صفحات العالم

إقتصاد كسيح يبحث عن هوية في دمشق


نسيم ضاهر *

على مدى أيام ثلاثة، عقد في دمشق الملتقى الوطني للحوار الإقتصادي، بمشاركة نحو ثلاثمئة خبير وشخصية ومسؤول على ما جاء في البيان الرسمي عملاً بترفيع المشاركين إستجابة لدواعي الإصلاح الشكلية، ودلالة على نهج المشاركة في صناعة القرار، المرَّوج له بتكرار ممل مصطنع في الإعلام. كان المبتدى إقتصاد السوق الإجتماعي، المحيَّر في جمع النقائض على سبيل الوصفة السحرية بياناً لتمايز النموذج المتبَّع بحلَّة شعبية، والمنتهى نتائج كارثية بائنة في مختلف القطاعات، ليس أقلها إنهيار الطبقة المتوسطة (إن وجدت أصلاً) والاعتراف بحشر ثلث مجموع سكان سورية تحت خط الفقر بمعايير عالمثالثية تتناول الحد الأدنى من الكفاية والدخل المتواضع.

لقد أرادت سورية البعث أولاً، ومن ثم سريعاً سورية الأسد، إضفاء هالة تنموية على النظام، لم يلبث أن إنقشع غشاؤها فآثرت التغني بالإنجازات المجرَّدة من عناصر التكامل والتقدَّم التقني ، لسهولة إيرادها وربطها بتعزيز موقع سورية الاقليمي. على هذا النحو، قلَّما إعتمد إحصاء دقيق أو استخدمت لغة أرقام صحيحة في حقل الإقتصاد بل أن مداخيل وازنة ومصروفات عالية نسبياً، غابت كلياً عن أبواب الموازنة السنوية، وتوارت معطيات مؤثرة عن لوائح المالية العامة، فغلبت الحسابات البسيطة على تلك المركبَّة في ميزان المدفوعات ومعدَّلات الاستثمار، كما حيال سوق القطع وإحتياطي النقد وطبيعة المبادلات. من ناحيته، استوعب القطاع العام الفضفاض بعضاً من فائض القوة العاملة، مضيفاً الى العطالة المصدرة بمئات الألوف الى لبنان، بطالة مقنعة برواتب ضعيفة، أسهمت في تردِّي الاداء العام، وتفشي الرشوة والفساد على خلفية المحسوبية والتمثَّل بالمنتفعين والمحظوظين من أهل السلطة وحواشي النظام.

وعليه، فشلت محاولة الاصلاح الاقتصادي الخجولة غداة تبؤ الرئيس بشار الاسد سدة الرئاسة خلفاً لأبيه، إذ اجتمعت عليها عوامل البنى الثقافية الناشئة على تحاشي المسؤولية والهروب من النفع العام الى المنفعة الشخصية، وضعف إرادة التغيير ومحاسبة الماضي، وتلك النزعة الأمنية الجارفة التي ما برحت مسند النظام وضمان بقائه، تعلو ما عداها من مهام، وتشكل الدرع الأساسي المولج تهذيب الإرادة الشعبية، تلافياً للإحتجاج والثورات.

أن يعقد حوار اقتصادي في ظروف طبيعية، لهو حدث ذو معنى حين تطرح فيه مسائل قابلة للحل، مبنية على وقائع ومعطيات رقمية صادقة تندرج في إطار اجتماعي ديموقراطي حدَّد وجهته وتكفلت السياسة ترجمة خلاصاته.

الحال أن الجاري دمشقياً حفَّت به الضبابية لافتقاره مقدمات الواقعية وغلبة الطقوسية عليه، بحيث جاءت توصيات الملتقى بمثابة مضبطة إتهام للوزارات المتعاقبة، وتنزيهاً للرئيس الحاكم من كل سوء لحق بالاقتصاد.

مع ذلك المنحى المرسوم سلفاً، أسفرت المناقشات عن تعرية البناء الاقتصادي القائم، واتسمت بسوداوية ملحوظة إزاء المراكم من صعوبات وسقطات في مختلف القطاعات، فلم يسجل ما يمكن وصفه بالايجابي على الصعد كافة، ولم تقرأ مسحة تفاؤلية في أي من المداخلات. النظرة الى المقترحات المرفوعة تشي بحجم المعوقات، والعبور الى النقاهة الاقتصادية يتطلب مدى زمنياً يوازي عقوداً طويلة. هكذا قيل أن المزارع يخسر إن زاد المحصول، وهو حتماً خاسر إذا قلَّ. كذلك تبّرم الصناعيون من إجحاف الاتفاقات التجارية المعقودة، وللمفارقة فهم عنوا الصين وتركيا وسواهما من الدول الناشئة، التي تكاد صادراتها تقضي على صناعة الملبوسات والقطنيات والخشبيات، وعلى تصنيع المنتجات الزراعية السورية. كما اختلف المشاركون حول هوية الاقتصاد السوري الفضلى، إذ أدَّى إقتصاد السوق الاجتماعي الى تفاوت المداخيل وإزدياد ثراء الفاسدين ( طبعاً من دون التطرق الى حلقة السلطة وشركائها) وانفلات الأسعار جراء سياسة الانفتاح. فكيف لاقتصاد صغير تائه على هامش العولمة أن ينافس ويعافى وينمو إنطلاقاً من القاعدة الزراعية وجيش أبناء الريف. وألا يلفت أن جدول المطالب المرجو تحقيقها، يبدو أقرب الى مفكرة القرن التاسع عشر منها الى الحاضر، فيما قطاع الخدمات، ومنها المالية والمصرفية وسائر المؤثرات الحديثة، غارقٌ في متاهات التوجيه والضبط، يخشى من دوره، ويعرف هامشياً كملحق باقتصاد الانتاج. وماذا عن تفعيل دورة الاقتصاد داخلياً، وبؤس الكفاية الملموس لدى غالبية المواطنين، محمولهُ دعوة صريحة الى الحمائية والتقوقع وراء الحدود، واقتراح العزلة كمخرج من أزمة بنيوية بات حلفاء النظام القلائل، سابقاً وحاضراً، مسبِّبيها في المقام الأول. في المحصلة، لا شفاء من تدهور حال المريض الا بالتمني والرجاء، وتخبط خارج الزمان في البحث عن هوية للإقتصاد، بينما الموشرات تحكي عن تراجع مخيف ونقص في الأساسيات، من سلع ودخول وتمويل وتقنيات، لا يعوِّضه الظن بالخارج والدخيل، وإلقاء المسؤولية على مناخات قاهرة صنعتها القيادة بأيديها وأمعنت في مخاصمة مجرى التحولات.

وفقاً لمداخلات معظم المشاركين في الملتقى، تحوّل اقتصاد السوق الاجتماعي الى اقتصاد ريعي حرم الغالبية الساحقة من نعمه وأوقعها ضحية ندرة الاستهلاك والغلاء ; الظاهرة الاكثر خطورة، انما تتمثل في ترييف الحواضر ودفع مئات الآلاف الى ضواحي الشقاء طلباً لعمل عزيز، ما بلغ عتبة اللائق بالمواطن العادي.

أما الأشد إيلاماً في هذا السياق، فهو الكساد المنتظر، الذي لن يفيد في الانقاذ منه تعداد المرافق المحتم إيجادها من جانب الدولة، نظراً لقدرتها المحدودة على ضخ الرساميل والاستثمار، بخاصة وأن المنشآت القائمة غالبها متقادم، والمبادرات الفردية محكومة بسياسات مقيدة أودت بما يقارب الألف مصنع وورشة صناعية الى الاغلاق والافلاس. فقد أظهرت المداولات مدى تعثر التعليم، وضرورة الإصلاح الجذري للتعليم العالي. لذا أقرت المقترحات بهذا الصدد انها تستوجب برامج يناهز وضعها قيد التنفيذ قرابة عقدين، إن صدقت النوايا واقتبست سورية من الدول التي تناصبها العداء، وتمنع على الطلاب ثقافتها ولغاتها ومعارفها بأعذار قومية فـارغة وأسـانيـد خـائـفة من تـسلل المفاهيم والافكار.

ان المارد الممانع الذي لا تنفك الماكينة الدعائية تعدد صولاته وجولاته، اذ يلهث وراء حماية حق النقض الروسي في مجلس الامن (لأن الموقف الصيني مساير تتجاذبه اعتبارات مصلحية عند الامتحان)، انما يشكو من ضعف مناعة عضوية، اقتصادية في المقام الاول، ستقوِّض محاولة افلاته من العقاب. في هذا المضمار، تجاوزت أعطابه كاحل أخيل منذ زمن بعيد، ولا مفر له من مواجهة يوم الحساب العسير أمام شعبه المثقل بالحرمان والأعباء. وسيتبين عاجلاً ان العلاج يستلزم ما يفوق الاصلاح، ويبدأ حكماً بالتصدي لعلّة النظام.

* كاتب لبناني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى