صفحات الثقافة

إعادة إنتاج الحلم السّوري

 

حازم شيخو

الجميع بات يجيد الحديث عن المثقّف السّوري، والكلّ يكيل له الشّتائم لتقاعسه وضعفه أمام مأساة السّوريين، والكثير من المثقّفين والسّياسيين أنفسهم ينتقدون تهافت أقرانهم، وأمّا ما يسمّى بـ”الفيسبوكيين” فهم أوّل من ينتقدون -انتهازيّة المفكّر السّوري- وقصوره، هذه الكلمة التي ستشمل المثقف والسياسي- وأيضاً ينتقدون ذواتهم، ويغرقون في مازوشية مَرَضية في كيل الشتائم لأنفسهم والتّعبير عن ضعفهم وعدم مقدرتهم إلا على الثرثرة على مواقع التواصل الاجتماعي، والشّعور بالدونيّة القصوى أمام السوري الذي يواجه الرّصاص والسكّين والقذيفة.

ويبدو المفكر السّوري وأنصاف مفكريه ممّن صاغوا خطاب الثّورة، مدركين أكثر من غيرهم لعيوبهم ونواقصهم، ولكنهم يستمرون في الحالة نفسها والضعف ذاته، وكأن أقوالهم تذهب أدراج الرّياح، ويسمعها العالم كله إلا هم.

حين بدأت الثّورة وجد السوري نفسه أمام حلم بدا للمرّة الأولى ملموساً، حلم الوطن السوري الحرّ، وأطلق شعاراته على الفور من قبيل “واحد واحد واحد، الشّعب السّوري واحد”، وتلقف المفكرون هذه الشعارات وكرّروها على شاشات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي وعلى صفحاتهم وفي كل خطاباتهم، واجتهد بعض مفكرينا الشباب في استعادة أوقات ذهبيّة من الوطنيّة السوريّة، ومواقف مشرقة من رجالاته ونسائه، وأثناء الأشهر الأولى من الثورة بدا المستقبل برّاقاً ببضعة شعارات و”نوستالجيا” وطن جميل.

ولكن القمع الذي واجه به النظام هذه الثورة، والفظائع والمجازر، واللامبالاة الإنسانيّة التي اكتشفها السوري في العالم حوله، جعلته يتراجع قليلاً أو كثيراً أمام بريق حلمه القديم، والآن فقد العديد منهم هذا الحلم، وصار الكثيرون يتمترسون خلف عصبيات قبل وطنية أو قبل إنسانيّة.

وصار من لا يزال مؤمناً بالحلم الجديد القديم شخصاً حالماً وساذجاً، فالعديد يردّد الآن بأن الوطن السوري انتهى، وأن التقسيم هو مستقبلنا، وأن الأمور خرجت عن سيطرة الشّعب السّوري، وغَدُنا تقرره الدول الكبرى.

وبعيداً عن محاولة معرفة الأسباب الخارجية لتلاشي الحلم السوري، سننظر إلى الأمور من الداخل طالما أن الثورة كانت سورية وداخليّة.

بعد شهور قليلة وبعد صمود أسطوري للسوريين في وجه آلة القمع، وبعد مهاترات طويلة بين المعارضين، تألّف “المجلس الوطني السّوري” والذي كان أمل السوريين في اقتراب النّصر، وخطاب الثورة أثناء تلك الشّهور بدا متخبّطاً وساذجاً، وكما ذكرت سابقاً كان ترداداً لما يقوله الشباب السوري، وكان مفكرونا عاجزين وقاصرين عن بلورة خطاب يرقى إلى مستوى الثورة، وكان الخطاب الذي قدمه “المجلس الوطني” هو تبني المأساة والسّعي لاستجداء عطف الخارج، وهكذا تحولت الثورة والمظاهرات الجميلة إلى مجرّد وقود لعمل “المجلس”، وفقدت الثورة بريقها، وطبعاً قبالة الخطاب المثير للشفقة الذي صاغه “المجلس الوطني السوري”، ظلّت “هيئة التنسيق الوطنية” متخبطة ومتخلفة عن أي حضور فكري، والأدهى من ذلك أن الشقاق بدأ باكراً بين قطبي المعارضة وكان جلياً في التمييز الاصطلاحي والإيديولوجي وفي إطلاق عبارتي “معارضة الداخل” و”معارضة الخارج”.

وبعد تسلح المعارضة تبنى “المجلس الوطني” السّلاح فوراً من دون تقدير لعواقبه أو محاولة لتنظيمه، ونأت “هيئة التّنسيق” بنفسها عنه بلا محاولة لفهم الأمر أو التدخّل لتغيير مساره أو التّأثير في القرار، مجدّداً أثبت مفكرونا عجزهم التام، وأخذ الشباب السّوري على عاتقه وحيداً الاستمرار بثورته وحلمه.

ندرك تماماً الحالة التي كان المفكرون السوريون عليها قبل الثورة، والظروف الصّعبة التي مرّوا بها، ولكنهم كانوا هم أنفسهم النخبة التي انتقدت شعبها ووصفتها بكل النّعوت الممكنة التي تدل على ضعفه وتخاذله، وهي التي زرعت فينا فكرة القحط الفكري والرّوحي الذي نعانيه نحن السوريين، وعندما ثار هؤلاء الضّعفاء وجد المثقف نفسه متخلفاً عن خطوات شعبه الجبارة ولاهثاً وراء الفتات الذي تركه الشباب السوري خلفه.

ليس الأمر في عدم صياغة خطاب للثورة، بل في ضياع جهود الأفراد في ضجّة الزّعيق والنّعيق؛ الذي رافقت الثورة، وأكثر من مجرّد تكرار الشعارات وتذكّر ما يسمى “العصر الذهبي” في سوريا، حاول هؤلاء القلة التعبير عن المواطن السوري الجديد والوطن الحقيقي الذي افتقده السوريون طويلاً، إلا أنّه أمام هول المجازر فقدت الشعارات نفَسها الأوّل، واكتشف السوري مع مرور الوقت أن ماضيه لم يكن بالبريق الذي تصوره وبكل الأحوال ليس كافياً لبلورة مستقبله، وتعب المفكر الباحث عن هويته السورية من الحفر في الهواء، والشباب السّوري؛ الذي ثار باحثاً عن وطنه ومواطنته تنازل العديد منهم في لحظة ما من الزمن عن حلمهم مقابل بديل هزيل ما قبل وطني وما قبل إنساني، وبات الواقع يطلب منا جميعاً الاستسلام.

وفوجىء السوري بما هو قادر على فعله وبما يحتويه وطنه، القيام بثورة في وجه أعتى الديكتاتوريات، ولكن أيضاً ارتكاب الفظائع بحق إخوانهم، وحتى لامبالاة قاسية اكتشفها الثوار لدى العديد من أقرانهم السّوريين ممّن يعيشون في الوطن ذاته. كل هذا في البلد نفسه.

الإنسان قادر على القيام بأنبل الأفعال وأقذرها في الزّمان والمكان المناسبين، والثورة هي فعل واقعي كما هي فعل رومانسي، وشعار أيّ ثورة “لكي تكون واقعياً عليك أن تطلب المستحيل”، وربما يأتي فكر الثورة عادة قبل الثورة أو يُنتج بعدها، قد يكون هذا هو حال الأمور، وأثناء الثورة يغيب صوت العقل، وتنشط الجماهير بعاطفتها وعفويتها، والنّاس تنزع نحو العمل لا الفكر، بل تتّجه نحو البناء أو التّدمير، وندرك عبر التّاريخ أنّ الجماهير ارتكبت الفعلين، شيّدت حين كان البناء مستحيلاً، وهدّمت حين كانت الصروح قائمة آبدة.

لكن الآن لم يبق للسوري إلا الحلم.

مازالت الثورة مستمرّة، ومازال الشّعب يقدم التضحيات في سبيل حرّيته، والكثير ما زال مؤمناً بالحلم السوري، وهناك أعداد أكثر بحاجة إلى إشعال لهيب الحلم مجدّداً، إذاً: يجب إعادة إنتاج الحلم السّوري.

هل فات الأوان؟ ومن سيقوم بصياغة هذا الحلم مجدّداً؟ هل المفكر السّوري قادر على الحلم وبلورة خطاب ثوري متجدّد؟

لا لم يفت الأوان والأوان لا يفوت أبداً، والمفكر السّوري هو الذي سيعيد إنتاج هذا الحلم والأمل والخطاب، وليس السّبب الوحيد، لذلك فهو قادر على فعله، بل لأنه ينبغي له فعل ذلك، فيجب إنقاذ الثورة الآن وإعادة الهوية الوطنية السورية لكل السوريين، وهذه الثورة؛ التي أهملها العالم كله وقد يحولها مستقبلاً إلى بضعة أسطر في التاريخ، هذه الثورة ستكون بداية وطن ومطهر لكل السوريين.

وليس الأمر فرض فكر الثورة من فوق كما كان عهد دكتاتورياتنا، أو من الخارج كما تسعى الآن دول إقليمية ودوليّة دفع السوريين للرضوخ له، بل استنباطه من الثورة ذاتها، فالفكر موجود منذ يوم الثورة الأوّل، وهو بحاجة فقط إلى بلورة، وقد امتلك الشباب السّوري كلمة الحرّيّة ولكنّه يبحث عن معنى لها.

الخطاب الذي نسمعه الآن هو بطبيعته ونبرته ما قبل ثوري، فما تزال نبرة الاستجداء جليّة فيه، وهو ما يخالف جوهر الثورة، الأدب السّوري هو فن حلم وحريّة الآن، والخطاب السّياسي ينبغي له أن يكون خطاب تغيير وتحدّي، فالسوريون أعلنوا بأنّنا لسنا أقلّ من أقراننا من الشّعوب، وفكر الثورة هو فكر إنساني أوّلاً يقوم على المساواة والعدالة والتّسامح، ومهما كانت إساءة الآخرين فالسّوريون سيمدّون يد الأخوّة أوّلاً وأخيراً، نحن أمام محنة كبرى وأسطورة عظيمة، علينا أن نكون ندّاً لها، وعلينا أن نثبت للعالم أجمع ولأنفسنا قبل الكل بأنّ إنسانيتنا هي أوّل صفات هويّتنا.

لم يبق للسّوري إلا الحلم، وصياغة هذا الحلم هو دور المفكّر السّوري، قد تنجح هذه المحاولة أو تفشل، لكن الأمل والعزيمة أدواتنا، والوطن الحر هدفنا، وليست الآلام هي التي توحّدنا، لا ليس الماضي ما يوحّدنا، بل هو المستقبل وفقط المستقبل هو الذي يوحد الشعوب، فعلينا الآن وقبل كل شيء بلورة هذا المستقبل.

موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى