صفحات الرأي

في أن التكفير هرطقة/ خالد غزال

 

يعيد رفض مؤسسة الأزهر تكفير تنظيم “داعش” والتنظيمات المماثلة له، طرح مسألة التكفير على بساط البحث. يترافق هذا الموضوع مع موجات من التكفير اليومي بين تنظيمات الإسلام السياسي، السلمية منها والعنفية، ويجري التراشق بتهم الكفر والهرطقة والزندقة، ويقترن الاتهام بحملات تصفية جسدية، ويتم هذا كله باسم الإله والدين الحق الذي تملكه كل جهة من الجهات.

يثير موقف “الأزهر” وسائر التظيمات سؤالاً جوهريا عن الحق في التكفير من أيّ طرف من الأطراف، وعما اذا كان يندرج في جوهر الدعوة الدينية، والبحث في مقاييس الإيمان ومدى اقتصاره على طقوس وشكليات، وصولاً الى سؤال عن الأسباب التي تدفع المؤسسات الدينية الى استسهال تكفير كتّاب ومفكرين اجتهدوا في قراءة النصوص الدينية، ولم يسيئوا الى الدين في قيمه ومبادئه، فيما تمتنع هذه المؤسسات عن تكفير تنظيمات تذبح وتقتل وتسبي باسم الدين.

لماذا يعتبر التكفير هرطقة؟

تظهر وقائع التاريخ أن مسألة الإيمان كانت مجرد قشرة تختفي وراءها الصراعات السياسية والاجتماعية ونزعة الهيمنة على السلطة. وبما أن ظاهرة التكفير تشكل اليوم سمة إسلامية غالبة، من الضروري مناقشتها من جوانب متعددة في وصفها هرطقة لا تنتسب الى الدين الحق وجوهره بأي صلة. ان مسألة الإيمان بالله وفق المعتقدات اللاهوتية مسألة جوانية تتصل بداخلية الإنسان في علاقته بربه. لا أحد يستطيع ان يدخل الى قلب إنسان ليعرف ما اذا كان مؤمناً أم غير مؤمن. الله وحده يعلم ما في القلوب، ما يعني أن لا أحد يمكنه الجزم في إيمان إنسان او عدم إيمانه. اذا كان الرأي الشائع لدى المؤسسات الدينية أن مقاييس الإيمان والتزام الدين هي ممارسة الطقوس والشعائر، فكيف يحق لرجل الدين أو لأي مؤسسة أن ترمي شخصاً بالكفر استناداً الى شكليات الممارسة الدينية وليس الى جوهر هذه الممارسة؟ من يضمن أن رجل الدين هذا، كبر شأنه أم صغر، هو مؤمن فعلياً؟ هل تصنيفه رجل دين يعني آليا ذروة الإيمان والحق في الحكم على البشر؟ وهل أعطاه الله سلطة تصنيف البشر، أم أن هذه السلطة بشرية بامتياز؟ لذا لا يحق لرجل الدين مهما كان شأنه، الدخول في تصنيف الناس وفق النيات أو بحسب ما يرغب، استنادا الى عدم التوافق مع رأي المؤسسة الدينية.

في الإسلام ترد نصوص تقول بحرية المرء في اختيار الدين. “لا إكراه في الدين”، آية تمثل ذروة حرية الإنسان في الإيمان بالله ورسله، أو التزام غير الدين الإسلامي، وحرية البشر في اختيار الدين الذي يرغبون فيه، او حتى في رفض التزام أي دين. تغض المؤسسات الدينية النظر عن آيات الحرية في الالتزام الواردة في النص القرآني المقدس، وتذهب الى إظهار آيات التكفير لمن لا يؤمن بالله ورسوله.

لا أحد ينكر ان القرآن يحوي آيات تندد بالكافرين وتدعو الى قتلهم أحياناً، بما يبدو مناقضاً كليا للآيات التي تشدد على حرية المرء في اختيار دينه. انجدلت آيات التكفير بآيات العنف في القرآن، وهي نزلت في مرحلة نشر الدعوة الإسلامية وما واجهها من تحديات ومعاداة لها وللرسول. هذه الآيات لها ظروفها التاريخية التي لم تعد نفسها اليوم. المشكلة المركزية التي يعاني منها الإسلام خصوصاً في مرحلته الراهنة، تتصل بكيفية التعاطي مع النص المقدس وقراءته. عندما يتم الفصل في النص بين ما هو جوهري في الرسالة المحمدية، أي الدعوة الى الإيمان بالله وتطبيق مبادئ الأخلاق والمحبة بين البشر، وهي مبادئ تتجاوز الزمان والمكان، وبين آيات نزلت لأسباب محددة تتصل بظروف تاريخية كانت سائدة، وانتهت مفاعيلها مع انتهاء تلك المرحلة التاريخية وظروفها التي استدعت نزولها، عندها فقط يستعيد النص الديني جوهر الاهداف والقيم التي يدعو اليها في الأصل. هذا التمييز ينزع عن الإسلام انه دين العنف، ويجرد تنظيمات الإسلام السياسي من خطف الإسلام واعتبار ما ورد في آيات العنف والتكفير هي الإسلام وحده. لا يحتاج الأمر الى تفكير ليرى ان عدم التمييز في آيات النص المقدس جعل التنظيمات المتطرفة تدّعي أنها تطبّق الإسلام، ودليلها الآيات الواردة في القرآن. هكذا نجد أن سوق التكفير رائج على كل الجبهات، بحيث نشهد يومياً تكفير هذا الطرف لذاك، ورميه بالارتداد، ثم ممارسة التنكيل والقتل في حق أبنائه، تطبيقاً لكلام الله ورسوله.

نقاش مع “الأزهر” ومقولاته التكفيرية

في المؤتمر الأخير الذي عقده “الأزهر” وجمع فيه نحواً من ستمئة رجل دين، مسلمين ومسيحيين، أثار أحد رجال الدين ضرورة أن يصدر عن المؤتمرين نص يقضي بتكفير “داعش” والتنظيمات المماثلة، في وصفه استكمالاً للموقف الذي ينفي عن الإسلام تهمة العنف والإرهاب. ردّ “الأزهر” بموقف قاطع يرفض فيه الاقتراح: “الأزهر يرفض تكفير “داعش”، لأنه لا تكفير لمؤمن مهما بلغت ذنوبه”، وفق تصريح إعلامي صادر عن المؤسسة الدينية يستدعي هذا الموقف نقاشاً وطرح أسئلة لا مهرب من مواجهة “الأزهر” وسائر المؤسسات الدينية حول رأيها في هذا الموضوع.

يرفض العقل فتاوى التكفير في المطلق من أي جهة دينية أو مدنية أتت، وهو موقف يرفض تكفير أي طرف، إرهابيا أكان أم مدنيا، لأن الموضوع لا يتصل بتطبيق الدين أو عدمه. ما تقوم به تنظيمات الإسلام السياسي هو إرهاب بكل معنى الكلمة، يدخل في باب السعي للسيطرة السياسية على البلاد أو المقاطعات التي يغزوها. لو أن “الازهر” انطلق من موقف مبدئي ضد التكفير لكان منطقياً في إعلانه هذا. لكن تاريخ “الازهر” مليء بالمواقف التكفيرية لرجال دين ينتمون الى مذهبه ولمفكرين وعلماء سعوا الى اجتهادات في النصوص الدينية لم تعجب مشايخه، فأفتوا بتكفير أصحابها علنا.

أول الأسئلة المرمية في وجه “الأزهر” حول رفضه تكفير “داعش” لأن أفراده مؤمنون: ما هي مقاييس الإيمان لدى المؤسسة الدينية الأم؟ يعتبر الله قتل المرء من دون حق كمَن يقتل الناس كلهم، وفق ما جاء في القرآن: “من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا”، أو كما ورد في الآية: “لا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق ذلكم وصّاكم به لعلكم تعقلون”. واذا كانت رسالة الله تدعو الى المحبة والسلام بين البشر، واذا كانت معرفة الإيمان، حقيقة أم شكلاً، لا يدركها سوى الله، فكيف حكم “الأزهر” أن التنظيمات الارهابية مليئة بالإيمان بل ومجبولة به بحيث يجب عدم تكفيرها؟ كيف يقرأ “الأزهر” ممارسات هذه التنظيمات في القتل والذبح واغتصاب النساء وتهجير البشر وحرق ممتلكاتهم واستباحة أرزاقهم وترويع السكان الأبرياء، وغيرها من الممارسات الهمجية والبربرية التي تصفع وعي المسلم وغير المسلم صبح مساء؟ هل تتوافق هذه الممارسات مع قيم الإسلام وتعاليمه السموية؟ وهل بات “الأزهر” يعتبر أن الشكليات هي التي تحدد ما اذا كان الشخص مؤمناً أم غير مؤمن، مما يعني أن رفع راية سوداء عليها شعار “لا إله الا الله محمد رسول الله” تحسم في إيمان هذه المجموعة أو تلك؟ ومنذ متى يتحدد الإيمان والتزام الدين وتعاليمه من خلال هذه الشكليات؟ ألا يعتبر “الأزهر” موقفه هذا تغطية نظرية لسلوك هذه المجموعات التي تدّعي أن ممارساتها متطابقة مع ما تنص عليه تعاليم الاسلام؟ وكيف يمكن تصديق البيانات التي تقول إن الإسلام ينبذ العنف والإرهاب، في وقت تشرّع المؤسسات الدينية هذا العنف تحت ذريعة ادعاء الإيمان من التنظيمات المتطرفة؟

اذا كان “الأزهر” يرفض تكفير تنظيمات إسلامية تخطف الإسلام وتقدم أبشع الصور عن تعاليمه في العالم، فكيف أجاز لنفسه إصدار فتاوى تكفيرية ضد مفكرين ورجال دين وعلماء على امتداد تاريخه؟ اللائحة في هذا المجال طويلة جداً، بدأت مع تكفير الإمام محمد عبده، مفتي الديار المصرية، وهو من كبار روّاد النهضة والتحديث ونزع الخرافات عن الدين الإسلامي وداعية إصلاح التعليم في مؤسسات “الأزهر”. بعدها كفّر “الأزهر” أحد علمائه، الشيخ علي عبد الرازق، لأنه حسم في أن الإسلام دين ورسالة، لا دولة ولا خلافة. ثمّ أصاب التكفير واحداً من أبرز مفكري العالم العربي الشيخ الأزهري طه حسين لانه أصدر كتابه “في الشعر الجاهلي” وفيه آراء تنويرية لم يستطع شيوخ “الأزهر” هضمها. وفي ثمانينات القرن الماضي أصدر “الأزهر” فتوى تكفيرية ضد واحد من مفكري السودان محمد محمود طه قضت بإعدامه بتهمة الارتداد عن الإسلام، وبتأكيد من الفقيه السوداني حسن الترابي الذي لم يرفّ له جفن، وهو يحسم بضروة إعدام طه. وفي التسعينات من القرن الماضي تتالت الفتاوى التكفيرية من “الأزهر” وشيوخه ضد مفكرين من قبيل نصر حامد أبو زيد وسيد القمني وفرج فوده الذي جرى تنفيذ الفتوى بقتله، ونجيب محفوظ الذي نجا بأعجوبة من الموت، وخليل عبد الكريم وغيرهم من الكتاب والمفكرين. اللائحة لا تنتهي. يبقى السؤال، لماذا تستحق كتابات واجتهادات علماء ومفكرين يناقشون من أجل تقديم صورة حقيقية عن الإسلام وقيمه، بواسطة الكلمة وليس بالمدفع والسكين، رميها بالتكفير، فيما لا تنطبق المقاييس نفسها على التنظيمات الإرهابية التي تشوّه الإسلام؟ وهل كان “الأزهر” يدرك أن هؤلاء المتهمين بالكفر هم أكثر إيماناً وإخلاصاً لدينهم من عدد كبير من رجال دينه ومشايخه؟

لا شك في أن مسألة التكفير يجب أن تحضر اليوم في وصفها دافعاً لمباشرة الإصلاح الديني في الإسلام، الذي تختطفه كل جهة وتحتكره وتقرأه اعتماداً على قراءات تتناسب مع ممارساتها. ألا يعتبر الانفجار الحاصل اليوم في الاسلام أفضل فرصة لمباشرة هذا الإصلاح؟ وهل تنتظر المؤسسات الدينية، سواء أكانت سنية أم شيعية، ظروفاً أسوأ مما تمر به المجتمعات الإسلامية من تشويه للدين وتزوير لمبادئه، من أجل الدخول في معركة إنقاذ الإسلام مما يغرق فيه راهناً؟ اذا كان التكفير قد تقلص كثيراً في المسيحية، فإنما أتى ذلك في أعقاب ظروف مشابهة لما تمر به المجتمعات الإسلامية من حروب دينية قضت على مئات الألوف من المسيحيين، وكانت العنصر الحاسم في الإصلاح الديني لجهة إعادة الدين الى موقعه وفصله عن السياسة ومنع توظيفه في السعي الى السلطة او إسباغ المشروعية عليها. سيشكل الاصلاح الديني المنشود في الإسلام فرصة ذهبية لاستعادة الدين ولشق طريق طويل من أجل تجاوز التخلف في المجتمعات العربية والإسلامية، وبناء دول تشكل فيها المواطنية واحترام حقوق الإنسان والمساواة بين أبناء البلد بصرف النظر عن الدين أو الجنس أو الإثنية، وسيلة الخلاص.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى