صفحات العالم

عن المعارضات السورية


الياس خوري

ما ان طرح لوران فابيوس، وزير الخارجية الفرنسي، فكرة تشكيل حكومة انتقالية في سورية، حتى علا الضجيج التلفزيوني في الفضاء المصنوع من الكلام والصور، وانكشف الواقع المرير الذي تعيشه النخب السياسية والثقافية السورية في الخارج. فصارت الحكومات تتشكل وتنفرط، وصار الكل وزراء في حكومات وهمية تولد ميتة!

بدا المشهد مضحكا- مبكيا. المضحك فيه هو سذاجة بعض افراد النخبة المعارضة في الخارج، بحيث اعتقد الكثيرون ان مجرد الظهور على شاشة التلفزيون يحول الناس الى زعماء! والمبكي هو مقارنة هذه الخفة بوحشية آلة القمع الأسدية التي تحول العمران السوري الى ركام، ومقارنتها ايضا بالمقاومة الاسطورية التي يصنعها الشعب السوري في مواجهة الموت، صمودا في طلب الحق.

هذه المفارقة يمكن ان تجد جذورها في عقود الاستبداد الأربعة للحكم الأسدي، حيث تم اخراج المجتمع من السياسة، والتحطيم المنهجي للاحزاب والنقابات والجمعيات، بحيث تأسس ‘الأبد الأسدي’ في فراغ سياسي لا مثيل له سوى الفراغ الكوري الشمالي، واستطاع البعث ان يحوّل مثالية وصوفية وسذاجة ميشال عفلق الى آلة استبدادية متمملكة (نسبة الى المماليك)، تقهر المجتمع، محولة النظام السياسي الى دولة والدولة الى مافيا.

هذه الحقيقة تفسّر الأمر جزئيا لكنها لا تُعفي النخب السورية المعارضة من مسؤولياتها الأخلاقية. فالذي يدّعي انه يقود تترتّب عليه مسؤوليات اخلاقية وسياسية كبرى، عليه ان يتصدى لها بمزيج من الشجاعة والحكمة. فبعد ستة عشر شهرا على اندلاع الثورة السورية، وبعد مواكب الشهداء التي لا تنتهي، لم يعد هناك عذر لأحد.

آن الاوان كي تتبلور قيادة تفهم معنى العمل الجماعي، ومستعدة للتضحية، وقادرة على بلورة أفق سياسي يخرج السياسة من هذا النفق المخجل، الذي يؤلم القلوب، ويحيّر العقول.

من الواضح ان ما يسمى المعارضة الخارجية بدأت تصبح خارج الموضوع، وبدأ نفوذها في التلاشي. ومن شبه المؤكد اننا لن نستطيع العثور على معلومات عن مجريات الأمور في حلب، من المجلس الوطني او هيئة التنسيق او المنبر الديموقراطي او هيئة الأمناء او قيادة الجيش الحر في تركيا الى آخر ما لا آخر له من الأسماء والمسميات. اذا اردنا ان نعرف ماذا يجري في حلب وما هو مسار المواجهة فيها علينا ان نلجأ الى وسائل الاتصال الاجتماعية والى صفحات التنسيقيات على ‘الفيس بوك’. واغلب الظن ان قيادات الخارج تستقي معلوماتها من المصادر نفسها التي يستقي منها المراقبون معلوماتهم.

ما معنى القيادة في حال كهذه؟

الاداء الذي قام به مناف طلاس هو مؤشر هذا الشكل من القيادات. فلقد اتخذ انشقاق العميد ابن العماد وشقيق المليونير شكل سبق صحافي قامت به قناة ‘العربية’، من الخطاب الى العمرة الى شكر المليك السعودي. اي اننا امام من ينتظر الخارج او يراهن عليه. بالطبع لم تتصرف بقية قيادات المعارضة بهذه الفجاجة، لكن خلافاتها السخيفة وعصبوياتها جعلتا منها اداة عجز تنتظر الجامعة العربية او دولة قطر كي تجمعها على قواسم مشتركة ولا تجتمع.

لكن ما يثير الخوف على مستقبل الثورة السورية ليس واقع المعارضة الخارجية بل التفكك وبعض الفلتان الذي تشير اليه ممارسات قطاعات من الجيش السوري الحر ومعها مجموعات من المسلحين التي تعلن انتماء لفظيا الى هذا الجيش.

وعلى الرغم من البطولات والمقاومة الكبيرة التي تبديها وحدات هذا الجيش وقدرتها بالسلاح المتواضع الذي تملكه على تحرير مناطق شاسعة من سورية، فان الممارسات الخاطئة التي تشهدها سورية تنذر بالخطر ويجب ايجاد آلية لوضع حد فوري لها قبل ان تتفاقم، وتقدم ثغرات تسمح للنظام الأمني السوري باستغلالها.

من الواضح ان الثورة السورية هي اليوم امام منعطف جديد من اجل بلورة قيادتها، ومن شبه المؤكد ان هذه القيادة تتشكل اليوم من شباب الثورة في تنسيقياتهم التي تواجه آلة القتل العمياء، ومن قيادات الميدان في الجيش السوري الحر، التي لم تصل بعد الى القدرة على بناء آليتها القيادية.

والتحدي اليوم هو التنسيق الكامل وبناء قيادة موحدة بين هذين التكوينين، كي تجد الثورة قيادتها، وترسم اهدافها وتكتيكاتها السياسية والنضالية والعسكرية.

هل هذا ممكن؟

لا ادري، ربما كنا امام مسار ثوري طويل ومعقد، فاعادة السياسة الى المجتمع بعد تحريره من الديكتاتورية، عملية تاريخية قد تأخذ وقتا، وسيكون ثمنها كبيرا. لأن استعادة النصاب السياسي هي جزء من عملية اعادة بناء ثقافية اجتماعية وفكرية، وهي حصاد مدوّنة اخلاقية جديدة، هي جوهر اي بناء جديد.

وهنا تستوقفني ظاهرتان مضيئتان اريد التوقف عندهما، لأنهما تقدمان نموذجا اخلاقيا وسياسيا جديدا.

الظاهرة الأولى اسمها رياض الترك، فهذا القائد الديموقراطي الكبير الذي واجه السجن والقمع بالصمود والايمان بأن الشعب السوري قادر في النهاية على تحطيم مملكة الصمت، هو اليوم في سورية، يناضل مع المناضلين، يختفي عن عيون رجال الأمن، كي يكون مع شباب الثورة في عملهم اليومي الصعب والمضني. اللافت ان الترك قدم نموذجا مختلفا للقائد السياسي، لا تغريه آلة الاعلام، ولا يحكي الا من اجل ان يوصل رسالة ملموسة وموقفا واضحا.

الظاهرة الثانية تقدمها مجموعة من المثقفين يعملون مع شباب التنسيقيات من قلب سورية، وسط ظروف بالغة الصعوبة، لكنهم لم يسقطوا في فخ الاعلام، ولم يحيدوا عن قناعاتهم بأن قيادات الثورة تصنعها الثورة، ولا تُسقط عليها من اي مكان.

هؤلاء ومعهم مئات بل الوف المناضلين الصامتين، يصنعون قيادة جديدة وشبه سرية للثورة، وعلينا ان ننصت اليهم.

لا اريد ان اوحي بأنني اصادرحق اي مواطن او واجبه، سواء في الخارج او الداخل، في النضال من اجل ان تنتصر الحرية في سورية، لكنني اردت ان ارى الأمور في وصفها ظواهر نسبية، كي لا نسقط في وهم قيادات افتراضية تصنعها الصورة.

تحية الى ياسين الحاج صالح

جاء منح جائزة برنس كلاوس الهولندية للكاتب والمناضل السوري ياسين الحاج صالح، بمثابة جائزة للجائزة نفسها. فالجائزة التي استطاعت ان ترى من خلال الألم السوري كيف تضيء الكلمات عتمة الخوف، تستحق التحية. ياسين الذي لم يهدأ قلمه، منذ اشتعال الثورة السورية، قدّم نموذجا للمثقف الحر والمستقل، الذي يلعب دوره في بلورة الثورة ونقد الأخطاء وتصويبها، من داخل العملية الثورية التي تبني افق الحرية والعدالة..

انه يشكل اليوم مع مجموعة من مثقفي سورية ضميرا، بالمعنى الذي كتبه ادوارد سعيد. هذا الضمير الذي يكتب في شروط صعبة داخل سورية، يستحق اكثر من تحية، لأنه نجح في ان يبني صوتا، حين نقرأه ونعرف انه لا يزال في موقعه، نعلم ان سورية لا تزال بخير.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى