رفيق شاميصفحات مميزة

إعراب ليس فقط للمبتدئين: مدحَ شاعرٌ حماقةَ الطاغيةِ/ رفيق شامي

 

مَدَحَ: فعل ماض، لكنه سيظل حاضراً ما دام هناك بشرٌ يرزقون. والمدح نقيض الهجاء والذم. يقال أيضاً مدحة (جمعها مِدَحٌ) ومديح (جمعها مدائح). والمادح يثني على المفعول به، وهو هنا الممدوح، بما له من صفات حسنة. لكن الممدوح لا يشعر في لحظة المديح إطلاقاً أنه مفعول به، بل ينفش ريشه كطاووس فاعل، وهو إذا كان صاحب مال وسلطة يكون، على الغالب، فاعلاً في المادح. وسنأتي أدناه على ذلك. والمداح هو من يبالغ في المدح ويتقنه.
والمدح بحد ذاته جميل الوقع على الأذن إذا تميز بالصدق. لكنه إذا تميز بالنفاق يصبح سمجاً لكونه ضرباً من الاستغباء للممدوح، وبرهاناً على غياب كل خلق المادح. فأنت ترى كتباً بكاملها تمدح ديكتاتوراً لم يقم بعمل في حياته سوى انقلابه، وهو على الأغلب من تخطيط آخرين، وفجأة يصبح عالماً، ومفكراً، وأديباً.. يخزي العين عنه. ولن أنسى في حياتي صورة صدام حسين في التلفزيون وهو يشرح لعلماء ذرة عراقيين في مدرج جامعي ما عليهم أن يقوموا به، وهم يهزون رؤوسهم خانعين لهذا القاتل البدائي. ولقد وجدت أثناء كتابة هذا الإعراب أكثر من عشرين كتاباً صدرت عن مادحي صدام تتغنى بجوانب عبقريته في الحرب والسياسة والعلم والتياسة. يا ضيعان الورق والأشجار التي قطعت لصنعه.

شاعرٌ: فاعل مرفوع بالضمتين لكثرة ما ضم من أجر لمدحه. وكلمة شاعر أصلها المصدر الثلاثي (شَعَرَ). وتقارب قواميس اللغة معنى فعل شَعَرَ من معنى عَلِمَ بشيء. ويدلون على ذلك بتفسير جملة “ليت شعري” بمعنى ليتني علمت والأصح أنها تعني ليتني شعرتُ. والشعور لا يرقى إلى درجة العلم. لكنه بلا شك يقترب من درجة العلم في استعماله بجملة. أشعرَه بالأمر، أم أشعره به، أي أعلمه إياه. والشِّعْرُ هو القول المنظوم وجمعها أشعار وقائلها شاعِرٌ أي بمعنى أنه يَشْعُرُ أكثر مما يَشعر غيره. على الأقل يعبر لغوياً عن ذلك. ولا يقال في الأدبيات القديمة ألقى الشاعر فلان قصيدة، إنما يقال، على الأغلب: أنشدَ الشاعر…
وللشعراء مكانة كبيرة في المجتمع العربي. مكانة لا يحظى بها الفلاسفة ولا علماء الطبيعة ولا حتى عباقرة الهندسة والطب والفلك. فأي طالب صغير يعرف أسماء عشرات الشعراء ولا يفرق بين الكندي وابن الهيثم، أو بين الحلاج وابن رشد ولا يدري ما الذي قام به هؤلاء بينما يردد أبياتاً شعرية لهذا الشاعر أو ذاك حفظها عن ظهر قلب حتى دون أن يفهم معناها. وحتى يومنا هذا ترى الصحف تتناول مواقف الشعراء من ثورة ما باهتمام يقارب التقديس بينما لا تهتم نفس الصحف بمواقف مفكرين عالميين. فمن أين أتى هذا التفخيم للشعراء الذي لا تعرفه المجتمعات المتحضرة، وما هي عواقبه؟
الشعراء كانوا فيما مضى جهاز إعلام السلطة الوحيد. فشيخ القبيلة، الأمير، الخليفة، السلطان أو الملك كان يطعمهم ليغنوا له وليتغنوا به وبذلك تتجاوز دعايتُه حدود قبيلته جغرافياً وحتى زمنياً. ومع مرور الزمن صار المديح مهنة لها أصولُها وقواعدُها مثل أي مهنة يتقرب بها الشعراء من سلاطين المال والسياسة لينالوا مكافأة أو– وهذا ما كان يحلم به أغلب الشعراء– لأن يصبحوا من شعراء خيمة الشيخ أو قبيلة الأمير أو بلاط الخليفة. بالطبع كان هناك عشرات آلاف الشعراء الشرفاء لكن أثرهم كان يندثر فور موتهم، لأن قلة من أشعارهم خلدها الرواة الشفاهيون، فالسلطة وحدها كانت آنذاك تمتلك وسائل النشر والكتابة.
والشعر يرضي نفوس مستمعيه بوقعه الموسيقي، وفي بعض الأحيان بدغدته شغافَ القلب بكلماته الرقيقة، الحزينة، المرحة أو الساخرة. ومن ثم كان الشعر على الدوام أقرب إلى قلوب الناس وعقولهم من الفلسفة أو العلوم التي تحتاج لعمل وجهد فكريين. ولهذا السبب، أيضاً، تراجعت شعبية الشعر الحديث الذي لم يعد يهتم بالقوافي وبالوزن وموسيقى أبياته، وصار يتطلب جهداً لاستساغته عقلياً.
وهذا القرب من ذوق الأغلبية والانتشار الواسع للشعر أثَّرَ في بنية اللغة العربية وقواعدها تأثيراً سلبياً لا مجال هنا لمعالجته، فالشعر يركز على موسيقية الجملة وليس على منطقيتها وتركيز محتواها بأقل ما يمكن من الكلمات والقواعد. ويعلم كل من يقرأ الشعر القديم بتأنٍّ كم مَيَّعَت القوافي محتوى البيت الشعري.
ولنلخص نقول. تمتع الشاعر إذن، وعلى مر آلاف السنين، بثلاث صفات لا يملكها عامة الشعب: قرب الشاعر من الحكام ونيله شيئاً من بذخهم، تمكنه من ناصية اللغة ومقدرته على اللعب بها، وأخيراً إدخاله الفرحَ، عبر شِعْرِهِ، إلى قلوب مستمعيه، وأحياناً إلى عقولهم. وعبر هذه الصفات علت مكانة الشاعر في مجتمع مضطهد، مُفْقَر عمداً وعلى الأغلب أمي لا يستطيع فك ألغاز الحروف ناهيك عن قواعد اللغة.
وبالمقابل صار شغل الشعر الشاغل مدح وتبجيل السلطان وقدح أعداء طغيانه وذمهم.
ولهذا التبجيل نتائج سلبية جداً، أولها توطيد شخصية الطاغية المهلهلة والآتية على الأغلب من العدم وتأليهها مما يساهم مباشرة في استعباد الشعوب كما سنبين أدناه.
لكن، ولشرف الكلمة، علي أن أضيف أن مجتمعنا العربي يحافظُ، عبر جموده منذ 1200 سنة، على استمرارية هذه النظرة للشعراء، ويزيدُ، عبر تأخره الاجتماعي الاقتصادي، من تبعية شعراء وكتاب البلاد للطاغية. فأين هي دور النشر التي تدفع للكتاب والشعراء أجور أتعابهم؟ وأين حقوق الكتاب؟ تراها تتأوه تحت نعال تجار الكتب. فرغم تقدم وسائل الطباعة وجمال إنتاجها ومضاهاتها لنوعية كتب أوروبا في القرن 21 لا تزال العلاقة بين الكاتب والقارئ مريضة وكأن العثمانيين لا يزالون يحكمون بلاد العرب… لا بل إن وضع الكتاب الأتراك أفضل ألف مرة من وضع الكتاب العرب، حتى صار كتابنا، لفرط إحباطهم، يهللون للوضع ويتهمون كل من ينادي بحق الكاتب أن يعيش مما يكتبه وكأنه يخون المهنة. بينما هنا في منفاي الألماني عشت بنفسي مدى احترام ما يكتبه شاعر أو كاتب ليس كلاماً مدبجاً بل كحق في محكمة، إذ حاول أحد الناشرين قبل سنوات أن يطبع كتبي طبعات سرية بلغ حجمُها عشرين ألف نسخة دون أن يعلمني مدعياً أن الكتاب لا يزال متوفراً بطبعته الثانية في المخزن. وقد ربحت الدعوى وأجْبَرَتْه المحكمة على أن يدفع لي ضعفي ما سرقه وخسر حقوق النشر ودفع تكاليف المحكمة… هذا وأنا الغريب المنفي هنا!!!
لهذا، فتبعية الكتاب والشعراء للطاغية لها أسباب تكمن في عجز مجتمعنا. وأنا آمل أن تقوض الثورة هذه التبعية وأن تصبح الكتابة مهنة شريفة تتبع قوانين حضارية يحررها من أية تبعية.

حماقةَ: مفعولٌ بها وفاعلةٌ كلَّ النواقص بمن تركبُه. وللحماقة، كما للذكاء، طبقات. والحمق ضد العقل. وللحمق معان أخرى أطرفها كساد البضاعة في السوق، وكأنهم يقصدون أن عقل الأحمق بضاعته فاسدة كاسدة. ومن أغرب المعاني للحمق هو: الخفيف اللحية (لسان العرب) وكأن الأقدمين كانوا كالإسلاميين في أيامنا يعتقدون- بجهل- أن طول اللحية يتناسب طرداً مع عمق العقل وبعد النظر. وقد لفت الصديق رئيس التحرير خطيب بدلة انتباهي إلى قول الشاعر:
إذا عَرَضَتْ للفتى لحيةٌ- وطالتْ فصارت إلى سُرَّتِـــهْ
فنقصانُ عقل الفتى عندنا- بمقدار ما طال في لحيتهْ
والعكس صحيح. والحماقة ليس فقط مفعول بها بل هي إلى جانب كل بلاويها… مضافة. لأنها بدون المضاف إليه لا يُفهم لها معني، فلو توقفنا عند حماقة لما تم المعنى. حماقة من؟

الطاغيةِ: مضاف إليه بالكسرة في آخره والأفضل أن تكون الكسرة في رقبته. ال التعريف تضاف لكل نكرة وهل هناك أنكر من الحكام العرب. والطاغية مصدرها طغى: طَغَى يَطْغى طَغْياً ويَطْغُو طُغْياناً جاوَزَ القَدْرَ وارتفع  وَتَرَفَّع على مَنْ دُونَه. وفي الحكم تعني تجبراً وظلماً وتكبراً، وهي من أكثر الصفات التي تصلح لوصف حكامنا من المحيط إلى الخليج. وطَغَى الماءُ والبحر: ارتَفَع وعلا على كلِّ شيءٍ فاخْتَرَقَه. والطاغية تعني، أيضاً، الصاعقة، ومَن طغى تُشتَق من الطاغوتُ: الشيطان وكل جبار لئيم.

إعراب الجملة: جملة فعلية بسيطة التركيب ذات أثر كبير في المجتمع. فهذا الشاعر الذي يموه بكلماته المبتذلة حماقة الحاكم مضفياً عليها، برشة بهارات لغوية، صفة حكمة إلهية يكمل عمل الجهاز القمعي للطاغية. وشعراء عصرنا ليسوا أفضل حالاً ممن سبقهم في العصور الغابرة، وكأنهم لم يأخذوا تقدم المجتمعات البشرية بعين الاعتبار. فواحدهم تراه يدعي أنه تقدم إلى ما بعد الحداثة وأحياناً يقيم هذا الشاعر المشعور في لندن، باريس أو نيويورك، ومتى عبر عن رأيه السياسي تراه انمسخ لقروي أو بدوي بدائي في القرن الثامن لم يرَ سوى مؤخرة حاكمه وكرشه فظنها جبال الهيملايا.

والأمثلة كثيرة ومخجلة لأنها تبين بدون رحمة إلى أي مدى انحط شعراء العربية. والشعر سلاح لغوي سريع التأثير يسهل استخدامه أكثر من النثر الذي يؤثر ببطء. ولا زلت، إلى اليوم، أذكر أغنية أجهل مؤلفها ومغنيها أعادت الإذاعة السورية في حزيران 1967 إبان حرب “الساعات الستة” إذاعتها عشرات المرات يومياً:
ميراج   طيارك  هرب  مهزوم من نسر العرب
والميغ طارت واعتلت  بالجو   تتحدى  القـدر
وكما تبين لاحقاً، لا هي تحدت قدر ولا ضراب السخن… وبينما كان مذياع دمشق يكرر هذه الكذبة المخدرة أعطى راديو تل أبيب بكل برود درجات الحرارة في القنيطرة.
_____________________________

ملحق ليس فقط للفضوليين
يهتم بكشف تنابلة السلطان وتبيان خطرهم

بما أن وقتي ضيق جداً وبما أن سلسلة إعراب ليس فقط للمبتدئين تصدر في صحيفة الكترونية ساخرة تطلق على نفسها اسم كش ملك فإن هذا الملحق يتبع نفس قواعد لعبة الشطرنج. ويهتم بكشف بيادق (عساكر) السلطان قبل أن يتم ترقيتها عند وصولها إلى الصف الأخير المقابل، ولذلك نقدم هذا الملحق الإضافي إلى من يهمه متابعة الأمر. فبرأيي يجوز تقديم هؤلاء الشعراء والكتاب المنافقين إلى محكمة عادلة لمحاكمتهم على المشاركة المباشرة في جرائم الطاغية. لقد أطلقت عليهم في كتاب لي اسم “تنابلة السلطان”. وهم كما قلت أعلاه جزء هام وخطير من آلية طغيانه.
وما سأقدمه في هذا الملحق ليس إلا نقطة من بحر النفاق الذي جمعتُ وثائق عنه وهي، والحمد للإنترنت، متوفرة وبكفاية. إن تأليه الحاكم يعني تشجيع هذا الديكتاتور على المضي قدماً في نهب شعبه وظلمه وقتله. وقد حوكم كل أتباع الفاشية والنازية من كتاب وفنانين لثبوت مشاركتهم في الجريمة. وفي الستينات من القرن الماضي اخترع أحد الصحفيين الألمان اسماً دقيقاً لهؤلاء المساعدين للنازية وهو: مجرمو طاولة الكتابة.
خذ- مثلاً- أحمد شوقي الذي لم يترك حاكماً إلا وتمسح به بذلّ لا يوصف.  فقد أهدى الشاعر ديوانه عام 1907 إلى الخديوي إسماعيل، وذَيَّلَ الإهداء بتوقيع “عبدُك المخلص أحمد شوقي”.  كما كتب قصيدة ليؤمن معاشه كما فعل حتى ذاك الوقت مع كل ملك مصري بأن مدح الطبل “فاروق” وهو لا يزال أميراً بقصيدة مطلعها

فاروق يا أزكى نبات الوادي
ولمحة الآباء والأجداد

… إلى أن يقول في نهايتها:

فإن تقبلتَ، وهذا اعتقادي
جزيتَ إخلاصي واحتشادي
لجيلك الناهض بالبلاد

هل يقبل معلم عقلاني للعربية قصيدة كهذه من تلميذ في الصف السابع؟
لكن وبما أن ما يعنينا هو أخلاق الشاعر وليس أسلوبه، فإن تبجيلاً كهذا يزيد من جنون عظمة فاروق وغيره. وهل فكر هذا الشاعر بعواقب مثل هذا المديح؟ بالتأكيد عرفها ولم يفكر بها حين كتابته لهذا النفاق، بل فكر في حجم جائزته.
وقد مدح شوقي هذا كمال أتاتورك مبالغاً بقصيدة طويلة بثمانية وثمانين بيتاً من شعر ركيك عامر بالدجل، مشبهاً إياه بخالد بن الوليد، وبصلاح الدين، ومشبهاً معارك أتاتورك بمعركة بدر، ولولا ضيقُ ذات اليد لساواه بالرسول العربي فقال:

الله أكبر كـم فـي الفتـح من عجـب       يا خالد التـرك جــدد خـالد العرب
يــوم كبدر فخيلُ الحــق راقصـة        على الصعيد وخيلُ الله في السحب
تهنئة  أيها الغازي…. وتهنـئــة        بآيـــة الفتــح تبقى آيـــة الحقب

وذَمَّه، فيما بعدُ، بوقاحةِ مَن غُسِلَ دماغُه من كل ذاكرة، وبكى بكاءً مرائياً على سقوط الخلافة العثمانية التي أزالها أتاتورك من الوجود في تركيا، وها هو شوقي يتصنع البكاء ويُبكي معه الشعوبَ كلها لسقوط الخليفة العثماني، ولولا ذرةُ خجله المتبقية لأبكى الكواكب والشمس على هزيمة مغتصبي النساء والشعوب. وهو هنا يخاطب السلطان المنهار عبد الحميد:

ضجت    عليك    مآذنٌ    ومنابرُ
وبكت    عليك    ممالك     ونواح
الهند    والهةٌ    ومصر     حزينة
تبكي    عليك    بمدمع    سحاح
والشامُ   تسأل   والعراقُ    وفارس
أمحا  من  الأرض   الخلافةَ ماحي؟

سألت جدي آنذاك وهو الذي عاش كل هذه المرحلة. هل بكت الشام؟ فضحك قائلاً: بل تنفست الصعداء وتنفستُ معها لرحيل هذا المجرم.
كان شوقي رحمه الله وحرمه من إزعاج أهل الآخرة بأشعاره متواضعاً إلى أبعد حدود، وكان يلبس خرزة زرقاء لتحميه من الحسد على هذا التواضع الذي لا مثيل له: وها هو يتوج تواضعه ببيت شعري يحتقر به شاعراً عبقرياً لا يقل عنه انتهازية وهو المتنبي:

ولي درر الأخلاق في المدح والهوى  وللمتنبّي درة وحصاة

لكنه، على عكس المتنبي، لم يقدم جديداً، لا شكلاً ولا مضموناً، وقد حق فيه نقد عباس محمود العقاد بأنه “شاعر من خزف”.. وبأنه “يزحف إلى الشهرة زحف الكسيح، وله في كلّ يوم زفة، وعلى كلّ باب وقفة”! كما نقد المنفلوطي شعراء تلك المرحلة: “شعراء مصر في هذا العصر ليسوا شعراء هذا البلد ولا هذا الزمن، وإنما هم جماعة من تجار العاديات، لا يزالون يصورون لنا في هذه العصور تماثيل كاذبة لآداب الجاهلية الأولى”.
وحتى مبايعته أميراً للشعراء، فقد تمت بشكل مافياوي بحفلة مُصْطَنَعة ولدت ميتة وأثارت السخرية بشكل كبير. ومن شرشحتها لم يُقَدَّر لها أن تُعاد والحمد لله. وقد علق الناقد اللبناني مارون عبود، على مراسيم المبايعة لشوقي: “لعنة الله على هذه الإمارة الجوفاء، فهي سخافة بلقاء”.

طبعاً لشوقي بعض الأشعار المقبولة ولكن نسبتها ضئيلة. ولو كان صياداً، مثلاً، لخرق كل الأشجار والأوراق في كل رحلة صيد ليصيب بعد كل 100 طلقة أرنباً. ومن تلك الأشعار مديحه لبعض المدن مثل زحلة ( يا جارة الوادي) ودمشق. ويعتز الدمشقيون بقصيدته عن دمشق:

سلام من صبا بردى أرق    ودمع لا يكفكف يا دمشق

ليس لجمال القصيدة إنما لأنهم يحبون مدينتهم وكل ما قيل عنها. حتى ولو كان مغنيها فهد بلان. وأنا أنصح الكتاب دوماً نصيحتين: أولاً أن يعتبروا أنفسهم قبل كل شيء فناني سيرك، فهناك يسبب خطأ واحد في قفص الأُسُود، أو على الحبل في علو شاهق، كسرَ الرقبة، وثانياً أن يأخذوا بعين الاعتبار وهم يكتبون أن ما يكتبونه سيُقرأ بعد مماتهم إلى أبد الآبدين ولمدة 24 ساعة في اليوم. لكن كتاب وشعراء بلادنا يتبعون القول الغبي: قل كلمتك وامشِ. لا سيدي، عليك بعد قول كلمتك أن تبقى واقفاً معها لترى وتعيش نتيجتها.

عندما أقرأ بعض هؤلاء الشعراء الذين تمرغوا تحت طاولات طغاة البلاد وتنعموا بفضلات هذه الطاولات أتذكر قول الشاعر، وأغلب الظن أنه الحطيئة:

الشعراءُ  فاعلمنّ  أربعهْ
فشاعرٌ لا يرتجى لمنفعهْ
وشاعرٌ يُنْشِدُ وسط المعمعهْ
وشاعرٌ آخرُ لا يُجرى معهْ
وشاعرٌ لا تستحي أنْ تصفعهْ.

وهناك صيغة ثانية لطيفة أوردها الثعالبي:

 الشعراء فاعلمنْ أربعــــهْ
فشاعر يجري ولا يُجرى معهْ
وشاعر من حقه أن ترفعهْ
وشاعر من حقه أن تسمعهْ
وشاعر من حقك أن تصفعهْ

وأحد هؤلاء المنافق الكبير محمد مهدي الجواهري، الذي كتبً:

سلاماً أيها الأسدُ      سلمتَ ويسلمُ البلدُ
وتسلمُ أمةٌ فَخَرَتْ      بأنك خيرُ مّن تَلِدُ!!!

وكان قبلها قد مدح الملك فيصل الأول، وملك المغرب، وملك الأردن.. والعميل نوري السعيد.. وحتى أحمد حسن البكر وصدام حسين ثم هجاهم شرّ هجاء عندما ارتزق عند حافظ الأسد عدو صدام حسين.
ولهؤلاء جميعا طابور تاريخي لأسلاف منافقين أشهرهم المتنبي الذي لم يترك حاكماً إلا ومدحه. وكان قد ذهب إلى مصر باغياً الحصول على قرى أو على الأقل قرية يعيش فيها على حساب عَرَق فلاحيها فمدح حاكم مصر آنذاك كافوراً الإخشيدي بقصائد منافقة لكنه بين في مقطع إحداها (بالمشرمحي- كما نقول في دمشق- بوضوح) إنه يريد ولاية، أو ضيعة أو قن دجاج:

إذا ضربتْ في الحرب بالسيف        كَفُّه تبينتَ أن السيف بالكف يُضرب
أبا المسك هل في الكأس فضلٌ        أنالُه فإني أغني منذ حين وتشربُ
إذا لم تَنُطْ بي ضيعةً أو ولاية        فجــودُك يكسوني وشغلك يسلبُ
وَمَا طَرَبي لمّا رَأيْتُكَ بِدْعَةً        لقد كنتُ أرْجُو أنْ أرَاكَ فأطرَبُ

(وكان كافور يُسَمى من المنافقين، لسواده، أبا المسك)

ولما رفضه كافور الخبير بالانتهازية خشية طموح هذا الرجل الجنوني، وأعرض عنه، ولم يمنحه القرية التي تمناها، ولا حتى كوخاً صغيراً، هجاه المتنبي بقصيدة عنصرية فاضحة صارت مقولة محببة لدى العنصريين العرب متى كان جلدهم فيه شيءٌ من البياض:

لا تشتَرِ العَبد إلا والعَصَا معه        إِن العَبِيدَ لأنجاسٌ مَناكيد
مَن علَّم الأسودَ المَخْصِيَّ مكرُمةً        أَقَومُهُ البِيضُ أَمْ آباؤهُ الصِيدُ

ويعود هذا التركيز على الجنس إلى ظاهرة الخوف من العجز الجنسي التي تمتلك الأنفس الصغيرة، وكم ترتاح نفس الطاغية عندما يصفها شاعر منافق بالفحل.. والمتنبي لا يخفي إحباطه أن هذه الفحول لم تعطه، كفاية فيقول في نفس القصيدة…

وَذاك أن الفحولَ البِيضَ عاجِزَةٌ  عنِ الجَميلِ فكَيفَ الخِصْيَةُ السُودُ

ولكثرة فضولي بحثت عن كافور الإخشيدي وقرأتُ ملخصاً جدياً لمؤرخ عن حياته. حكم كافور قرابة 23 سنة ولم تذكر أي كتب أنه كان حاكماً سيئاً. وقد صمد في وجه الفاطميين في المغرب وبسط سلطانه على مصر وأجزاء من السودان والحجاز وسوريا. وكان ذكياً، انتهازياً من الطراز الأول، لكنه أنجز في حياة واحدة ما لم ينجزه آخرون في عشرات منها. وصعد من عبد مهان وذليل في سوق النخاسة إلى سيد لمصر والمشرق.
ولكن، اسأل أيَّ عربي فإنه سيردد إذا كان أصلاً قد سمع بالاسم فقط ما قاله المتنبي ذامَّاً على نحو عنصري.

لكن المتنبي وضعٌ خاص وفريد في تاريخ الأدب فهو لم يتقشف إطلاقاً عن مديح ذاته حتى في حضرة السلاطين:

عش عزيزاً أو مت وأنت كريم        بين طعن القنا وخفق البنود
فاطلب العز في لظى ودع الذل     ولو كان في جنان الخلود
لا بقومي شُرِّفْتُ بل شرفوا بي       وبنفسي فخرت لا بجدودي
إن أكن معجباً فعجب عجيب       لم يجد فوق نفسه من مزيد
أنا ترب الندى ورب القوافي        وسمام العدا وغيظ الحسود
أنـا فـي أمة تداركها الله             غـريبٌ كـصالح في ثـمود

ويقال أن البيت الأخير الذي فُهم خطأً هو سبب تسميته بالمتنبي.
ولا أظن أن شاعراً واحداً في تاريخ العرب بالغ في مديح نفسه أكثر من المتنبي:

ما نال أهل الجاهلية كلهم          شعري ولا سمعت بسحري بابلُ
وإذا أتتك مذمتي من ناقص        فهي الشهادة لي بأني كاملُ

وقال أيضاً عن نفسه في قصيدة جميلة وشهيرة لمدح سيف الدولة الحمداني مطلعها

ما لي أكتم حبا قـد بـرى جسـدي      وتدعي حب سيـف الدولـة الأمـم

إلى أن يقول:

سيعلم الجمعُ ممن ضم مجلسنا     بأنني خير من تسعى به قدم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي      وأسمعت كلماتي من به صمم
أنام ملء جفوني عن شواردها       ويسهرُ الخلق جراها ويختصم
الخيل والليل والبيداء تعرفني       والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ

ويقال إن سيف الدولة ضحك قائلاً: وما الذي تركته لي بعد كل هذا؟

ومن الشعراء المنافقين الشاعر أبو العتاهية الذي امتدح الخليفة العباسي المهدي منشداً:

أتته الخلافة     منقادة  إليه   تجرجر  أذيالها
فلم   تك تصلح إلا لَهُ  ولم  يكُ يصلح إلا لَهَا
ولو  رامها   أحدُ غيره  لزلزلت الأرض زلزالها
ولو لم تطعه بنات القلوب   لما  قبل  الله   أعمالها

وهذا الشاعر ابن هاني الأندلسي يتفوق عليه ويتجاوز الحد في مدح المعز لدين الله الفاطمي حيث أنشده:

 ما شئت إلا ما شاءت الأقدارُ   فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبي  محمدٌ   وكأنما أنصارك الأنصارُ

فكيف خليفة كهذا أن يصدق أنه إنسان عادي؟

وهذا وريثه بالنفاق شفيق الكمالي يُشبه صدام حسين مباشرة بالله- لكيلا يزايد عليه أحد!!! وللتذكير فقط شفيق الكمالي كان بعثياً متطرفاً وصديقاً لصدام ووزيراً وسفيراً سابقاً.

تبارك وجهُك القدسي فينا   كوجه الله ينضح بالجلال

وها هو يمدحه بما يعجب هؤلاء صغار النفوس كما بينا أعلاه… الفحولة… شغلهم الشاغل… فهم لا يزالون بمرتبة فحل أو تيس لا أكثر:

يا فحل هادرة الجموع
صفحات مجدك أثبتت عنوانها
تبقى… ويذهب بائساً من خانها

إلى أن يقول له محرضا نماماً:

صدام إني أستعيذك
مرة أخرى.. وتنفث مهجتي أشجانها
أن تمنح الأفعى الأمانَ وها ترى
إن الأفاعي تستغل أمانها

وكان صدام يصفي خصومه في الحزب…. ولم تمر الأيام حتى غضب صدام على شفيق الكمالي فقتله وقتل ابنه “يعرب” أشنع قتلة.
وسواء كان اسم المداح معروفاً كشفيق الكمالي أو حميد السيد أو عبد الرزاق عبد الواحد ويوسف الصايغ، أم مغموراً كجميل شلش، ساجدة الموسوي أو حميدة نعنع أو آمال جبوري فكل هؤلاء الأقزام والمدافعين عنهم يتلمسون خلاصهم بمقارنتهم بالمتنبي الشاعر الكبير وضيع النفس الذي لم يترك حاكماً إلا ومدحه… ويدعون أن هذا من صميم التراث العربي. “طز على هيك تراث”، قال لي جاري العربجي سليم عندما رويت له أن المجعجع (انظر فعل جعجع) صابر فلحوط، هذا الغبي، يدعي أنه يحمي تراث الأجداد عندما ينبطح أمام البعث وأن البعث الذي استعبدنا هو طريقنا إلى الحرية، وأن نهبه للبلاد هو طريقنا إلى الاشتراكية، وأن طائفيته وضيق أفقه وتخريبه للجار والدار مبادرة طريقنا إلى الوحدة. وبعضهم مثل عبد الرزاق عبد الواحد لا يعرف الخجل فهو يمدح الملك العراقي ويمدح عبد الكريم قاسم ثم ولأن عمره طويل يمدح أحمد حسن البكر وصدام حسين ومن بعده أمراءَ الخليج. وهو بنظري مجرم حرب يجوز تقديمه لمحاكمة، لأنه شجع صدام حسين ليلاً نهاراً على مهاجمة إيران. هذه الحرب التي خططت لها المخابرات الأمريكية لتُحَجِّم إيران وتُحِدَّ من نفوذها في الخليج والتي دمرت البلدين اقتصاديا (بكلفة 400 مليار دولار… وليتصور أحدُنا  كمية المدنية والرخاء بما فيها المدارس والمستشفيات والطعام والدواء الكافيين بمثل هذا المبلغ الهائل)، وبشرياً بعد أن دامت ثمان سنوات وسقط فيها على الجانبين أكثر من مليون قتيل من الشباب.

هناك عدة دراسات ومقالات مهمة عن تواطؤِ الشعراء مع الطاغية وعن نفاقهم الذي دفعنا لكتابة هذا الإعراب أصلاً…
منها نقد ممتاز بقلم د. أحمد أبو مطر بعنوان: صناعة الطاغية غنائياً نشرت في عدة صفحات منها “مصرنا”:

http://www.ouregypt.us/Bmatter/a.matter41.html

وللكاتب نفسه نقدٌ هام نشرته إيلاف تحت عنوان: “القائد الضرورة عارياً، وكتاب عرب أكثر عريا” وهذا رابطه لمن يرغب:

http://www.elaph.com/ElaphWeb/ElaphWriter/2005/6/66577.htm

والكاتب أحمد أبو مطر هو كاتب وناقد فلسطيني يعيش في أوسلو (النروج).
كما وأن مقال الكاتب السوري ماهر شرف الدين حول شعراء بلاط الأسد ومنافقيه يعد من أجمل ما قرأت.

http://www.alghawoon.com/mag/art.php?id=1154

وهذه موجة من ذاك البحر الساخر:
(أما مانع سعيد العتيبة فقد حوَّله إلى وليٍّ يُزار قبره: «أسد العُرْب عدتَ حياً وهذا/ ليس قبراً بل إن هذا مزارُ»!

أما كوثر شاهين فقد راحت تُطالب الأبجدية بمليار حرف (وليس أقل!) كي تستطيع إيفاء الأسد الراحل حقَّه: «ماذا أقول وهل يُرثى بقافيةٍ/ مَنْ ليس يُنصفه شعرٌ ولا نثرُ/ يا ليث يعرب ليت الأبجد الهوَّزْ/ مليار حرفٍ عسى يُجدي بها الشعرُ»!
ولأن الشاعر اللبناني المعروف جوزيف حرب لا يريد أن يكون رثاؤه كرثاء هؤلاء، قام بتكليف خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيّوبي وهشام بن عبد الملك بالجلوس معاً والتعاون في صنع إكليل يضعونه فوق رأس الأسد: «أبطالُ أمَّتك الماضون ما انطفؤوا‏/ أهدوك إكليلَ شمس عندما أفلوا‏/ ذا خالد ذا صلاح الدين ذا يزن‏/ وذا هشام وتيك الأعصر الأُوَلُ»!
وفي هذه الحومة من الدَّجَل، لا ينسى هؤلاء التبشير بالأسد الابن، فهذا أحمد محمد يُقرِّر باسم الشعب: «بشار بايعناك بيعةَ حافظ/ وجميعنا أعطى القرار ويبصمُ/ فامضِ بنا ما شئت حيث تقودُنا/ ولأنت أعدلُ مَن يسودُ ويحكمُ»!

لكن الأغرب من ذلك كلِّه، أتى على لسان الشاعر الراحل محسن محمد الجراح، حيث قام بالتغزُّل (حرفياً) بوجه الرئيس كما يتغزَّل شاعر بوجه المحبوب: «عشقتُ وجهَكَ يا بشارُ فلسفةً/ والعشقُ كالجمرِ يشكو حرقةَ اللهبِ»!!)

وشعراء العربية وكتابُها الكبار من عبد الوهاب البياتي إلى الجواهري وسميح القاسم ونزار قباني مدحوا الطغاة. فنزار الذي طوشنا بنقده لحكام الخليج غنى لصدام وأسبغ عليه الصفات الإلهية قائلاً: “لقد جئتُ إلى بغداد مكسوراً، فإذا بصدام يلصق أجزائي! وجئت كافراً بممارسات العرب وإذا بصدام يردّ إليّ إيماني ويشدّ أعصابي…. وهكذا أعود من بغداد وأنا ممتلئٌ بالشمس والعافية… فشكراً لصدام الذي قطّر في عيني اللون الأخضر”. ويعلق الناقد الذكي أحمد أبو مطر على هذا السخف قائلاً: “ربما كان نزار قباني يقصد الذي قطّر الدولارَ الأخضرَ في جيوبي”.
وما إن شعر نزار القباني بانتهاء عهد المرح والسكر والعربدة في بغداد حتى انقلب على سيده قائلا: “مضحكة مبكية معركة الخليج/ فلا النصال انكسرت على النصال/ ولا الرجال نازلوا الرجال/ ولا رأينا مرة أسوار بانيبال/ فكل ما تبقى لمتحف التاريخ/ أهرام من النعال
لذلك كرمه نظام الأسد وعفا عن شتائمه له إبان ارتزاقه عند صدام. هذا العفو الذي يبدو من السطح قد نتج عن رحابة صدر، إنما هو أفضل انتقام لطاغية ذكي ممن هجوه سابقاً…
وكان يغازل الأسد برسائل ويمدحه بأسلوب- فعلاً- مخجل. وفي إحدى الرسائل يكتب نزار: إن الرئيس حافظ الأسد هو صديق الشجرة والغيمة وسنبلة القمح والحقول والأطفال والغابات، والجداول والعصافير والشعراء وفيروز وعاصي الرحباني. ولو أنّ عصفوراً واحداً سقط أو غمامة واحدة بكت أو سنبلة قمح واحدة انكسرت لحمل إليها حافظ الأسد وعاء المهل ووقف فوق رأسها حتى تشفى”!

لن أزيد الشرح بطابور الشعراء المغمورين ولا المطربين عديمي الأخلاق..

كان الكاتب الجزائري الطاهر وطار من الأقلية النادرة التي رفضت دعوة النظام الصدامي لزيارة العراق لأنه نظام قمعي. ويصعب لضيق المكان هنا ذكر قائمة الكتاب المرتزقة الذين تنافسوا في “المربد” و”بابل” صدام. والقائمة أطول للكتاب الذين تمسحوا بين فخذي القذافي. والشيء العجيب الغريب حقاً أن بعض هؤلاء من الشهيرين والموسرين، فلماذا إذن هذا الذل اللامتتناهي أمام الطاغية؟ ويكذب كل هؤلاء وأولهم حامل الميدالية الذهبية للنفاق جمال الغيطاني الذي تمسح بنظامي بغداد ودمشق حراس بوابته الشرقية. وكم تأسفت أن ينحدر النقد تجاه هكذا انتهازي إلى مستوى حوار غبي إن كان هو من كتب “زبيبة والملك” أم لا؟ هذا ليس نقد لمثل هذه الشخصية عديمة الأخلاق إنما تحويل للنظر عن إثم كبير لإثم صغير جداً… لا يهمني إطلاقاً من كَتَبَ هذا السخف الأدبي ولا بمقدار زبيبة. ما يهمني هو كيف كان هؤلاء يسكرون ويعربدون في دمشق وبغداد وطرابلس الغرب وحتى صنعاء وزملاء وزميلات لهم أبرياء يعذبون بوحشية القرون ما قبل التاريخية؟ وأكرر هنا ما كتبته مراراً: السكوت عن جرائم نظام مديح له. هذه هي التهمة الأكبر. وفي هذا المجال يتساوى سعدي يوسف مع أدونيس وأحمد عبد المعطي حجازي وفؤاد مطر وحتى محمود درويش الذي قال عنه أدونيس في الجزء الرابع من حديثه مع عبده وازن: “فشعره، على هذا المستوى، كمثل حياته العامة شعر مصالحة. لم يُصارع في حياته أي نوع من أنواع الطغيان الذي تحفل به الحياة العربية، بل كان صديقًا لجميع الأنظمة، بدءًا من نظام صدام حسين. وكثيرٌ منها كان يستقبله بوصفه رمزًا شعريًا وطنيًا، وكان يتقبَّل أوسمتها.” (الحياة 23/3/2010) هذا صحيح لكنه يسري على أغلب الشعراء وأولهم أدونيس.
لكن ما قام به الغيطاني أكثر إجراماً، فهو شجع ،كصديقه الشاعر الانتهازي عبد الرزاق عبد الواحد صدام حسين وعصابته بشن الحرب الدموية ضد إيران والتي دمرت خيرات العراق كما ذكرت أعلاه. كتابه “حراس البوابة الشرقية” من أحقر ما وقعت عيناي عليه كمادة لكتاب وأسلوب رخيص الإثارة، لذلك سارع قتلةُ بغداد بطبعه عام 1975 وهو تحريض على حرب إجرامية وانا أعجب كل العجب ألا يقاضيه أهالي الجنود الأبرياء الذين سحقتهم هذه الحرب. وكان الغيطاني مرتزقاً في إدارة التوجيه المعنوي العراقية ويقيم في فندق بغداد، يأكل ويتبذخ على حساب الشعب العراقي المظلوم ويكتب ويدبج المقالات عن فرسان القادسية وبطلها التاريخي صدام حسين وتمتلئ أوداجه البشعة فخراً بصداقاته مع القتلة ولأن صدام تبنى تسمية جيشه بـ”حراس البوابة الشرقية”.
هذا الكاتب صديق وزير دفاع صدام حسين وضيف صدام والأسد، شارك بالجريمة كتابياً ومثل تلك الجريمة أدت بكتابها إلى السجون في بلدان يحكم فيها قضاء نزيه… والشيء المثير ليس للضحك بل للغثيان أن يدعي الغيطاني أنه كان من أوائل ثوار 25 يناير في مصر…. وقد كتب الشاعر المصري حمزة قناوي (اليوم السابع23/9/2011) : “فوجئت كغيري من المثقفين المصريين والعرب بتصريح للروائي جمال الغيطاني في مهرجان أصيلة بالمغرب الذي أتم فعالياته مؤخراً لدورته الثالثة والثلاثين، يقول فيه في إحدى الندوات إنه هو وجيله من بشروا وقادوا ثورة 25 يناير بمصر!
كان أول رد فعلٍ قام به الحاضرون للندوة أن غادر معظمهم القاعة استياءً مما قاله الغيطاني، واستنكاراً لتزييف الحقائق والتاريخ الذي حاول أن يروّج له.)
والغيطاني يقف اليوم وبكل رجعية قومجية مع النظام السوري شاتماً ثورة الشعب ناعتاً هؤلاء الشهداء الذين سقطوا في سبيل الحرية والكرامة بأشنع مفردات الطاغية…
يقول مثل حكيم: من عاشر القوم أربعين يوماً صار منهم وفيهم… والغيطاني يعاشر الطغاة ليس منذ أربعين يوماً بل منذ أربعين سنة… وأنا متأكد من أنه سيكتب يوماً أنه كان، ومنذ أول يوم، مع الثورة السورية!..
والغيطاني كان وسيكون حتى في ذلك الكذب مقلداً وليس مبتكراً… سبقته إليه تنبلة السلاطين ميرال الطهاوي التي تمرغت في خيمة القذافي لتخرج بعد سقوطه للملأ بشتائم ونقد لجثته.. مثلها مثل جابر عصفور… أليس من المضحك والعجيب أن يطير مرتزقة القلم من كل أصقاع الأرض إلى ليبيا يفترسون هناك الأخضر واليابس ويملؤون جيوبهم من مال الشعب المسروق ليقيموا ندوات ويناقشوا إبداع معمر القذافي الأدبي وهو الذي لم يحسن كتابة جملة واحدة أدبية. قرأت مداخلات السورية كوليت خوري التي تساقطت إلى درك من الابتذال يعجز قلمي عن وصفه. ورافقها في نعيق مديحها الكاتب والكاذب الفلسطيني زاهر حنني مطبلاً أن القذافي غاص في أعماقه واستخرج منه كل ما يختزنه من شعور ولا شعور (هذا كلامه… يا سلام). وبعده أتى جيش من المطبلين والمزمرين لينفخوا القذافي وليؤكدوا له بصورة وقحة أن كل ما قام به من قتل وتدمير للشعب الليبي كان ثمرة فكره العبقري. توقفت عن القراءة لقرفي… وطرح السؤال نفسه:
من هو الأغبى المادح أو الممدوح؟

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى