ثورة بلا اعلامصفحات مميزةياسين السويحة

إعلام المجلس الوطني السوري: استراتيجيا الفوضى

ياسين السويحة

منذ سنواتٍ خلت ونحن نعيش عالقين في شبكةٍ من المعلومات والاتصالات اللامتناهية، والتي تتيح لنا أن نسافر -معرفياً- عبرها غالباً، أو أن نقع في أسر دواماتها أحياناً. في عالم اليوم أصبح لأيّ شركةٍ تجاريّة في الدول المتطوّرة، مهما صغرت، استراتيجيتها الدعائية والإعلاميّة القائمة على دراسة “السوق” الذي تود التوجّه إليه، ثم مخاطبة هذا السوق وفقاً لتوصيات خبراء في العلاقات العامة وخطط التسويق.

في عالم الدعاية والإعلان، الصورة والمظهر، الرسالة والشكل، ليست الأحزاب السياسيّة مستثناة، بل لم تعد الدول ومؤسساتها مستثناة بدورها، فالوزارات والمؤسسات الرسميّة في مختلف الدول تقدّم حملات دعائية وإعلاميّة بهدف تحقيق خططها وإيصال ما تريد إيصاله إلى جمهورها، أكان داخلياً أم خارجياً.

برز الإعلام ودوره في سياقات الثورة السورية منذ أيامها الأولى، وشكّلت هذه الثورة تفجراً في مفاهيم حداثيّة للغاية بالمقارنة مع ما كان سائداً قبل آذار 2011، فمصطلحات مثل “الصحفي المواطن” أو “الناشط الميداني” كانت مرّيخيّة في عرفِ ما قبل الثورة، ومثلها تقنيات البث المباشر والتواصل اﻻلكتروني بين الأفراد أو النشر للمؤسسات، ورغم كلّ المشكلات التي طرأت في هذه المصطلحات، وكلّ اﻻنحرافات التي شهدناها في عمل بعض هؤﻻء الصحفيين المواطنين أو الناشطين، إﻻ أنّ التطوّر المكوكي في تعاطي المواطن السوري مع الإعلام بوصفه متلقياً للخبر وصانعاً له في آنٍ معاً مبهر بحق، خصوصاً إن أخذنا بعين الاعتبار أنه جرى في فترةٍ زمنيّة استثنائيّة بعنفها وخطورتها.

لكن، هل تطوّر الشق الإعلامي للعمل السياسي المعارض كما يليق بمجريات الثورة السورية؟

لا تحمل الإجابة على هذا السؤال شيئاً إيجابياً لصالح المعارضة السورية، ويعود ذلك، إلى حدّ كبير، إلى أنّ الشكل الإعلامي، ببساطة، تعبيرٌ عن ممارسة سياسيّة متخبّطة أصلاً، إذ يصعب على المتابع السوري أن يستخلص نتائجاً واضحة مبنيّة على فهم خطاب سياسي واضح المعالم، منقولٌ للجمهور عن طريق آلية دعائية-إعلاميّة سليمة، ويصعب ذلك أساساً بسبب تأسيس خطابي مبني أصلاً على اﻻنقياد العاطفي وراء الرغبة في مجاراة جمهورٍ يفترضونه غاضباً إلى حدّ يصعب عليه هضم لغة سياسيّة عقلانيّة. هذا يؤدي، للأسف، إلى تصريحات وإعلانات لا تخلو من نفس المزايدة والتخوين، ما يمنح صورةً ﻻ تتماشى مع ما يُفترض أن هيئة سياسيّة معارضة لنظام ديكتاتوري ترغبه لصورتها، خصوصاً أمام جمهورٍ يفترض فيها قطيعةً مع نهج القمع ولغته.

تتجه السطور التالية لمحاولة نقد الاستراتيجيا الإعلامية للمجلس الوطني السوري بصفته أكبر تجمّع للمعارضين السوريين من وجهة نظر مواطن اعتيادي يحاول أن يتابع العمل السياسي المعارض، وأغلب الملاحظات يمكن أن تصلح لهيئات معارضة أخرى.

أولاً: شكل الخطاب ونمط المخاطبة:

السؤال الجوهري الأول الذي يجب أن يُطرح في هذا المجال هو: كم عدد الأشخاص المخوّلين بالنطق، رسمياً، باسم المجلس الوطني السوري؟ يُفترض أن للمجلس الوطني مكتباً للإعلام والعلاقات العامة ينسّق لعمل ناطقين رسميين، وأن وجهة النظر التي يوصلها هؤﻻء إلى الإعلام، أكان ذلك عن طريق تصريحاتهم أو عن طريق البيانات الرسمية، هي الموقف الرسمي للمجلس الوطني السوري. لكن، أيعمل ذلك بشكل صحيح؟ هل يمكننا فعلياً استخلاص نتائج واضحة من تصريحات الناطقين الرسميين بخصوص القضايا المختلفة؟

سؤال آخر: ما موقع الرمزيّة الإعلاميّة لأعضاء المجلس الوطني غير الناطقين “الرسميين” باسم المجلس؟ ﻻ يبدو أن لدى قسم كبير من أعضاء المجلس الوطني أيّ رغبةٍ بالانضباط بما يخص الظهور الإعلامي أو أيّ وعي بالمسؤولية الناجمة عن تصريحٍ غير مدروس، ويستند هؤﻻء (والمجلس ككل أيضاً) على منطق أن المجلس غير مسؤول عن التصريحات التي يدليها أعضاؤه بصفتهم الشخصيّة، لكن هذا المنطق مفلس إعلامياً بكل معنى الكلمة، فظهور شخصٍ يعرّف عن نفسه كـ”عضو في المجلس الوطني” ليدلي بآرائه الشخصيّة سيُحسب على مستوى الإعلام والصورة الإعلاميّة على المجلس، شاء المجلس أو شاء العضو أو أبوا، وحين يظهر أعضاء عدّة، كلّ يدلي برأيه الشخصي في وسائل الإعلام (الفضائيات خاصّة) وتأتي الآراء متخابطة فيما بينها فإن مظهر البلبلة والتشويش وعدم اﻻستقرار يزداد، وبالتالي تنخفض الثقة لدى الجمهور المتلقّي.

ﻻ يكاد ينجح تصريحٌ واحد من أعضاء المجلس الوطني في تفادي الوقوع في فخّ إظهار مظهر اﻻرتجال والحشو الخطابي. قد يكون في هذا الكلام تعميمٌ ظالم، وكل التعميمات ظالمة فعلاً، ولكن كثرة الظهورات الإعلاميّة الخالية من المضمون السياسي الصلب، والمكتفية بالارتجال الخطابي وترديد شعارات الجمهور لكسب تعاطفه هي التي تظلم من يخرج إلى الإعلام ليقول شيئاً قيّماً، ﻻ من ﻻ يثق بما يُقال له.

على أيّ مؤسسة تريد أن تمنح صورة ثقة وثبات أن تفرض انضباطاً إعلاميّاً بين أفرادها وأن تقتصد من تعريض نفسها للرأي العام فقط لمجرّد الظهور، وهذا ﻻ علاقة له بتقييد حرّية تعبير الأعضاء أو بتكبيل الممارسة الديمقراطية، فمن اختار طوعاً أن يكون عضواً في مجموعة عمل عليه أن يتحمّل مسؤولية العضويّة بما لها وما عليها، وللديمقراطيّة الداخلية للهيئات والمؤسسات أسسها وضوابطها، وﻻ تمر إطلاقاً بإيذاء المؤسسة وصورتها في سبيل تحقيق غايات شخصيّة أو جهويّة داخلها.

ثانياً: الأزمات

لم ينجح المجلس الوطني في تفادي فخّ التعامل الخاطئ مع الأزمات، أكانت أزمات داخليّة فيه مثل أزمة إعادة انتخاب برهان غليون أو انسحاب الكتلة الكردية، أو خارجيّة عنه مثل تعثّر خطواته وخياراته السياسيّة أو خيبة أمله في مقدرة حلفائه على الوفاء بالتزاماتهم ووعودهم، أو حتّى حوادث وممارسات خاطئة حصلت على الأرض. ولهذا الفخ شكلٌ مدرّج نمطي يبدأ بإنكار المشكلة، ثم محاولة التقليل من أهميتها والتأكيد على أنها عابرة (واتهام جهات خارجية، مثل هيئات منافِسة أو أعداء آخرين، بالمبالغة في حجم المشكلة لإيقاع الأذى) ثم مرحلة الجمود والحيرة والتحركات والتصريحات المتخبّطة.

ليست نتائج هذا الفخّ المتدرّج بالهيّنة بما يخص ثقة الجمهور، خاصّة إذا ما تكررت نفس الخوارزميّة بالكثافة التي تتكرر عند المجلس الوطني السوري، وﻻ بدّ لمسؤولي الدعاية والإعلام أن يستنبطوا وسائل خلّاقة تتجنب الوقوع في هذه الأنماط من الممارسات، ﻻ سيما وأنها نفس ممارسات السلطة إعلامياً. المزيد من النزاهة الإعلامية والتواضع والتعبير الصادق عن الاعتراف بالأخطاء وإظهار النشاط في العمل على إصلاح آثارها وتفاديها في المستقبل هو الطريق الذي تحتاجه أي هيئة معارضة لسلطةٍ عنجهيّة لم وﻻ ولن تعترف يوماً بأخطائها (أو بجرائمها)، والاحترام للجمهور يقتضي التصرّف بهذا النحو، وإﻻ كان من السهل، والمنطقي، تصوّر أن المؤسسة ﻻ ترى في جمهورها إﻻ كتلة عاطفيّة ناقصة العقل النقدي، وبالتالي يجب التعامل معها بالمنطق الاستغبائي الشعبوي فقط.

ثالثاً: الإعلام اﻻلكتروني

تحكم أيّ هيئة أو مؤسسة على نفسها بالفشل على المستوى الإعلامي اليوم إن لم تحسن استخدام تقنيات اﻻتصال الالكتروني للوصول إلى جمهورها، فعدا عن أهميتها من حيث حجم الجمهور المتلقي فهي وسيلة ممتازة لتجنّب الوقوع في مأزق اﻻعتماد الأوحد على وسائل إعلامية لها خططها وأجنداتها وبرامجها للوصول إلى الجمهور، وﻻ يبدو أن المجلس الوطني قد خصص لهذا الجانب ما يكفي من الجهد والوسائط، فدراسة موقعه على اﻻنترنت تؤدي لانطباع أنه ﻻ يعطي صورة كافية عن المجلس الوطني كمؤسسة، ﻻ لجهة كفاية المعلومات الواردة عن النظام الداخلي للمجلس أو تقسيماته (“الهيكليّة” الشهيرة) أو حتى عن أعضائه. ﻻ معلومات شخصيّة عن الأعضاء أو عن خبراتهم الشخصيّة أو المهنيّة أو سجلّهم في العمل السياسي، أو حتى عن الكتل والأحزاب التي تؤلّف المجلس.

عدا عن ذلك، نرى أنّ تحديث كلّ أقسام الموقع فقير للغاية، فعلى سبيل المثال يعود آخر تحديث في قسم “مدونة أعضاء المجلس الوطني” حين كتابة هذا النص (الأسبوع الأول من تموز) إلى العشرين من أيار، كذلك قسم “الأخبار”، الذي حُدّث للمرّة الأخيرة في السادس والعشرين من أيار، أما زاوية “قضايا” لم تُحدّث منذ نهاية آذار.

أما نشاط المجلس الرسمي على الشبكات اﻻجتماعيّة فليس أفضل حالاً، وﻻ تتمتع الصفحة الرسميّة للمجلس على الفيسبوك بصورةٍ أفضل من صورة النشاط الإعلامي العام للمجلس، بل أنها تبدو في نواحٍ كثيرة أشبه بصفحة شخصيّة لمتابع اعتيادي من كونها صفحة مؤسساتيّة رسميّة، ففي هذه الصفحة نجد تعليقات إداريّة مثل “فيديو مؤثر لخالد أبو صلاح” أو “رأي معقول لعزمي بشارة” بجانب مقاطع فيديو أو اقتباسات من هنا وهناك.

الإدارة اﻻحترافيّة للميزات التشاركيّة، وهي الميّزات الأبرز للشبكات اﻻجتماعيّة مثل فيسبوك، غائبة تماماً، وكذلك متابعة التعليقات بفعاليّة وجديّة وفلترة ما هو غير الملائم منها (شتائم، دعايات، ترويج لنزعات طائفيّة أو تهديدات شخصيّة). إن هيئة بأهميّة المجلس الوطني مجبرة على أن يكون لديها من يدير صورتها على الشبكات اﻻجتماعيّة بفعاليّة احترافيّة.

يفتقر المجلس الوطني كذلك لنشرة إخباريّة دوريّة تنقل، باحترافيّة إعلاميّة ونزاهة صحفيّة، تفاصيل النشاط السياسي الذي يزاوله، والتقارير والدراسات القليلة التي ينشرها موقعه تبدو ناتجة عن جهد شخصي من بعض أعضائه أكثر من كونها ناتجة عن عمل بحثي مُمأسس داخل المجلس، ومن شأن إنشاء موقع إخباري احترافي تابع للمجلس أن يساهم إيجاباً في تكثيف الثقة به وبخطابه، وأن يبدو ذاتيّ الموارد وغير معتمد على إعادة نشر ما ينشره الآخرون، خصوصاً الصحافة غير السوريّة، عنه كمجلس أو عن الثورة السوريّة كحدث.

..

لقد فشل النظام فشلاً ذريعاً في المعركة الإعلاميّة، فصورته الإعلاميّة هزليّة للغاية حتى أمام أنصاره، لكن هذا الفشل لم يترجم لنجاح للمعارضة السوريّة، والتي أبت بعض جوانبها إﻻ أن تعيد استخدام بعضٍ من الهزليّة التي طبعت شكل النظام. إن الإعلام المؤسساتي للهيئات السياسيّة المعارضة ضرورة حيوية لإعادة انتاج فضاء سياسي عام في سوريا مكان التصحّر الذي صنعته فاشيّة النظام القمعي على مدى العقود الماضيّة. ليس وحده الحل، لكنّ في غيابه أو سوء استخدامه مشكلة كبيرة..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى