صفحات المستقبل

شرطي الحمراء يلوي ذراع فتى درعا

 

فتون رعد

منقوشة صعتر أو بيضة مسلوقة، “غذاء” يكفي وائل (اسم مستعار) لـ12 ساعة عمل كماسح أحذية في شارع الحمراء في بيروت. الطريق من منزل الفتى الذي يبلغ خمسة عشر عاما من العمر، من بئر حسن إلى الحمراء تعيد إليه بعض ذكريات مدينته درعا السورية، التي لم يتمكّن من زيارتها منذ سنتين.

يستعيد وائل وجوه أهله الحزينة، وخوفه اليوميّ من قسوة الأزقة. مضى على وجوده في لبنان خمس سنوات، منذ أن أوفده ذووه ليعمل ويعيلهم بمئة دولار يرسلها شهرياً إليهم مع سائق أجرة.

في ظهيرة جمعة مكتظّة، حيث يكاد المارّة لا يرون فيها أبعد من مقصدهم، كان وائل في شارعه كالعادة. الصندوق، باب رزقه، على خصره، وأحذيتهم مشروع صيد بالنسبة إليه. بـ”شطارته”، عليه أن “يتلقّط” بالزبائن قبل منافسيه، وهم منتشرون في كلّ الزوايا. عند إحدى الإشارات شرطيّ سير يرفض ملل وروتين وظيفته، ويقرّر أن يُدخل عليها مهمة جديدة. يلحق وائل برجل عابر، عارضاً عليه مسح حذائه. يلحّ بالطلب، فيتأفف الرجل. الشرطي لها! يتّجه نحو وائل، تاركاً الإشارة والازدحام ونقطة التقاطع المحورية في المنطقة: “ولاه يا ابن الـ.. شو عم تعمل للعالم؟! ما قلتلك ما بقا بدي شوفك هون!”.

لا تحتاج الجملة إلى الصفارة المعلّقة على رقبته. سخّر الشرطي “قدرات” حنجرته، واستجمع كل ما سمعه وحفظه من إهانات، وانقض بها على الأسمر البائس.

لن تشفي الصرخة غليله. لا داعي للتفكير، فـ”عضلاته” جاهزة. يمسك ذراع وائل بكل ما أوتي من وحشية، ويعمد إلى ليّها، صارخاً في وجهه ومنهالاً عليه بالشتائم. همد الصغير، أسند ظهره إلى سيارة مركونة، أمسك يده المعنّفة وطأطأ رأسه باكياً. البكاء هنا مضاعف، إذ ليست المرة الأولى التي يتعرّض فيها للضرب، ومن قبل الشرطي نفسه. في المرة السابقة، يروي وائل، أن “دركي الحمراء” أخذ عصا من بائع اليانصيب وضربه بها على ظهره.

يعود شرطيّ الإشارة إلى مركز عمله معتدّا بنفسه، يوزّع الابتسامات يميناً ويساراً. يحتاج الموقف إلى ما هو أكثر. ربما كان على المارة، في تلك اللحظة، التوقف فجأة، بحركة مسرحية ساحرة، والاستدارة نحو “البطل” والتصفيق له بحرارة.

ربما حصل ذلك فعلاً.. في مخيلة “الرجل” المريضة.

لم يجد بطل الإشارة في كل ما تلقّنه في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي ما يردعه عن التطفل على مهمة ليست من صلاحيات شرطي المرور. وهو، على ما بدا من همجية تصرّفه، لم يطّلع على ما شددت عليه المادة 559 معطوفة على المادتين 548/4 و549/3 من قانون العقوبات اللبناني، من عقوبة عند اقتراف أفعال الضرب والإيذاء بحق حدث دون الخامسة عشرة من عمره. كما عاقبت المادة 554 من قانون العقوبات بالحبس ستة أشهر على الأكثر أو بالتوقيف التكديري وبالغرامة من 10 آلاف إلى 50 ألف ليرة أو بإحدى هاتين العقوبتين، لكل من أقدم قصداً على ضرب شخص أو جرحه أو إيذائه إذا لم ينجم عن هذه الأفعال مرض أو تعطيل عن العمل لمدة تزيد على عشرة أيام.

بطل الحمراء لم يجد من يحاسبه بتطبيق القانون وإنزال العقوبة اللازمة بحقه. تمرّ الأيام على ارتكاب فعلته وهو حرّ طليق اليد، يضرب بها من شاء من الأطفال، بحجة أنهم يعملون.

حتى المخافر، ليست بعيدة عن التعاطي الاعتباطي مع حالات كهذه، وغالبا من تنتشر أخبار عن حوادث ضرب وإهانة للموقوفين في المخافر.

تكثر محاضر الضبط في جيب وائل. القيمة المالية للغرامة غير محددة: “عندما نذهب لدفعها يحددون قيمتها، وهي تتراوح بين 20 و30 ألف ليرة. وفي بعض المخافر يأخذون المال منّا مباشرة ليطلقوا سراحنا.. بحسب المناطق”.

ما زال وائل، بحسب تصنيف الأمم المتحدة، في مرحلة الطفولة، لكونه لم يتجاوز الـ18 عاماً. وهذا يستدعي من الدول التي وقّعت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومن ضمنها لبنان، الالتزام بـ”الاتفاقية الدولية الخاصة بحقوق الطفل” التي اعتمدتها الجمعية العامة في 20/11/1989، والتي صدّقت عليها الحكومة اللبنانية بتاريخ 20/11/1990، لا سيّما المادة 19 التي تنص على حقه في الحماية من أشكال العنف أو الضرر أو الإساءة البدنية أو العقلية أو النفسية أو الإهمال أو الاستغلال.

في زقاق موازٍ للشارع الرئيسي، بعيداً عن قسوة “رجل القانون”، كان وائل يتحدّث عن معاناته بخجل. صوته خافت تميّزه بحّة لطيفة. لم يسمع عن مؤسسة تدعى “وزارة الشؤون الاجتماعية”. يطلب تكرار الاسم للتأكد، ويضيف: “لا، لا أبداً. ولا مرة حدا جرّب يحمينا”.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى