صبحي حديديصفحات الثقافة

محمد القيسي: مغنّي فلسطين الجوّال/ صبحي حديدي

 

 

ألزمني هذا الشهر، آب (أغسطس)، باستذكار اثنين من الكبار الذين رحلوا خلاله، علي الجندي ومحمود درويش؛ ولست أجد غضاضة، بل أرى واجباً، في استذكار راحل كبير ثالث: الشاعر الفلسطيني محمد القيسي (1944 ـ 2003) الذي، أسوة بصاحبَيْه، غادر هذه الدنيا، قبل الأوان بكثير.

ليس لي، من جانب آخر، إلا أن أقول اليوم أيضاً، إنني كنت «محظوظاً» بالوصول إلى العاصمة الأردنية عمّان، صبيحة رحيل القيسي؛ لكي أشيعه إلى مثواه الأخير، وأرى بأمّ العين دموع أصدقائه، واستمع إلى عبارات الرثاء التي بدت ــ في الصدق، والحرارة، والمرارة ــ أكثر انسجاماً مع الشمس اللاهبة، ومع المقبرة الفقيرة الجرداء في ظاهر عمّان، حيث تشتعل «الرصيفة»؟ بالطبع، ليس من اللائق أن يعتبر المرء نفسه محظوظاً إذْ يشارك في جنازة صديق، ولكني مع ذلك لا أتردد في القول إنّ حسن الطالع شاء أن أكون تحت تلك الشمس، في تلك المقبرة، ذلك اليوم!

كان القيسي أحد كبار فنّاني فلسطين المعاصرة، وأبرز الأسماء في دائرة «سداسيّ» شعري فلسطيني، ضمّ أيضاً خالد أبو خالد، فوّاز عيد، مريد البرغوثي، أحمد دحبور، وعز الدين المناصرة، حملوا أعباء تطوير القصيدة الفلسطينية في منافيها العربية، وفي حلقة وسيطة، ستينية، بين «شعر النكبة» و»شعر المقاومة». وشعراء هذا الجيل لم يتوفّر لهم رفاه الابتعاد عن الهمّ الفلسطيني ـ في مختلف مستوياته، شريطة أن يكون المستوى الوطني في الطليعة ـ كما توفّر لشعراء فلسطينيين بعدهم، واليوم، في الحقبة المعاصرة تحديداً. ولا ريب في أنهم حملوا، تماماً كما فعل «شعراء الداخل» من أمثال درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم وسالم جبران، العبئَيْن معاً: تطوير شعريات فلسطينية يُشار لها بالبنان، وتشكّل خصوصية جمالية في المشهد الشعري العربي، والانتماء، من جانب آخر، إلى حركة الحداثة والمساهمة في صناعتها، على حدّ سواء.

لكنّ محمد القيسي ظلّ أغزرهم، بلا ريب!

ساعة رحيله كان قد أصدر زهاء 40 عملاً، في الشعر والسرد والنثر والسيرة والحوار وأشعار الأطفال، إلى جانب الأعمال الشعرية التي صدرت سنة 1999 في ثلاثة مجلدات. وإذا كانت تلك الغزارة دليلاً بيّناً على خزين شعري عميق الغور، فإنها في الآن ذاته صاغت ستراتيجية الشاعر في مقاومة شرط المنفى، وشرط الوعي الشقي الذي حاق به أو طوّره هو بنفسه إلى درجات أشدّ وأرقى، إلى جانب فعل المقاومة الفريد، والخاصّ، كما تصنعه كتابة الشعر.

ولعلي هنا أستعيد حكاية ذات دلالة خاصة، حول التفصيل الذي يخصّ الشعر الفلسطيني، بين «داخل» و»خارج». ففي ذروة بحث الوجدان العربي عن إحالات خلاصية، نشرت مجلة «شعر» ملفاً عن شعر المقاومة داخل فلسطين المحتلة، تضمّن عدداً من القصائد القادمة «من وراء الأسلاك» حسب التسمية التي اعتمدتها المجلة. لكنّ التحرير ارتكب هفوة، يمكن للمرء أن يتفهمّها تماماً، آنذاك والآن أيضاً، هي إدراج خمس قصائد للراحل القيسي، الذي كان في الواقع قد عرف مرارة النزوح منذ العام 1948، وكان عند صدور الملفّ يعيش متنقلاً بين أكثر من منفى بعيداً عن مسقط رأسه، «كفر عانة».

ذلك لأنّ القيسي كان جديراً بهذه الصفة (التي بدأت، واستمرّت طويلاً، غائمة وملتبسة)، إنْ لم يكن بسبب انخراطه التامّ في الموضوع الفلسطيني، بالمعاني الوطنية والإنسانية والوجودية والرمزية، فعلى الأقلّ لأنّه كان يعتبر الشعر ذاته سلوكاً مقاوِماً بأرفع ما تعنيه الكلمة من معنى. وهو يقول: «إذا كان الشعر أداتي الوحيدة في مواجهة القسوة، فقد كان المخيّم موضوعي وهاجسي اللحظي، كنت أكتب لأقنع نفسي بالحياة، ثمّ لأزداد معنى، وكنت أحسّ بواسطة الكتابة أنني أقترب أكثر من الحلم، من أغاني أمّي، ومن الأرض».

وحين رحل، كان القيسي يواصل أحد أصفى التقاليد الغنائية في الشعر العربي المعاصر، وكان مغنيّ تروبادور أصيلاً، بكلّ ما تعنيه المفردة من معاني التجوال والغناء. وكان ناي فلسطين الذي لا حدود في متتالياته النغمية للأسى والحزن والغربة، والمسجّل الأكثر التقاطاً لحسّ التراجيديا والرثاء في الموروث الفولكلوري الفلسطيني. وكان، بالطبع، في عداد الشعراء الأكثر ارتباطاً بشخصية الأمّ (حمدة، التي خلّدها في عمل كامل، وأكثر من قصيدة)، لا بوصفها الحامل الرمزي للوطن والهوية والأرض، فحسب، بل بوصفها، أيضاً، منبع الغناء، ومصدر الأسطورة، وبيت الشعر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى