سلامة كيلةصفحات سورية

إيران وضرورة بقاء الأسد/ سلامة كيلة

 

 

كان واضحاً في النصف الثاني من سنة 2012 أن النظام السوري لم يعد قادراً على الاستمرار، حيث كان قد سحب قواته من أجزاء كبيرة من سورية، ومركَزَها في المدن والساحل منذ إبريل/ نيسان في ذلك العام. وفي الوقت نفسه، حاول اللعب بالمجموعات “الجهادية” التي كانت في السجن، وأطلق أخطرها في ذلك الشهر نفسه. فقد كان واضحاً أن معظم الجيش بات في حالة احتقان، وبدأت حالات الانشقاق تتزايد، وكذلك حالات الفرار. وأيضاً، بعد أشهر قليلة، بات الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة في وضع منهك. وذلك كله قبل أن يحدث التحوّل الجذري في وضع الثورة نحو التسلح، وقبل أن تظهر المجموعات “الجهادية” التي أطلقها النظام من سجونه، ومن ثم أخذت تُرفد من دول عديدة، منها إيران والعراق والسعودية وتركيا، وأميركا بالطبع، ثم روسيا. وحيث كان الحراك الشعبي أساس الثورة في معظم مناطق سورية.

دفعت هذه الحالة إلى أن تنشأ نخبة من داخل السلطة، من كبار الضباط والمسؤولين السياسيين، وحتى الأمنيين، طرحت مسألة الانتقال إلى الحل السياسي. كان المعبّر عنها في حينه نائب الرئيس فاروق الشرع، الذي أشار بوضوح في مقابلة مع صحيفة الأخبار اللبنانية (بشكل ما صحيفة النظام)، نشرت في 23/12/2012، إلى عبث استمرار الصراع، وإلى عجز الطرفين (النظام والمعارضة) عن حسمه، حيث دخل في دائرة الاستعصاء. وبالتالي طرح الانتقال إلى الحل السياسي.

كتب صاحب هذه السطور ذلك كله في حينه، ولكن يتّضح الآن أن هذه الوضعية جعلت بشار الأسد يفكّر في الرحيل. وكان واضحاً حينها أن إيران هي التي “أقنعته” بأن يبقى، وأنها ستدعمه بقواتٍ تمنع سقوطه. ويعترف الآن عضو مجمع مصلحة النظام في إيران، علي آغا محمدي، بأن القائد السابق في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال حسين همداني، عندما عاد من سورية، قال إنه لما دخل سورية كان بشار الأسد قد توصل إلى أن عليه أن يغادر القصر، حيث باتت القوات المهاجمة تحيط به. وهو وضع كان واضحاً نهاية سنة 2012، حيث تحلَّق حول دمشق أكثر من ستين ألف مقاتل، وجرت محاولات اقتحام للمدينة. وأضاف محمدي أن همداني قال للأسد “لا تقلق.. إذا سمحت بتوزيع عشرة آلاف قطعة سلاح بين الشعب وتعبئة الناس في مجموعات سيزول الخطر”. وحسب محمدي، “عبأ الجنرال همداني 80 ألفاً من القوات السورية، ودخل حزب الله ساحة الحرب، وتم تعزيز الجيش”. ويفاخر محمدي بالقول إن الجيش السوري بات قوياً، و”أسقط مقاتِلة للكيان الصهيوني”. وهذا يوضح أن النظام كان على وشك التغيُّر حينها، وأنه كان يمكن أن يحدث تحوُّل من داخل السلطة، يسمح بتحقيق مطالب طرحتها الثورة.

ولكن قبل تناول هذه المسألة، لا بدّ من تقدير الوضع فيما لو كان بشار الأسد قد رحل حينها،

“التغيير الجذري للنظام في سورية لم يكن وارداً على الإطلاق، لغياب الأحزاب التي تعرف ماذا تطرح، وكيف تقود الثورة إلى الانتصار”

واستلم السلطة نائبه الأول، فاروق الشرع، في إطار حل سياسي يحقق الحريات والديمقراطية، وبعض مطالب الشعب. بالتأكيد، كانت ستتحقق ثلاث مسائل جوهرية: الأولى، تحوّل من داخل النظام يحافظ على موقع “الممانعة”، حيث لم تكن سياسة الشرع لتختلف من هذه الزاوية عن سياسة بشار الأسد. والثاني، تحقيق بعض مطالب الشعب، الأمر الذي يسمح بالقول إن الثورة حققت هدفها، وإنْ كان ذلك يشابه ما حدث في تونس ومصر خصوصاً، حيث أُزيح الرئيس وبقي النظام. والثالث، تجنيب سورية كل القتل والدمار الذي حدث في ما بعد، والذي كان لإيران دور كبير فيه. حينها لم يكن الصراع قد تفاقم إلى الحدة التي نتجت عن تدخل إيران وأدواتها، وإدخال مجموعات أصولية، ولا كان الشعب قد اندفع لحمل السلاح بالشكل الذي تلا ذلك نتيجة وحشية النظام.

حينها، أشرت إلى المسألتين الأوليين، ونبهت من خطر العجز عن تحقيق تحوّل في النظام، فقد نبهت كل الخائفين على تغيّر سياسة النظام الخارجية من أن الوضع لا يسمح سوى لتغيير من داخل السلطة، وهذا يعني استمرار السياسة الخارجية نفسها، وأن التغيّر سيكون في السياسات الداخلية فقط، حيث كان لا بدّ من تحقيق مطالب طرحها الشعب. طبعاً جرى تهميش فاروق الشرع، وجرى قتل عدد من كبار الضباط الذين كانوا أساسيين في بنيته. وضاعت الفرصة التي كانت تسمح بتحقيق تحوّل ديمقراطي. وإنْ كان هذا التحوّل لا يحقق كل مطالب الشعب، ولا يُحدث التغيير الجذري الضروري لنهضة سورية. بمعنى أن النظام كان قد وصل حينها إلى حافة “الاستسلام”، وأن جزءاً منه أراد أن يطرح حلاً “وسطاً”، بحيث يحقق بعض مطالب الشعب، من دون أن يُحدث تغييراً كبيراً في بنية النظام. هذا ما كان ممكناً فقط، أي أن التغيير الجذري للنظام لم يكن وارداً على الإطلاق، بالضبط نتيجة عفوية الثورة، بغياب الأحزاب التي تعرف ماذا تطرح، وكيف تقود الثورة إلى الانتصار. وقد أشَّرت تجربتا تونس ومصر إلى حدود ما يمكن أن تحققه الثورات، وهذا كان يطاول سورية التي لم تكن تملك أحزاباً تعرف ماذا تريد، وكيف تخوض الصراع ضد النظام. بل كان جلَّ حلمها هو “إصلاح” النظام، أو تدميره بتدخل خارجي. لكن هذه الإمكانية التي ظهرت بوادر لها نهاية سنة 2012 كانت إيران قد سحقتها. ويؤكد تصريح عضو مجمع مصلحة النظام في إيران، علي آغا محمدي، هذا الأمر، حيث يؤكد أنه في اللحظة التي بات هناك داخل النظام مَن يمكن أن يُحدث تغييراً يحقق بعض مطالب الثورة، تدخلت إيران لكي تمنع ذلك، وتدعم استمرار الصراع العسكري ضد الثورة، على أمل سحقها، وتكريس سيطرة بشار الأسد، وأيضاً سيطرتها على سورية. كان هذا الأمر مخفياً حينها، لكنه كان في صلْب سياسة إيران. وهو ما عبّر عنه أكثر من مسؤول إيراني أكد على السيطرة على أربع عواصم عربية، منها دمشق طبعاً.

لهذا، يتحمل النظام في إيران جزءاً كبيراً مما جرى في سورية، نتيجة منعه لتحوّلٍ ممكن من “داخل النظام”، هو الشكل الوحيد الممكن في إطار مجمل الصراع القائم، وموازين القوى التي كان غياب قوى معارضة حقيقية يجعلها لا تسمح بتغيير جذري للنظام، ودفعه إلى طريقٍ لا يقود سورية إلى الخراب والدمار والقتل والتشريد، وخصوصاً أن تدخل إيران رافقه إدخال

“يتحمل النظام في إيران جزءاً كبيراً مما جرى في سورية، نتيجة منعه لتحوّلٍ ممكن من “داخل النظام”

تنظيم القاعدة، بدءاً من الإخراج من السجون إلى الإرسال من العراق، بحيث باتت كل الدول توظّف في هذا المسار. حينها، لم يكن حجم الفصائل المسلحة كبيراً، ولا كان السلاح تحت سيطرة لا “الجهاديين” ولا “السلفيين”، وكان يمكن قبر كل هؤلاء، لكن طموحات إيران كانت في أن تسيطر على سورية، لهذا أخذت ترسل المليشيات، من حزب الله إلى كل المليشيات العراقية، إلى الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس، وأيضاً الأفغان والباكستانيين، وأخذت تتحكم بالصراع على الأرض، من خلال سيطرتها على الجيش المتبقي. ومن ثم باتت تقرِّر على المستوى السياسي، وتعزز من سيطرتها على سورية. ولم يكن في همّ إيران أن تتدمر سورية، أو أن يتشرّد نصف شعبها. كان يهمها السيطرة عليها. فهي في إطار ميلها إلى أن تصبح قوة إقليمية مهيمنة، سعت إلى أن تسيطر على البلدان العربية في المشرق، لتثبت قدرتها، ولكي تساوم عليها إذا اضطرت إلى ذلك. وهي تدخلت هنا بحجة الصراع مع الدولة الصهيونية، وحماية خط إمداد حزب الله، على الرغم من أنها قلبت دور حزب الله من قتال الدولة الصهيونية إلى المشاركة في مشاريعها للسيطرة في سورية والعراق واليمن.

إذن، باتت تطورات الصراع في سورية منذ سنة 2013 مرتبطة بطموحات إيران، ولهذا ردت دول أخرى على ذلك، منها السعودية وتركيا وقطر، بحيث تحوّل الصراع إلى صراع إقليمي. وفي هذا، خسرت إيران، حيث ظهر واضحاً أواسط سنة 2015 أن قواها في سورية، وقوى النظام الباقية، تتهاوى أمام تقدم جبهة الفتح (ضمت جبهة النصرة وأحرار الشام ومجموعات أخرى أصغر) التي كانت التعبير عن تحالف سعودي قطري تركي. فقد انهارت جبهات في الشمال الغربي وفي الوسط، حيث جرت السيطرة على إدلب وجسر الشغور، وبات واضحاً التغيّر الكبير في ميزان القوى لغير مصلحة إيران والنظام (مع أن الدول الداعمة كانت تفرض عدم المساس بالساحل السوري، ولا دخول دمشق، بالضبط لأنها كانت تناور في ما تحقق من أجل الضغط على روسيا لتحقيق حلٍّ ما). الأمر الذي جعل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، حينها، يهرع إلى موسكو مستنجداً. طبعاً، كما أشرت حينها، لم يكن هدف جبهة الفتح إسقاط النظام، حيث وُضع لها فيتو في دخول دمشق، ودخول الساحل السوري، بل هدف إلى الضغط على روسيا لكي تحقق الحل السياسي. لكن روسيا، التي كان يبدو أنها تنتظر فرصة ما، استغلت الأمر بكل “رحابة صدر”، فتدخلت لكي تحتلّ سورية، وتفرض سيطرتها بعد أن كانت إيران قد همّشت دورها خلال سنوات 2013 و2014 إلى منتصف 2015. وكما ظهر، كان لها منظور عالمي، كانت سورية هي التمثيل الفعلي له. لقد أرادت السيطرة، وفرض سطوتها، وأيضاً تخويف العالم من قدراتها العسكرية لكي تفرض سطوة عالمية تجعلها قوة قائدة في النظام الرأسمالي.

بالتالي، خسرت إيران اللعبة، فلم تستطع أن تحمي النظام، وها هي تصيح لأن روسيا سيطرت على سورية، واستحوذت على إعادة الإعمار، فقد لمّح وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد

“طموحات إيران كانت في أن تسيطر على سورية، لهذا أخذت ترسل المليشيات من حزب الله إلى الحرس الثوري الإيراني وغيره”

ظريف، إلى عدم رضى طهران عن استحواذ روسيا على مشاريع واسعة لإعادة الإعمار في سورية، معتبراً أنه لا توجد حاجة لكي يكون البلدان متنافسين. وجاء ذلك في تصريحات لوزير الخارجية في مقابلة تلفزيونية مع القناة الثانية، ونقلتها وكالة إرنا الإيرانية. وقال إن “هنالك فرصاً واسعة لإعادة الإعمار في سورية”، معتبراً أن “حضور روسيا في عملية إعادة الإعمار في سورية لا يعني عدم حضور إيران”. وأضاف ظريف أن في وسع إيران وروسيا أن “تكملا إحداهما الأخرى في عملية إعادة الإعمار في سورية. ولا حاجة لأن نكون متنافسين، الفرص متاحة لكل الدول”. ولقد شنت صحف إيرانية هجوماً على بشار الأسد نتيجة ذلك، حيث كانت صحيفة قانون الإيرانية قد هاجمت الأسد، ووصفته بـ”أنه بلا مبادئ، وناكر للجميل بسبب اتفاقه مع الروس بشأن تسليم ملف إعادة إعمار سورية للروس بدلاً من إيران”. وكتبت الصحيفة في مقال بعنوان “لا حصة لإيران في بازار الشام”، إن “الأسد يريد تقليم أظافر إيران في سورية بعد هزيمة تنظيم الدولة والدخول في مرحلة جديدة”. واعتبرت الصحيفة أن من حق إيران أن تستولي، ولو بالقوة، على حصتها من سورية، قائلة: “الحق يؤخذ، وعلى الرغم من محاولة إخفاء الحقائق حول فقداننا حصتنا بسورية من بعضهم في إيران، فإن شعبنا يعلم ويعي ما يحدث لنا في سورية”. بمعنى أن إيران ستخرج “من المولد بلا حمّص”، حيث استحوذت روسيا على كل شيء، وستفرض حلاً يُخرج إيران من سورية، لمنعها من الحصول على أيِّ حصة، ولتطمين حليفتها الدولة الصهيونية. ولهذا هي تسمح للدولة الصهيونية بقصف مواقع إيران وحزب الله في سورية.

لهذا بحث آخر، لكن لا بدّ من القول إن إيران، بدل أن تكسب بالسماح لبشار الأسد بالرحيل، بحيث يبقى النظام في صفها، فقد ساهمت في تدمير سورية من دون أن تحقق أيَّ مكسب. على العكس، سنجدها قد خسرت كل وجود لها في سورية ولبنان، وسيكون حزب الله في وضع حرج جداً. فروسيا سوف تسعى إلى عقد معاهدة بين النظام الذي ستنصبه في دمشق والدولة الصهيونية، وسيُفرض ذلك على لبنان. وهي قبل ذلك ستُخرج إيران وأدواتها من سورية. لقد لعبت إيران بالوضع السوري، لكي توسّع من سيطرتها، لكنها في هذه اللعبة دمَّرت سورية، ولم تحصل على ما أرادت.

العربي الجديد

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى