صفحات مميزةمعتز حيسو

إشكالية الشباب السوري/معتز حيسو

تظاهر الشباب للتعبير عن ذاتهم، وللمطالبة بالتغيير الوطني الديمقراطي السلمي، الذي يستوجبه تراكم الأزمات على مدار عقود من التفرد السياسي وغياب العدالة الاجتماعية.

لكن ما حصل من تجاوزات وارتكابات وانتهاكات وتناقضات وادعاءات أنوية، تزامنت مع تصاعد موجات التدمير الذاتي، ساهم في إجهاض الحراك السلمي، وتحويله إلى كارثة سياسية واجتماعية وطنية تنبئ بانتكاسات وانكسارات بنيوية في الدولة والمجتمع.

ويكمن خلف أسباب تراجع حراك الشباب السلمي، تاريخ من الإحباط السياسي والانكسار الاجتماعي الذي تحوّل في اللحظة الراهنة إلى أزمة وطنية نتيجة تداخل العديد من العوامل التي دفعت وتدفع بأدوات ظلامية، ليس لتغيير مجرى الحراك الوطني السلمي فقط، بل لإجهاض أي تغيير وطني ديمقراطي، يمكن أن يقطع مع الاستبداد ويحد من تبعية المجتمعات العربية لقوى رأس المال العالمي. فالتباين في أشكال النظم السياسية الحاكمة لا يعني لرأس المال شيئاً، ما تحقق له الاستقرار والتراكم. وبالنسبة إلى قوى رأس المال، فإنها تعمل على تحويل دول المنطقة إلى بؤر متوترة لتصفية الحسابات الدولية، ورفع وتيرة تصريف الأسلحة، لضمان تبعيتها وارتهان إرادتها للحكومات الإمبريالية. ومن البديهي أنّ حلّ أزمة الاقتصاد العالمي يكمن في إعادة تقسيم الثروات العالمية، واستنزاف الطاقات البشرية والاقتصادية العربية، وإخضاعها لسيطرة رأس المال العالمي الذي ستزداد أزمته عمقاً فيما لو تحررت مجتمعاتنا من قبضته. لهذا نرى أن هذه الدول تشتغل على إجهاض أي تغيير ديمقراطي حقيقي، حتى لو قادها ذلك إلى التعامل مع الجهادية التكفيرية وأنظمة الاستبداد والتسلط والتخلف.

فلغة العنف المحمولة على أيديولوجيات التخلف والقهر، فتحت على السوريين أبواب جهنم. فكانت بوابة للتدمير الذاتي بأدوات سياسية وعقائدية مغلقة، لكنها عابرة للحدود والجنسيات.

من زاوية أخرى، كان لفشل القوى السياسية التي لم ترتقي لتكون حاملة لمشروع التغيير الديمقراطي، دور أساس في تشظّي وتفتّت وانقسام الشباب وتخلّيهم عن ساحات الحراك السلمي. وتُعتبر الأزمة البنيوية للمعارضات السياسية نتاجاً لحقبة تاريخية اتسمت بالشمولية العميقة والعقائدية الشكلانية. فانعكاس سياسات الأنظمة السائدة لم ينحصر تأثيره على بقايا المعارضات، بل طال المجتمع بكليته وتحديداً الشباب. وكان هذا واضحاً في التناقضات البنيوية والعصبوية التي طفت على سطح الأزمة السورية. وما يشهده المجتمع من استقطابات قهرية يدلل على أزمة اجتماعية بنيوية تشمل السياسة والفكر والوعي.

إن بنية الأحزاب السياسية المعارضة المأزومة، وتركيبتها السياسية المتداخلة والمتقاطعة مع البنية الشمولية لبنية السلطة المسيطرة، أثّرت بنحو سلبي ومتناقض على آليات تفكير الشباب وعملهم. وإذا كان بروز القادة الميدانيين حاجة موضوعية، فإن عجز الحوامل السياسية عن قيادة المرحلة ديمقراطياً، ساهم في تغييب العقلانية السياسية والوعي الديمقراطي عن غالبية الشباب. فكان من السهولة بمكان انحرافها والحراك أمام موجات العنف، واعتماد الآليات ذاتها. وما زاد من أزمة الحراك هو انقسام المعارضة إلى كانتونات إشكالية، واعتمادها آليات تحريضية أبعد ما تكون عن التفكير السياسي العقلاني. فكانت الوجه السلبي والمشوه للحراك، والوجه الآخر للسلطة. هذا إضافة إلى ارتباط بعضها بقوى دولية تشتغل تحت ذريعة إسقاط النظام على تدمير البنية السياسية والمجتمعية السورية. وفي اللحظة التي كان على القوى السياسية أن تكون الحامل الموضوعي للحراك، فإنها تحولت من أجل تحقيق مصالحها الخاصة واحتكار تمثيل قوى «الثورة» والشعب إلى أشباه قوى محمولة على الحراك الذي أسهمت وقوى الخارج وأصحاب الحل الأمني في إجهاضه وتحويله عن مساراته الحقيقية، دافعة به إلى العنف، ومشاركة في خلط الأوراق الذي تجلى أخيراً في موقف قادة معارضة الخارج الملتبس من المجموعات الجهادية المدفوعة بأيديولوجية عنفية أحادية تكفيرية ومسلحة بقوى الظلام الدولية.

وبحكم المناخ السياسي الذي يقطع مع كافة أشكال الحراك السياسي والمدني المستقل، كان لا بدَّ للشباب من تعلّم لغة سياسية مبنية على وعي ديمقراطي. ولأن السياسة والثقافة الحداثية غائبتان ومغيّبتان عن الشباب، فإنهم لم يستطيعوا إتقان وتعلم آليات العمل الديمقراطي، فخرجوا من ساحات الحراك أمام تنامي المظاهر العنفية. فكان خروجهم مدخلاً لأصحاب العقائد العنفية المقدسة ومتسلقي الحراك الفاسدين، للهيمنة على الشارع وتوجيهه كما يريدون وبما يخدم مصالحهم، ومصالح الأطراف المشاركة في استنزاف الدم السوري. إضافة إلى ذلك، فقد تجلّت بوضوح ظاهرة التطهّر في ساحات التظاهر، والمقصود، هو المشاركة في التظاهر من أجل إخفاء العيوب والمفاسد الذاتية في سياق وإطار من الادعاءات الكاذبة التي وصلت إلى حد الارتباط بجهات اشتغلت على إجهاض الحراك وتفكيك مكوناته الاجتماعية والفكرية. فاختلطت الأمور وخرجت عن سياقاتها وأهدافها. فكانت بعض الشعارات، تعبيراً عن انحدار مستوى وآليات المشاركين الذين كانوا يعكسون في كثير من اللحظات أهدافاً خارجة عنهم ومنافية للتغيير الديمقراطي، ليطفو على السطح، وتحديداً لحظة الصراع الدموي، أسوأ ما في المجتمع السوري. وليس أقل من هذا سوءاً، اشتغال البعض على استغلال الحراك لتحقيق مصالح فردية وجهويه خاصة. وكان هذا يصبّ في مصلحة الأطراف المناوئة للحراك. فانكفاء الشباب الواعي نتيجة عجزه وفشله الذي تقاطع مع عجز أشباه القوى السياسية وموجات العنف العارية، وتداعي المجموعات الجهادية (لنصرة الإسلام والمسلمين في سورية) فتح المجتمع على بركان العنف. وملاحظ أن بعض الأطراف السياسية ومن يدّعي المعارضة ممن هرب خارج الحدود، واندمجوا بدول تحارب أي تحول ديمقراطي، تحوّلوا إلى أدوات لتنفيذ أجندات دولية وإقليمية هدفها تدمير ما تبقى من كيانية الدولة وتفتيت المجتمع الذي يجري الاشتغال على إدخال مكوناته في صراع لا يخدم إلا مصالح إسرائيل وبعض الدول الضالعة في الأزمة.

كذلك فإن عقوداً من السيطرة الأمنية والسلطة الشمولية كانت مسؤولة عن تغييب الشباب وتهميشهم، وتدمير بقايا الحياة السياسية، وعن انزياح الحراك السلمي إلى آليات وأدوات عنفية قهرية، يتربع على سدتها أمراء الحرب بكافة تنويعاتهم وانتماءاتهم، ليتحول الوطن إلى ساحات حرب دامية، تعج بروائح الدم ومظاهر العنف والحقد والتعصب والهدر التي فتحت المجتمع السوري على المجهول.

أما في ما يتعلق بنتائج ما يجري، فإنه لم يتوقف عند انكفاء الشباب الحالم بالتغيير، بل انعكس وينعكس على ذواتهم بأشد الأشكال والمستويات مأسوية. فهم لم يعودوا قادرين على العودة إلى سابق عهدهم. فتشجيع فريق رياضي والتعصب له، أو تمضية الوقت بين دفتي الكتاب أو عودتهم إلى قارعات شوارعهم الحافلة بالذكريات، أو تمضية بعض الوقت أمام الكومبيوتر والتلفاز، لم تعد ممكنة، وإن توافرت في بعض اللحظات، فإنها لا تستطيع أن تنتشلهم من حالة الإحباط واليأس. فالفراغ ملأ أوقاتهم. وجلّهم لم يعودوا قادرين على متابعة تعليمهم، وشوارعهم مغلقة دونهم. والحياة الطبيعية شبه معدومة، ويومياتهم المعتادة باتت من الذاكرة، فحل مكانها الإحباط والاستقطاب واليأس والعجز. والأخطر، هو توظيف الدين وتململ الشباب من واقعهم واستغلال مشاعرهم وحماستهم لدفعهم إلى ميادين القتال.

إضافة إلى ذلك، فإن الهجرة القسرية في الداخل واللجوء إلى الخارج، صعّدا من حدة الاستقطاب والتعصب والظلم في سياق الاصطفاف القهري الذي يحصل في كثير من الأحيان على أسس الانتماء العقائدي السياسي والمذهبي المفرغ من مضامينه الحقيقية.

فمحاولات التفرد من قبل بعض الأفراد والمجموعات، واشتغالها على السيطرة والتحكم في دفة الصراع، عبر نزعات أنوية متضخمة وادعاءات غير صحيحة، كان من نتائجها المزيد من الإقصاء والتخوين واعتماد العنف المتبادل، حتى بين الأطراف التي تدّعي تمثيل «الثورة»، وأيضاً إقصاء الشباب السلمي وأصحاب العقلانية السياسية الذين لا يرون في العنف مخرجاً من الأزمة، وتخوينهم واتهامهم بالعمالة من قبل أطراف الصراع. هذه الآليات وغيرها كانت تُمارس من أجل دفع الشباب إلى حقل العنف. كذلك فإن خروج الشباب من ساحات الحراك السلمي وانكفاءهم كانا مرتبطين بدخول المجموعات الجهادية التكفيرية على خط الصراع، ليرتفع بذلك مستوى التوتر والعنف والاستقطاب الذي أحدث تحولاً في أهداف التغيير الديمقراطي ومساراته وآلياته.

إضافة إلى كل ما سبق، فإن الأسرة التي كانت تمثّل الحضن الدافئ لم تعد كذلك، فقد حولتها تناقضات الأزمة إلى كيان مضطرب مهدد بالتشظي والتفتت وحتى الانهيار، وما ازدياد حالات الطلاق والانفصال والهجر وانقطاع أشكال التواصل بين أفراد الأسرة إلا دليل على ذلك. فالشباب لم يعودوا يرون في شكل الأسرة وواقعها ملاذهم الآمن. ومع هذا فإن بقايا القيم الأخلاقية وقليل من الهدوء والعقلانية… تبقى الضامن لتماسك الأسرة.

إن جميع العوامل التي استعرضناها ساهمت في ارتكاس الشباب إلى تشكيلات المجتمع الأولية، وإلى أكثر السلوكيات إشكالية. وما الانغلاق على الذات أو الانفتاح العبثي غير المعقلن إلا تعبير عن واقعهم المأزوم. فطريقهم إلى المشاركة في الحراك كان محمولاً على الكثير من الأحلام والآمال. أما طريق عودتهم فإنه محملاً بالإحباط واليأس، وبالمزيد من الإحساس بالعجز والفشل والخيبة والمرارة، وبفقدان الثقة بالمعارضة التي تزداد تفتتاً وعجزاً وارتهاناً، وبالسلطة التي عجزت حتى اللحظة عن إيجاد حل يحفظ دماء السوريين، وبأطراف الصراع المسلح التي تعتاش على الدماء والجثث والخراب. وهذه العودة تحمل الكثير من التخلف الاجتماعي والنكوص إلى عمق الوعي المتخلف، الذي يجري استنهاضه واستثارته بأدوات عقائدية قهرية وعنفية تهدد المستقبل السوري بمزيد من الكوارث الاجتماعية والإنسانية.

فالشباب في اللحظة الراهنة على عتبة الضياع وتلاشي الحلم. فهم لم يعودوا يفتقدون الثقافة والسياسة العقلانية فقط، بل باتوا يفتقدون في ظل العنف الطاغي الذي يدمّر ذواتهم ويطحن أحلامهم، آدميتهم وإنسانيتهم. وحتى الآن، فإن آفاق إنقاذ ما تبقى للشباب من قيم وفكر وإنسانية وكرامة، ما زالت مسدودة، أو بنحو أدق يجري الاشتغال على إغلاق الأبواب دونها.

أمام هذا العجز، لا يسعنا إلا التأكيد على العقلانية السياسية والتمسك بالمفاهيم والقيم الوطنية الكبرى، حتى وإن بدت مخالفة للضرورة التاريخية التي يحاول رسم ملامحها صنّاع الحروب التي تطحن المهمّشين والمستضعفين الذين تحولوا إلى أدوات في بركان العنف الذي يحتاج استمراره إلى مزيد من الوقود والضحايا.

* باحث وكاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى