صفحات الناس

فايسبوك الداخل وفايسبوك الخارج السوريان/ هنادي زرقة

حين اندلعت الانتفاضة السورية في آذار 2011، انقسمت صفحات الفايسبوك السورية إلى موالية للنظام ومعارضة له ورمادية ليس لأصحابها توجّه واضح. وكان يندر أن تجد في قائمة أصدقاء موالٍ معارضاً واحداً، والعكس بالعكس. بل إنّ المعارضين عادةً ما كانوا يشعرون بالتوجس حيال قبول صداقات أشخاص ممن كانوا يُنعتون بـ «الرماديين». فقد كان هؤلاء أقرب إلى السلطة، من المستفيدين منها بهذا الشكل أو ذاك، وكانوا يكتفون بصور الأزهار والطيور النادرة والأغاني العاطفية على صفحاتهم. والشجاع الشجاع بينهم، خصوصاً إذا ما كان شاعراً وكاتباً معروفاً، كان يكتفي بعبارات شبه مشفّرة أو عمومية على القارئ أن يسرع إلى فهم أنها تشجع الانتفاضة لأنّ صاحبها سيكون أسرع في إزالتها خوفاً ورَعْدَدَةً، مع أنَّ السلمية كانت الطاغية والدم يُراق في الشارع. كلّ هذا سوف ينقلب شجاعةً وروحاً اقتحامية ما إن تحط أقدام هؤلاء في مهاربهم التي انتهوا إليها من دون أن يزعجهم أحد على غرار ما حصل مع المناضلين الحقيقيين.

سريعاً بلغ التراشق الكلامي بين الموالين والمعارضين على صفحات الفايسبوك أشدّه، وراح كلٌّ ينعت الآخر بـا»الخائن» و «العميل». ولعلّ ذلك كان على وقع انقسام الشارع السوري، الذي كان ميدان المعركة آنذاك. فما إن تندلع مظاهرة معارضة يوم الجمعة حتى تتبعها مسيرة مؤيدة يوم السبت. وكلما انتشرت أغنية معارِضة فصّل الموالون على لحنها كلمات تناسبهم، كما حصل لأغنية «يا حيف» لسميح شقير، وأغاني القاشوش.

كانت للأشياء نكهة التغيير. وضجّت صفحات الفايسبوك بالمظاهرات الالكترونية والنكات البديعة. وكانت صفحات المعارضة موحَّدة إلى حدٍّ كبير. لكن ذلك لم يدم طويلاً. ذلك أن الإمعان في القتل وتدخّل القوى الخارجية وسوى ذلك أدّى إلى تسرّب السلاح إلى المظاهرات السلمية، ثمّ إلى تشكيل ما سُمِّي «الجيش الحر»، وانقسمت المعارضة بين مؤيِّد للعسكرة ومعارض لها. وبدأت صفحات المعارضين تتباين بشدة، بعضهم يعرضون انشقاقات عناصر من الجيش النظامي وعمليات نوعية للجيش الحر ويدعون إلى السلاح، وآخرون متمسكون بالسلمية كخيار للثورة وأهدافها.

كذلك أفرز ظهور ما دُعي «المجلس الوطني»، أسوة بالتجربة الليبية، انقساماً حاداً في المعارضة السورية تجلّى على صفحات التواصل الاجتماعي، فكتب بعضهم «المجلس الوطني يمثلني» واعتبره آخرون منجزاً تركياً خليجياً أميركياً لا علاقة له بالانتفاضة السورية وروح الشعب السوري.

داخل وخارج

مع اشتداد القمع والعنف المضاد، دخلت عبارات جديدة قاموس الفايسبوكيين، موالين ومعارضين، أشهرها «تمّ الدعس»، والدعوة إلى قتل «الفطايس». كما تسربت المفردات الطائفية، وتشبيه الأحياء الأقلياتية في مدن الأكثرية بالمستوطنات. وانتشرت لغة عنصرية فتّاكة لا ترى في الآخر سوى كتلة صماء قاتلة.

بعض المعارضين المقيمين أصلاً في الخارج ربما كانوا الأعلى صوتاً، من منابرهم الفايسبوكية، بدعوة الناس إلى التظاهر، والاعتصامات، والإضراب، والسلاح، والموت. بعضهم زغرد لقتل داعش والنصرة جنود الجيش الذين افترضوا من مهاربهم الأوروبية أنهم جميعاً من «النصيرية» و «الروافض» وأنهم جميعاً مجرد أدوات للحكّام.

مع ازدياد حدّة المواجهات والتهجير والنزوح، نزح كثير من السوريين إلى مناطق أكثر أمناً، أو لجأوا إلى دول أخرى، وهاجرت مع من هاجر زمرةٌ من معارضي الفايسبوك ومن رماديّيه. هناك تخلّص الرماديون من التأتأة، وكفّ بعضهم عن عرض صور الأزهار والعصافير وبطاقات التهنئة، ورفعوا عقيرتهم بشتم النظام ومؤيديه، وتخوين معارضي الداخل المخالفين بالرأي، وحثّ الناس على مواصلة الثورة حتى آخر قطرة من دمائهم. بل إن بعض هؤلاء، بعد أن باتوا في الخارج لا تطالهم يد النظام، راحوا يمنحون الشهادات الثورية، بعد أن كان بعضهم أقرب إلى كتّاب النظام أو كتبة نظام بالفعل.

انقسم الفايسبوك إلى داخل وخارج، فضلاً عن الانقسام إلى مؤيد ومعارض. كلٌّ يعتلي منبره الفايسبوكي ويطلق حملات الكراهية ضد الآخر. والأرجح، بل المؤكّد، أنَّ الفقراء الذين ليس لديهم ترف القراءة وتصفّح وسائل التواصل الاجتماعي لم يكونوا معنيين بصراع الديكة هذا. ولعلّهم لم يسمعوا به. كانوا يواصلون الموت. ومن نجوا منهم كانوا مشغولين بتأمين المكان الآمن والطعام واللباس لعوائلهم التي شُرّدت وأفقرت وجاعت.

محنة أخلاقية

لم يثنِ كلّ هذا الموت والدمار عزيمة الفايسبوكيين الأشاوس عن تبادل الشتائم والتخوين. كذلك لم يثنها اضطرار السوريين للسفر بطرق غير شرعية، وسقوطهم صرعى من الجوع والمرض في البر أو غرقى في البحار. وذلك في الوقت الذي عمدت فيه نخب المعارضة، بل وصغار المعارضين والرماديين ممن لم يتعرضوا لأي تهديد «تحت سقف الوطن»، إلى تأمين اللجوء الآمن لأنفسهم وعوائلهم في بلاد أوروبية شتّى، سالبين السوريين الفقراء الذين فقدوا كلّ شيء حقّهم في اللجوء والحياة، مستغلين صلاتهم أو اعتقالاتهم القديمة أو مجرد استعدادهم للزعم والادّعاء.

هناك اليوم ما يشبه محنة أخلاقية، تتمثّل في أنّ كثيراً ممن يتولون تمثيل الثورة والنطق باسمها هم أشخاص كانوا إلى البارحة من أركان النظام وجلّاديه وأقلامه. وها هم اليوم تلعلع ألسنتهم بالتفاوض باسم الضحايا والمهجّرين واللاجئين والصامتين، بعد خرس مديد لم يعترضوا فيه يوماً على قمع أو منع أو رقابة.

هل سأل أحد أولئك القابعين في الخيام: من يمثّلكم؟ وبماذا أجاب الضحايا؟ هل أتيحت لأهل الجنود الذين سقطوا في ساحات المعارك فرصة حقّة لإبداء رأيهم في السبيل الناجع للخروج من هذه الكارثة؟ لو كانت للضحايا صفحات على الفايسبوك، هل كانوا سينضمون إلى الجوقات السابقة المعهودة، أم كانوا سيصرخون في وجه جميع من سرق حياتهم وأمانهم وأحلامهم؟ هؤلاء الذين لا طائفة لهم سوى بؤسهم، ولا يعانون الفايسبوك والتويتر، لا وقت لديهم لأكثر من خوض محنة العيش سويّاً في المجزرة، في بلد مفتوح على الجحيم. لا ينتظرون وعوداً من أحد، خصوصاً أولئك الذين ذهبوا وما عادوا يعرفونهم.

(كاتبة سورية)

السفير الثقافي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى