صفحات العالم

اتجاهات الأزمة السورية


الياس فرحات

احدث قرار مجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري في 12 تشرين الثاني صدمة قوية في سوريا ولدى كل المتتبعين للشأن السوري والمتأثرين به وخصوصاً بند تعليق عضوية سوريا في الجامعة وإمهالها مدة اربعة ايام لتلتزم بما اعتبرته مقررات المجلس، وهو ما اعتبر بمثابة حرب سياسية عربية على سوريا. طرحت تساؤلات عديدة عن الاتجاهات التي تسلكها الأزمة السورية وأين يكون المقصد النهائي لمسارها. جرياً على عادة الاستقطاب الحاد في النظرة الى الازمات العربية خرجت اصوات متضادة في الرأي, فريق المعارضة يعتبر ان نهاية النظام السوري بدأت فعلا، وأن قراراً عربياً ودولياً قد اتخذ بإسقاطه، وأن لا مجال ان ينجو هذه المرة، فقد ضاق عليه الخناق والعقوبات الاقتصادية قادمة والمقاطعة السياسية العربية باتت محسومة، وخيار التدخل العسكري وضع على الطاولة وأن البحث يجري، إما باعتماد المثل الليبي، او المثل اليوغوسلافي، وفي النهاية يجري القضاء على النظام ومحاكمة أركانه.

في المقابل يضع فريق النظام مقررات مجلس الجامعة في إطار مؤامرة اميركية لإسقاط النظام واستبداله بآخر يتوافق مع سياساتها في المنطقة، وهي التي تضمنتها إملاءات كولين باول عام 2003 التي رفضتها سوريا في حينه ولن توافق عليها اليوم، وتالياً لن تنصاع الى هذه الضغوط، وستواجه اي تدخل خارجي بدعم شعبي كبير، وستنجح وتعود اقوى مما كانت عليه. بين هذين الفريقين ضاعت الاصلاحات المطلوبة وندر الحديث عنها، رغم ان النظام باشر بإعداد التعديلات الدستورية وإصدار قوانين سياسية هي قوانين الأحزاب والانتخاب والاعلام. الفريق المعارض لا يثق بالنظام ولا بالاصلاحات ولا يعلق على القوانين المقترحة ويطلب إسقاط هذا النظام واستبداله بآخر لم يوضح في ادبياته السياسية شكله وملامحه الدستورية، ما خلا الحديث العام عن الديموقراطية. ميدانياً يتهم فريق المعارضة النظام بإطلاق النارعلى المتظاهرين السلميين وقتلهم ويتحدث عن شبيحة النظام، ويقصد بهم عناصر الأجهزة الأمنية، فيما يتحدث فريق النظام عن اصلاحات جدية تقابل بالتجاهل وأجندات خارجية تنفذها المعارضة، وعن عصابات مسلحة تهاجم المواطنين والجيش وقوات حفظ النظام، ويتحدث ايضا عن اكثر من 1300 قتيل وآلاف الجرحى من القوى العسكرية والأمنية، بالإضافة الى اعمال تفجير خطوط سكك الحديد وقطع الطرقات.

لقد تضاءل الأمل بتحقيق تسوية بين الفريقين ووصل النزاع الى طريق مسدود وبتنا امام صدام منتظر بين فريقين: المعارضة وحلفاؤها الولايات المتحدة واوروبا ومعظم الدول العربية، وخصوصا مجلس التعاون الخليجي وتركيا, والنظام وحلفاؤه إيران وحركات المقاومة. رغم الفيتو الثنائي الروسي الصيني في مجلس الامن لصالح سوريا، لا تظهر روسيا ولا الصين كحليف لسوريا، مثلما يظهر حلفاء المعارضة الدوليون والعرب، فهما تظهران الدعوة الى الحوار وتخفيان الدعم. وينطبق الامر نفسه على الهند وأندونيسيا والبرازيل وأميركا اللاتينية وجنوب افريقيا، التي تميل جميعها الى جانب النظام ضمن حدود معينة.

اذا تركنا مواقف الفريقين وحججهما جانباً وابتعدنا عن الاتهامات والاتهامات المضادة وادّعاءات التمثيل الشعبي والادّعاءات المقابلة التي تزخر بها وسائل الاعلام, وخطاب المعارضة بقرب سقوط النظام وخطاب انصار النظام بقرب انتهاء الازمة، وألقينا نظرة على واقع الازمة وتوازن القوى المتنازعة، نتوصل الى جملة استنتاجات اهمها:

– لأول مرة منذ انتهاء الحرب الباردة يشهد العالم مثل هذا الاصطفاف ولو كان غير منتظم تماماً, لأن النزاعات الواقعة في فترة ما بعد تلك الحرب كانت بمجملها شبه محسومة النتائج وأبرزها حرب الولايات المتحدة على يوغوسلافيا ثم على افغانستان ثم على العراق وحروب فرنسية صغيرة في غرب افريقيا وحرب روسيا الداخلية في الشيشان وحربها على جورجيا، وأخيراً حرب حلف الأطلسي على ليبيا. حققت جميع هذه الحروب اهدافها المرسومة فأسقطت انظمة وغيرت الجغرافيا وساقت قيادات الى العدالة وقتلت بعضاً آخر. وحدها حرب اسرائيل على لبنان عام 2006 فشلت في تحقيق اهدافها، مما حدا بإسرائيل الى إجراء مراجعة شاملة لتنظيمها العسكري والتكتيك المعتمد في استعمال الاسلحة والقتال.

– يبدو ان احتمال التدخل العسكري للناتو صعب وقريب من المستحيل لأن الغطاء الدولي غير متوافر، فقد اعلنت روسيا انها لن تقبل بتكرار المثل الليبي حيث تجاوزت قوات الاطلسي حدود مهمة حماية المدنيين الى قصف مدمر وقاتل. يتحدث بعض فريق المعارضة عن احتمالات اخرى، وهي نشوب نزاع مسلح بين سوريا وتركيا يؤدي الى تدخل حلف الأطلسي دعماً لأحد أعضائه. إن تداعيات هذا السيناريو هو تحول حرب الاطلسي على سوريا الى مواجهة اقليمية شاملة تصل الى إسرائيل ولبنان (حزب الله) وإيران والخليج، وهذه المواجهة لا يبدو ان احدا من القوى الكبرى يرضى بها خصوصا في ظل الازمات المالية والاقتصادية التي تجتاح اوروبا والولايات المتحدة, وتعذر تحقيق نصر مشابه للحروب المشار اليها آنفاً, والخوف من إغلاق مضيق هرمز لفترة طويلة وتأثيره على اسعار النفط وتدفقه الى الاسواق العالمية، الأمر الذي يؤدي الى تفاقم الازمة المالية.

– يتحدث بعض المعارضة عن حرب تحرير او حرب ثورية يشنها ثوار سوريون ضد القوات العسكرية والامنية، وإلحاق خسائر بصفوفها من اجل إنهاكها والسيطرة على المدن وإسقاط النظام. من المفترض ان تنطلق المجموعات المسلحة من الدول المجاورة وهي لبنان والاردن والعراق وتركيا بدعم عناصر في الداخل. نجحت المعارضة جزئياً في إنشاء مخيم للمبعدين في تركيا يمكن ان يشكل قاعدة لانطلاق الهجمات ضد الداخل السوري، لكن لم يعرف بعد حقيقة الموقف التركي ومدى استعداد تركيا للخوض في هذا الخيار والدخول في حرب استنزاف تشمل تفجير المسألة الكردية وتبعاتها على استقرار تركيا واقتصادها. لكن المعارضة لم تنجح بإنشاء مخيم او ملاذ في لبنان وما زال موضوع إنشاء المخيم نقطة خلاف سياسية كبيرة في لبنان. اما في الاردن فلا يبدو ان هناك تجمعات معارضة قريبة من الحدود، كما ان السياسة الاردنية تحاذر الدخول في مثل هذه الحرب مع سوريا لاعتبارات عديدة، ابرزها المصالح الاقتصادية والخوف من وقف تدفق المياه السورية وتقييد مرور الشاحنات عبر الاردن. اما الحدود العراقية فهي تخضع للعشائر المنتشرة على جانبي الحدود. فشلت المعارضة في انشاء مناطق مشابهة لبنغازي في محاذاة المناطق الحدودية، والاماكن المرشحة كانت جسر الشغور وتلكلخ ودرعا والبوكمال، التي شددت القوى الامنية السورية قبضتها عليها. على الساحل لم تحقق المعارضة اي ثغرة على الساحل السوري تمكنها من الاتصال مع الخارج واستقدام السلاح بعدما اجهضت السلطة محاولة في بانياس.لا تبدو حظوظ هذا الخيار مرتفعة خصوصا في ظل حديث المعارضة عن تظاهرات سلمية اعتمدته اساساً في استجلاب التأييد وصعوبة تشكيل جبهة مسلحة مماثلة للكونترا التي انتهت الى فشل ذريع في اميركا الوسطى.

– شن حرب ناعمة تقوم بها قوى خارجية ضد سوريا سلاحها الاقتصاد والمال والاعلام والسياسة ومسرحها جامعة الدول العربية والاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة، حيث اتخذت بعض القرارات وينتظر اتخاذ قرارات جديدة. هذه الحرب خطيرة جداً وتأثيرها النفسي كبير، في ظل اختلال توازن القوى في الاعلام والمال والسياسة لمصلحة المعارضة. تجتمع المعارضة السورية بمعظم اطيافها مع الدول الداعمة وأبرزها الدول العربية والولايات المتحدة واوروبا لتشكل جبهة سياسية قوية في مقابل شبه استفراد للنظام الذي لم يكتمل عمقه العراقي الايراني بعد, كما لم يتضح المدى الذي يصل اليه التأييد الروسي والصيني، بالإضافة الى التعاطف الهندي والافريقي والاميركي اللاتيني. وهنا يبرز عامل الوقت الذي يبدو انه يعمل لمصلحة النظام. كلما صمد النظام في هذه الحرب وتعود الشعب على التأثيرات الصعبة، وخصوصا الاقتصادية والاعلامية, ارتفع احتمال كسبه للحرب. صحيح ان سوريا لا يترتب عليها ديون خارجية، وهذه نقطة لمصلحة النظام, لكن لا يجوز الاستهانة بالحرب الاقتصادية التي اعلنتها جامعة الدول العربية على سوريا وتوسيع الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي القيود الاقتصادية والمصرفية عليها (منع الاتحاد الاوروبي بث قناة الدنيا في أجوائه مما يشير الى ضراوة هذه الحرب ويطرح تساءلات عن الديموقراطية الموعودة في ظل صمت مطبق لمنظمات المجتمع الدولي المعنية بالحريات). ومن مظاهر الحرب السياسية المرتقبة اعترافات بالمجلس الوطني من قبل عدد من الدول وتسليط الاضواء الاعلامية على اعضائه وتأمين لقاءات عربية ودولية لهم وإقفال سفارات سورية في الخارج. ولا ننسى ان المحكمة الخاصة بلبنان تخبئ مستورها وهو قرار اتهامي في جرائم محاولة اغتيال النائب مروان حماده واغتيال سمير قصير وجورج حاوي بعدما تنازل القضاء اللبناني مؤخرا عن صلاحياته بالنظر فيها (بشكل مخالف للمادة 20 من الدستور اللبناني) ويخشى ان تكشف هذا المستور في وقت حرج على سوريا وعلى لبنان.

– لم تكتمل عناصر الاصطفاف الدولي في هذه الحرب, اذ ان الولايات المتحدة ليست في وضع يشبه عام 2003 عندما غزت العراق من دون قرار دولي. انها اليوم تحتاج الى قرار من مجلس الامن قبل اي تحرك عسكري، وينطبق الامر نفسه على الاتحاد الاوروبي. كما ان الولايات المتحدة ليست بوارد تصعيد الخلاف مع روسيا الى درجة حرب باردة جديدة اذ ان هناك حدودا للتصعيد لا يمكنها تجاوزها.اما عناصر الاصطفاف الاقليمي فانهاغير مكتملة وخصوصا فيما يتعلق بتركيا وايران. اذا كانت تركيا الداعم الاقليمي الاول للمعارضة وايران الداعم الاقليمي الاول للنظام فإن الدولتين اللتين تشكل كل منهما دولة – أمة خلافاً للدول العربية, تتمتعان ببراغماتية سياسية تحكم علاقتهما، خصوصا مع ارتفاع التبادل التجاري بينهما الى 15 مليار دولار. إن اي توافق تركي ايراني مفاجئ حول سوريا قد يؤدي الى تسوية سريعة جدا للازمة نظرا للتاثير الاقليمي لكل منهما.

– يراهن البعض على حرب طائفية ومذهبية تمزق سوريا ويأخذ من الاحداث التي ورد انها وقعت في منطقة حمص دليلا, بالاضافة الى الهتافات والشتائم في التظاهرات وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. مهما حصلت حوادث طائفية مؤسفة ومهما جرى من تحريض يبقى هناك عامل مانع لنشوب حرب طائفية على صعيد البلاد وهو العامل الجغرافي. في لبنان اشتدت الحرب الطائفية مع رسم خطوط تماس بين المتقاتلين حسب الطائفة، وهذا متعذر في سوريا, من الصعب ان تجد في سوريا شياح – عين الرمانة كما كانت الحال في لبنان. ثم ان سوريا ليس لها تاريخ حروب اهلية مثل لبنان الذي بدأت الحروب الطائفية فيه عام 1840وما زالت.

ما خلا الهجوم على باب توما عام 1860 والذي اثبتت التحقيقات في حينه انه من تدبير العثمانيين وأوقف المهاجمون وعوقبوا, لم تعرف سوريا قتالا طائفيا وبقيت خزانا آمناً لعدد كبير من الطوائف. اما المثل العراقي فهو صعب التحقيق الا عندما تنهار مؤسسات الدولة وبالأخص العسكرية والأمنية كما حصل عند اجتياح العراق، وهذا احتمال يخضع لنتيجة المواجهة الراهنة غير مضمونة الحصول ولا النتائج.

تشير الملاحظات اعلاه ان هناك حدودا دولية واقليمية للتصعيد في الازمة السورية ولا يمكن ان تفلت الامور من عقالها. بعد 8 اشهر على بدء الازمة اثبتت مؤسسات النظام تماسكها بشكل لافت للنظر وبالتحديد المؤسسات السياسية والادارية والدبلوماسية والقضائية والعسكرية والامنية ولم تسجل اي حالة انشقاق. وما حكي عن تمرد بعض العسكريين لا يرقى الى درجة الانشقاق.

لا مجال للحرب المفتوحة والتسوية تبدو حتمية وتحتاج ظروف إنضاجها الى وعي الفرقاء، وخصوصا المعارضة التي تعيش حالة من الزهو غير الواقعي، وتحتاج ايضا الى قناعتهم بأن الحرب الناعمة القائمة لن تحقق اهدافهم وأن التسوية والحوار مع النظام هو خيارهم الاخير الذي اذا جاء باكراً حققوا نتائج جيدة واذا تأخر قد لا يحققون سوى القليل. ان الاستحقاقات القادمة، وابرزها الانسحاب الاميركي من العراق مطلع عام 2012، والتوافق التركي الايراني سوف تتصدر الاعتبارات اللازمة لحصول تسوية في وقت غير بعيد. هل تكون نتيجة هذه الاحداث تسوية محكومة ام نشهد تطورات مثل نموذج يوغوسلافيا عام 1999 ونموذج ليبيا عام 2011 ام نموذج حرب تموز 2006 في لبنان؟

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى