حمّود حمّودصفحات الرأي

ابن الطائفة أو: في التفكير البيولوجي الطائفي/ حمّود حمّود

 

 

لنسارع بداية إلى التأكيد على أنّ الطلب الكبير اليوم على الدين في مجتمعات المشرق لا يمت في كثير من سياقاته التأزمية إلى حضور العمق الديني لديها، بمقدار ما يشكل صورة تعكس تأزمات هوياتية تبدأ بالطائفة والقضايا السياسية المتعلقة بها ولا تنتهي بالقبيلة ومسألة الدم. الطلب على الدين لا يعني على الإطلاق أن هناك طلباً على «الدينية» بعينها. وربما يكون المعنى الأدق أن هناك طلباً على «هوية الدين»، طلب على هوية الجماعة الدينية، أكثر من كونه طلباً على «تقوى الخشوع» العربي الذي أفاضت به بعضٌ من سلالات ما بعد الحداثة. النقطة الثانية في استهلال هذه العجالة تتعلق بالضرورة التاريخية الدائمة في ما يخص الردّ على بعضٍ من هذه السلالات المابعدية التي لا تستطيع النظر إلى الإنسان عموماً إلا على أنه «ديني بدمه»، ولا يمكن لقوة ما إخراجه من إهابه الديني ما دام يحمل في جسده دماً.

لا شك في أنّ ما يسري وفقاً لهذه المقولة عموماً، يسري على المشرقي في شكل خاص: إنه ديني بأصله homo religiosus ولا سبيل لروضنته إلا وفق الشرط الديني الشارط: إنه توحّد الدين والدم.

مثل هذا «الإشكال الوحدوي» (بيولوجيا أنتولوجية؟) يُمثلُّ أحد الأسباب الرئيسة اليوم في نظر هذه السلالات المابعدية وأشقائهم الأصوليين والإسلاميين الطائفيين معهم في توحيد الدماء المشرقية اليوم بـ «دماء الأصول»، أي الدماء التي لفظت يوماً ما أسماء الطوائف. وإذا استحال الأمر أنْ يحدث انفكاك تاريخي ما بين دماء الأصول ودماء اليوم، فإنه لا غرابة أنْ نرى استحالة، في هذا المسار ذاته، بخروج الفرع عن أصله، والاهتداء إلى حتمية، وهي حتمية ما بعد وجودية، حتمية الحكم الطائفي الرشيد، طالما أنّ الدم ينطق بكينونته التكوينية باسم الطائفة. إنها أصولية أشد من أصولية الأب المصري: سيد قطب.

هومو علوي، هومو سني، هومو شيعي…الخ هي صور مخيالية يمكن التأكيد على سيطرتها لا على جزء ما، بل على الشريحة الواسعة من القاع المشرقي حتى على جزء واسع من النخب (اليوم يمكن رؤية هذا ضمن أروقة العمق الطائفي المثقف، الذي يصر على أنْ لا يخسر اسم ماركس). لكن ما المقصود بالضبط بصور الـ«هومو» هذه؟ أحد هذه النقاشات الذي يؤكد أنّ الإنسان بتكوينه الدموي شخص ديني، يقتضي جوهرياً (الجوهر وفقاً لبنية هذا القول) وجود شرط يسبق الوجود العلوي أو السني: أي شرط هو الذي يصبغ الدم بحتمية تاريخية اسمها «علوية» أو «سنية». إذا كانت الحال على هذا المنوال، فهذا يمثل عمق السخف اللامنطقي، والذي تقوده الآن تيارات المابعديات في بعض دوائر التفكير المابعدي الغربي. إنّ مقولةً تراثية (يعزوها الإسلاميون إلى «حديث نبوي») أنّ الإنسان يولد على الفطرة، فأبواه إما يهودانه أو ينصرانه…. (والفطرة في هذا السياق هي حتمية الإسلام، حتمية بيولوجية)، ستغدو ضمن هذا التفكير الدموي على الشكل التالي: الإنسان يولد على العلوية أو السنية (هل من الغريب رؤية الكثير من الآباء اليوم لأطفالهم، بل وحتى لأجنتهم أنهم أبناء دم الطائفة)!! بمعنى أنّ الرابط بين الدم وبين هذه الألفاظ المخيالية، أي أسماء الطوائف، هو رابط حتمي بيولوجي؛ وبالطبع لن يستطيع شخص بقامة ميشيل فوكو، من خلال مخطوطه المشهور «الكلمات والأشياء»، أو من لفّ لفيفه من المابعديين، الفك بينهما، طالما أنهم بالأصل وللأصل، بالجوهر وللجوهر، بنية في واحد: أبناء الطائفة.

غني عن القول إنّ مثل هذه الفذلكات، الهرطقات بوجهها الأصولي والمابعدي، ستلتقي بكل سهولة مع التفكير الجيني الذي يؤكد أنه «لا يولد الإنسان إلا لكي يؤمن»، بمعنى أنه لا يولد المشرقي إلا لكي يكون مسلماً، وبالتالي لا يولد إلا لكي يكون علوياً أو سنياً. هكذا، لكي يستقيم عمل هذه الجينات الطائفية في مسار ابن الطائفة الحياتي، فعليه أنْ يخضع لقسماتها المصيرية، في الأصل كما في المستقبل. هكذا، سنكون أمام هذه المهزلة: لأنّ الطائفي محكوم عليه دموياً وجينياً أنه ابن لتلك الطائفة، لأنه مسوّر بسوار أقوى من أعمدة الأرض السبعة، لأنه ملطخ أبدي بذاك الدم، سجين أبدي بكروموسومات جيناته، فمصيره أنْ يُحكم سياسياً بما نطقت به أصول خلقه، لسبب بسيط: أنها قدره. بمعنى آخر: لن تستقيم لدم الطائفة كلمة إلا حينما يُحكم ابن الطائفة بالطائفة.

لا شك في أنه لا يمكن إنكار أنّ صورة المشرق اليوم السوداوية هي صورة تعج بألوان الدم الطائفية والأصولية، لكن هذا قول، والتشديد على «حتمية» هذه الألوان شيء آخر تماماً. وعلى أية حال، إنها جهود حداثة القرن التاسع عشر تلك التي حاولت وفق ميثودولوجيات تاريخية موضعة الأشياء بغرض درسها ضمن أطر مفاهيم واصطلاحات يمكن من خلالها التعميم والتخصيص (تظليل أشياء واقعية باصطلاح عمومي لكي يغطيها مفهومياً)، كما هي الحال بعزو ممارسات معينة طقوسية ما ورائية إلى مصطلح الدين. بيد أنّ مثل هذه الجهود بدأت بالذوبان من خلال تيارات ما بعد الحداثة التي عُكست من خلالها هذه العمليات: الآن عزو الاصطلاحات إلى الأشياء، أي يُبحث في سبيل الاصطلاح «فقط» عن أشياء له في الواقع، بمعنى أنّ يصبح الاصطلاح الذي يدل على خرافة على أنه حقيقة واقعية بعينها.

من هنا، ليس غريباً أنْ تُكسى أسماء الطوائف اليوم بقوة كبيرة من خلال بشر حقيقيين على الأرض، هكذا ليغدو اسم الطائفة (الخرافي تاريخياً) كأنه حقيقة، وليس هذا فحسب، بل ليغدو وكأنه مصطلح «إثنوي» بألف ولام العهد. المشرقي ديني بجوهره يعني أنه طائفي بلونه. مثل هذه الفذلكة المابعدية هي ما تصادق عليه كثير من الشعوب المشرقية المريضة بطوائفها وكثير كذلك من الشعوب الأصولية التي لا تستطيع تنفس المقدس سوى من خلال رئة «عدمية الأصول»، وقل الأمر نفسه حول الطائفي المشرقي العدمي الذي لا يمكن أنْ يرى أصوله التكوينية إلا من خلال أسوار عدمية طائفته المهترئة في مخيالها.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى