعارضة، لكنها تفشل يوماً بعد يوم، في الانتقال به إلى حيّز الإجماع، ما يبقيها أسيرة صراعاتها الداخلية العنفية، وتعدد مرجعياتها الجهادية.

مشكلة العنف في سوريا، باتت تتجاوز التعريفات الكلاسيكية له. فهل يمكن اليوم الحديث عن دولة تحتكر العنف الشرعي، على ما يذهب إليه ماكس فيبر، في ظل تفتت السلطات وتعدد تبريراتها. وهل يمكن الركون إلى سلطة طبقة حاكمة تستخدم الدولة وعنفها ﻹخضاع بقية الطبقات، على ما يقوله ماركس، في ظل الانقسام الشاقولي الذي أصاب الدولة والمجتمع. أم أن العنف تجاوز وظيفته الأداتية كوسيلة، وصار غاية في حد ذاته، تمارسه جميع الأطراف مع اختلاف منسوب القوة لديها، باحثة عن تبرير له، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يعطيها أي شرعية. فنهاية العنف، هي بداية تشكل الحكم، وحيازة الشرعية، وهذا ما لا يملكه أحد من المتقاتلين اليوم.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى