صفحات المستقبل

“اختفاء” عروة نيربية لمصلحة “سينما كل هذا الواقع”!

وسيم إبراهيم

عروة نيربية في قبضة السلطات السورية، رغم أنه لم يكن يوما متعذراً على تلك القبضة، لذلك سنفكر بحسن نية.

عندما كان اليأس عاماً في سوريا، هناك من رفضه كمبدأ وعانده. الشريكان ديانا الجيوردي وعروة نيربية كانا كذلك. من موقعهما وعملهما كمنتجين ومخرجين للأفلام التسجيلية، أرادا إقامة مهرجان سينما. فضّلا الفعل على أن يكونا من حاملي يافطة: أنا شخص يائس في دولة ميؤوس من المبادرة فيها. رغم أنها يافطة كانت تقابل بالتهليل ولم يكن أحد ليلوم حاملها.

اعتقدنا أن في الأمر تهوراً ومغامرة غير محسوبة: مهرجان مستقل للسينما.. في سوريا؟!

لكن شباب «دوكس بوكس» جعلوا مهرجانهم هذا واقعاً، وصنعوا موعداً سنوياً مع إنتاج سينمائي رفيع انتظره كثيرون. كان حيزاً فتح المجال للسوريين كي يكتشفوا غنى وجمال السينما التسجيلية، وأنها نوع خاص لا يعوزه أي شيء لكي يقدم طرحاً فنياً وإنسانياً جديراً بالتأمل. جدير بالضحك والسخرية والألم من «سينما الواقع».

كان شيئاً فريداً، وغريبا حقا، في سوريا، أن تذهب لمهرجان سينما وتحس فيه روح الاستقلالية. أن تختبر وتعرف بوجود أشخاص كان همهم الأساس هو أنت، كمتذوق ومتلق، واختيار باقة لا يمر فيها إلا الإنتاج الجيد. لهذا، لم تكن في حاجة لتأبط برنامج المهرجان. كان يكفي أن تعرف ساعات العرض، وأن تمضي إلى صالة السينما وفي قرارك أنك ستحضر فيلما جديرا بالمشاهدة. إنه عقد تكرّس بين متابعي المهرجان ومنظميه. كان هذا فريداً في سوريا التي كانت الأمور تجري فيها أبعد ما يكون عن «عقود الثقة» هذه: أن يعرف الناس أن حدثاً صنع لأجلهم، ولن يكون فيه إلا ما هو فعلاً لأجلهم.

ولتكتمل «الفرادة»، أقيم هذا «العقد» في ظل رعاية «الدولة»، ممثلة في قبول المؤسسة العامة للسينما أن تكون من ضمن شركاء الرعاية للمهرجان. بهذا المعنى، يمكن التفكير بأن فريق شباب «دوكس بوكس» حقق «تظاهرة» ثقافية، في بلد منع فيه التظاهر بكل أشكاله. لم نعرف كيف فكّر عروة وديانا والفريق معهما، وكيف ذهبوا حقاً، ومن كل عقلهم، إلى مكتب مدير مؤسسة السينما، وأقنعوه بفتح الصالات الرسمية لأفلام المهرجان. بدأ المهرجان فعلا بمغامرة، وكان على كف عفريت لدرجة أنه قبل أيام لم يكن يعرف تماماً إن كان سيقام المهرجان أم لا! كانت مغامرة، وخاضها الفريق الشاب إلى آخرها، ولم يخب عملهم. كان عملا شاباً، بما يعني هذا عدم اليأس من المبادرة والعمل. «اختفاء» عروة نيربية أعاد ذكريات المهرجان، وجعلني أفكر أنه كان بالفعل «حدثاً تاريخياً» في الشام.

للمناسبة، لا مفرّ هنا من ذكر أن عروة نيربية كان في عداد الفريق الشاب الذي شارك في أطلاق ملحق «شباب السفير» هذا، وكتب فيه لمدة، ومعرفتي به انطلقت بفضل هذا «المكان» أيضا. في دورة المهرجان الثانية فاجأني تماما عندما اتصل بي طالباً مني إدارة ندوة في المهرجان. حاولت التملص، والقول أن لا خبرة لي في الندوات ووضعته أمام «تباشير» الفشل الذي سيتكبده. لكنه أصرّ وقال إن المهرجان روحه شابة وهذا ما نريده. كان له ما أردا، بما فيه تحقق «التباشير».

المفارقة أن الندوة كانت عن «الفرد في الحرب». وجدته عنوانا فيه مفارقة كبرى: فرد في الحرب؟! أصلا، في الحياة العادية يصعب إمساك مسألة الفردية وعزلها وتشريحها، فكيف في الحرب التي تقوم على أساس اعتبار الكل واحدا. الآن، أفهم صعوبة وجوهرية السؤال، على «رفاهية» الشرط والظرف الذي طرح فيه. حالة عروة نفسه هي في صلب هذا السؤال، وعن رفض مبدأ أن لا صوت إلا للمعركة. عروة فرد في الحرب، ورأينا كيف تصرف مع ديانا في شأن المهرجان بعد اشتعال الثورة السورية. المهرجان كان من روح الشباب، وفي سوريا انطلقت تلك الروح عارمة لطلب الحرية والكرامة وقوبلت بالقتل. كان ردهم أن المهرجان يحتجب احتجاجاً، فكيف يقام وروح الشباب السوري تزهق؟!

المهرجان كان حقا رمزا لروح الشباب، والرغبة العارمة في التغيير والعمل. لم يقف الآباء على الحياد النائي أو السلبي، كانوا هناك للدعم والمساندة والمشاركة. أتذكر حضورهم في الصالات والنقاشات. أتذكر المخرج أسامة محمد وفي جواره تلك القامة الإنسانية الجميلة لعمر أميرالاي. أتذكر أن المهرجان شهد، وحقق، أول عرض جماهيري، في صالة رسمية، لفيلم أنجزه أميرالاي، وإن كان في الأمر ذلك التحايل الذي لم يعتبره هو نفسه داعياً للخجل. أميرالاي تمكن، عبر الحيلة، من جعل مؤسسة السينما تنتج فيلماً ينتقد النظام من أعماقه! كنا نراهم جميعاً فرحين بالإنجاز الشاب، فاعلين فيه وداعمين له.

أتذكر كل هذا بينما عروة مختف، والمرجح أنه في قبضة السلطات السورية بعدما فقد الاتصال به في مطار دمشق وهو في طريقه إلى القاهرة. أتذكر وجه عمر اميرالاي: الابتسامة والغصة. أتخيله هنا يقول إن الاعتقال حدث بتوصية من مؤسسة السينما ولأغراض لوجستية. فالمؤسسة أحبت المهرجان التسجيلي جداً، بعدما نالها من نجاحه «طرطشات»، ورأت جمهوره يكبر. لهذا، المؤسسة لم يعجبها احتجاب المهرجان، وهي تريد إعادته بعمق، لا بل تريد له أن يعود من باب الحدث السوري والانشغال به. كل ما هنالك أنها ترى من الضروري استضافة عروة نيربية لعمل «روداج» للتماشي مع الوضع، وهي تفكر في القيام بإنتاج أفلام تخرج حامية من الفرن السوري لعرضها على جمهور الدورة القادمة، فكيف لمهرجان سينما الواقع أن يحتجب وفي سوريا كل هذا الواقع. من يقول إن مؤسسة السينما لا تريد «الإصلاح»، إنها تريد فتح صفحة جديدة بيضاء تماما، لدرجة أنها فصلت مخرجين وتريد البداية معهم من الصفر. مثلها مؤسسات ووزارات أخرى، طالما هناك مسرحيون وفنانون وإعلاميون وناشطون مدنيون في الاستضافة الرسمية (عيب أن نقول اعتقال تعسفي)، وأنشطهم وزارة الشؤون الاجتماعية، التي بدورها تريد البداية مع آلاف الشباب السوريين والرجال والنساء والأطفال والكهول من الصفر أيضا. إنها «ورشة عمل» رسمية شعبية تمهيداً للدخول في سوريا الجديدة.

كان الواحد ليواصل هذه السخرية، لكن ليس وهو يرى هول ما يحدث في شاشة كل هذا الواقع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى