صفحات العالم

إنهم قادمون: خافوا – لا تخافوا


حسن شامي

يوم الأحد الفائت يستحقّ صفة اليوم المشهود والشاهد في آن واحد. ففي ذلك اليوم القريب من «أيام» العرب وحوليات ثوراتهم شهدنا في أدنى تقدير حدثين بارزين واستثنائيين بعض الشيء. سنسارع إلى القول إن انتساب الحدثين الثوريين إلى فضاء عربي واحد لا يجيز بالضرورة وضعهما في ذات المدار والمنظار، ولا حتى في سياق مشابه. الأولّ هو إعلان المجلس الوطني الانتقالي الليبي في احتفال حاشد عن تحرير ليبيا بالكامل. الثاني هو الانتخابات التونسية الدائرة على المجلس التأسيسيّ لصوغ دستور جديد للجمهورية الجديدة أو الثانية التي رسمت صناديق الاقتراع ملامح قواها حتى إشعار آخر.

في ما يخصّ ليبيا أعلن رئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبدالجليل، قبل أي انتخابات وقبل تشكيل أي حكومة فترة انتقالية تتولّى تنظيم الاقتراع المفترض، أنّ ليبيا ستعتمد الشريعة الإسلامية مصدراً أساسياً للقوانين، مع ما يعنيه ذلك من تشريع تعدّد الزوجات، وفق ما أوضح عبدالجليل نفسه. لا نستبعد أن يكون هذا الإعلان المؤسّس قد أثار تململاً واستياءً في العواصم الأطلسية التي لعبت دوراً حاسماً ليس فقط في ترجيح كفة الثائرين ضدّ القذّافي على الأرض، بل كذلك في عملية تصفيته الجسدية وإن بطريقة غير مباشرة، وفق ما كشفت صحيفة «الكنار أنشينيه» الفرنسية المتخصصة في كشف المستور والمحجوب. كانت الصور المقزّزة لمقتل القذافي بالطريقة البشعة والمعروضة على أنظار مئات الملايين قد أثارت هي الأخرى استياءً وشكوكاً في صلاحية العدالة «الثورية» القادمة. على أيّ حال قدّم عبدالجليل في اليوم التالي ما يشبه التصويب بخصوص اعتماد الشريعة، إذ أكد أن الليبيين هم مسلمون معتدلون موحياً باستلهامه صورة النموذج التركي الشائعة والمطمئنة في هذه الأيام. وشبه التصويب هذا جاء على الأرجح إثر مطالبة غربية وأطلسية تفادياً للحرج الذي يسبّبه هذا الإعلان لدول وقوى وعدت الرأي العام الغربي بما يتعدّى مهمة حماية المدنيين من بطش القذافي وقوّاته، وبما يتعدّى أيضاً لعبة السباق على العقود النفطية وإعادة إعمار ما سيتهدّم لا محالة، كما هي حال مدينة سرت مثلاً.

قد يكون مفهوماً أن تصريح عبدالجليل يخاطب الداخل الليبي وجمهور الثوّار ويأتي نكايةً بالقذافي وكتابه الأخضر وقوانينه الاستنسابية، وإرضاءً لقادة عسكريين ميدانيين في مقدمهم جهاديون سابقون في تنظيم القاعدة مثل عبدالحكيم بلحاج. على أنّ صورة الشريعة الإسلامية في فوهة البندقية يصعب تسويقها في بلدان أطلسية حضّرت رأيها العام لاستساغة فكرة زرع الديموقراطية وحقوق الإنسان في أرض ليبيا الجاحدة وصحرائها وإن على إيقاع ضربات عسكرية جوية يعلن عنها ويعتذر على خسائرها البشرية الجانبية. وهذا ما حمل وزير الخارجية الفرنسي ألان جوبيه على التشديد على يقظة بلده وتحذير القادة الليبيين من عدم احترام حقوق الإنسان. ومن غرائب الأمور أن يطلب المجلس الانتقالي تمديد مهمات قوات الأطلسي حتى نهاية السنة الجارية فيما أعلن مجلس الأمن بالإجماع عن انتهاء مهمتها هذا اليوم. قد يتم التوصل إلى صيغة إشراف دولي غير معلن تقوده هذه المرة دولة قطر.

لا نشكّ في أن غندور الفلاسفة الجدد، أي برنار هنري ليفي، سيظل ينام قرير العين بعد مساهمته الفذّة في تحرير ليبيا، وذلك على رغم أن عبارة تطبيق الشريعة وصورتها هما مصدر كوابيس في مخيلة قطاعات عريضة في البلدان الغربية. في المحصلة، يكون لدينا معادلة غريبة: صحيح أن الغموض البنّاء الذي كان يلفّ هوية الثائرين قد تكشّف عن أن الإسلاميين قادمون، لكن يسعكم أن تخافوا من دون أن تقلقوا.

الانتخابات التونسية، الناصعة والنظيفة عموماً، تنقلنا إلى مشهد مختلف على رغم قوة الحضور «الإسلامي» فيه. فهي من دون مبالغة حدث سياسي مؤسّس. إنها بداية إقلاع تاريخي لن يكون سهلاً بالطبع. أن تكون الانتخابات حرة ونزيهة، وأن يكون الاقتراع كثيفاً بحيث تفوق نسبته الثمانين في المئة، وأن يقف المنتخبون ساعات عدّة في صفوف طويلة بلغت في بعض الدوائر والمراكز أكثر من كيلومتر، وأن تكون التجاوزات طفيفة، والأهم من ذلك أن يشعر كل مواطن بأنه يصنع بقوته الذاتية وباستقلالية كبيرة حاضر بلده وترجمة لتطلعاته، كل ذلك ليس من الأمور المألوفة لا في تونس سابقاً ولا في دنيا المجتمعات العربية حالياً. قانون الانتخابات القائم على النسبية كان هو أيضاً يشي بقراءة ذكية ومتواضعة لخريطة الواقع الاجتماعي التونسي. ثمة بالفعل ما نتعلمه من تونس. النتائج الرسمية تشير إلى حصول حزب حركة النهضة ذي التوجه الإسلامي على نيف وأربعين في المئة من المقاعد. هذه النتيجة لا تفاجئ إلا المدمنين على تفصيل الواقع على مقاس أهوائهم ورغباتهم. فالانتخابات أتاحت لتونس العميقة ولشعب الضواحي والمساجد والمناطق المهملة والمهمّشة ولصغار الكسبة والحرفيين والعمال والمستخدمين وأبناء الهجرة القاعدية أن يقولوا كلمتهم. ومن يعرف القليل من تاريخ تونس الحديثة منذ الاستقلال سيكتشف أن حزب النهضة احتل المساحات «الطرفية» التي كان يشغلها معارضو توجهات بورقيبة داخل حزبه وهم عموماً من المتمسكين بالمدار العربي والإسلامي لتونس.

والدلالة الأولية لنتائج الانتخابات هي أن غالبية الأصوات ذهبت إلى الذين لا يشك التونسيون في مقاومتهم لسلطة بن علي وبطانته. سجناء النهضة كانوا يعدّون بالآلاف وقد قتل عدد منهم عمداً أو تحت التعذيب ناهيك عن الذين شرّدوا في المنافي. وقد كافأ الناخبون كذلك معظم الذين تصدوا، أفراداً أو جماعات وهيئات، لسلطة بن علي وتسلطه، مثل المنصف المرزوقي وحزب التكتل. ولا أحد من هؤلاء، خصوصاً النهضة، لجأ إلى العنف المسلح على رغم اضطهادهم. فوق ذلك اجتذبت هذه القوى قسماً من الطبقة الوسطى المتعلمة والمتنورة. وجاءت تصريحات قياديي النهضة، أثناء الثورة وبعدها، مدروسة وذكية بحيث يصبح اتهامها بازدواجية اللغة ضرباً من محاكمة النوايا.

من المؤكد أن ثمة طموحاً لدى جناح بارز في النهضة لتحقيق التوليف المنشود منذ عصر التنظيمات العثمانية بين الهوية الإسلامية والحداثة. كل هذه العوامل أعطت أرجحية أخلاقية لأبرز الفائزين. وهذا بالطبع لا يكفي. الشيء المهم هو أن الصفة الإسلامية العريضة، مثلها مثل الصفة الحداثية، لا تعني الكثير إلا في نظر المؤدلجين ومنظري الهويات الثقافية وجواهرها، وليس في نظر المؤرخين وعلماء الاجتماع. يمكننا أن نتوقع صدور دعوات إلى الخوف من النهضة ومن إمكانية صياغة نموذج مستقر للعلاقة بين الدين والدنيا. وقد تأتي الدعوة من جهات عدة، بعضها إسلامي بالطبع.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى