صفحات سوريةعمر كوش

ارتباط الحرّية بالتحرّر في الثورة السورية


عمر كوش

من الأمور الأساسية، في أيامنا هذه، أن نفهم الثورات، التي تجتاح دول الاستبداد العربي، من حيث ارتباطها بفكرة الحرية الملازمة لثورات العصر الحديث، وأن ندرك مدى التلازم ما بين الحرية وبين تجربة كل بلد عربي، حيث زينت شعارات الحرية شوارع وساحات تونس ومصر وليبيا واليمن، وصدحت بها، ومازالت تصدح، أفواه الثائرين السوريين منذ أكثر من عام ونصف. وقد يعيننا في هذ المجال الالتفات والبحث إلى جديد الثورات وربطها بفكرة الحرية، ومن ثم ربطها بفكرة التحرر من سلطة الاستبداد، المقيم منذ عقود عديدة، خصوصاً في الحالة السورية، وتلمس خصوصيتها وفرادتها.

وقد جرى نقاش واسع حول مفهوم الثورة الحديث، ومدى ارتباطه بالحرية، وليس العدالة أو الكرامة، وهو ما يسم الثورات العربية أيضاً، وربما ارتباط الثورة السورية بالكرامة أرجح من ارتباطها بالعدالة، لكنه لا يفوق ارتباطها بالحرية، ذلك أن الحرية باتت الفكرة الحاضرة في عالم اليوم، كما هي الحال عليه في عالم ما بعد الثورة الفرنسية، بوصفها، أي الحرية، تمثل المعيار الأعلى للحكم على الأنظمة السياسية، وبالتالي ليس فهمنا للثورة وحده، بل مفهومنا كذلك للحرية، وهو ثوري بالأصل، هما اللذان عليهما يتوقف قبولنا ورفضنا للترابط بين الثورة والحرية. وربما من الأهمية النظرية، أن ننظر ونفكر في الجوانب الدالة عليها الحرية، كي لا نقع في التفسير الشائع للثورات، وتفسيراتها الاقتصادوية والتنموية وسواها، والتي تقودنا إلى استنساخ مقولات الهيغلية والماركسية وسواهما، التي لا تصلح في هذا المجال، بخاصة وأن بعض الباحثين والكتاب لجأ إلى استنساخ مقولات من العدة القديمة لتراث الثورة اللينينية، وأسقطها على الثورات العربية، لتظهر كل من الثورة التونسية والثورة السورية، في صيغة قسرية، تطابق ما في رأس متسلق على الثورات، أو باحث عن مكانة اعتبارية لذاته المتضخمة من وقوفه اللفظي في طرفها.

وقد استعجل بعض الكتّاب قلمه، وسابق الجميع، كي يكون الأول، فأصدر بعضهم منهم كتباً، أو كراريس، تناولوا فيها كل الثورات التونسية والمصرية والسورية، وفق رؤى وقراءات اعتباطية وانطباعية، فذهب أحدهم إلى كتابة “أفكار ميثاقية” لثورة، لم يكن في جانب ناسها قبل أن تندلع، بل وقف ضد حراك “ربيع دمشق”، دفاعاً عن النظام، ومنحازاً إليه، بوصفه نظاماً ممانعاً، وهو النظام نفسه الذي بات يناضل ضده اليوم.

وجرى إطلاق توصيف “ثورة الأطراف المهمشة”، أو “ثورات ريفية” على كل من ثورتي تونس وسوريا. وعلى المنوال نفسه، نسج من يطلق على نفسه صفة “الباحث الإستراتيجي” و”المفكر الرصين والمرجعي”، وراح يردد المقولات ذاتها، ثم تمادى في توظيف جهود باحثين عن الوضع السوري، كي ينتقص من الثورة السورية، ويخفي تشرطه عليها، بل ومعاداته لها ولحراك الناس الذين ينتمي إليهم، فراح يلصق بها سمة “السلفية” وألحقها بمقولة “الشعبوية”، المتقادمة والمستهلكة والمستهجنة، والعائدة في بداياتها إلى سبعينات القرن التاسع عشر، والتي مارستها، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، السلطات الانقلابية الحاكمة في البلدان العربية، التي ولدت من رحم الأحزاب والحركات اليسارية والقومية العربية.

لم يدرك معظم الذين كتبوا عن الثورات العربية، وخاصة المنحدرين من الفكر القومي العربي وبقايا قوى أحزاب اليسار، أن الثورة ليست نموذجاً، فكروياً، ولا نموذجاً قابلاً للإسقاط والمقايسة، لذلك لم يربطوها بقضاياها الجوهرية، فخرجت مقولاتهم، المستقاة من هنا وهناك، لتتسم بالارتباك وعدم التماسك، وحتى الاسماء الطنانة، مثل “الثورة المجيدة”، الذي أطلق على الثورة التونسية، مستقى من الوصف الذي أطلق على الثورة الإنكليزية، مع أن الإنكليز تخلوا عن الوصف السابق، وأطلقوا على ثورتهم اسم الثورة البيضاء، ثم اكتشفوا صغر التسمية.

والمفارق في الأمر هو أن الاعتماد على المقولات ذاتها الوصفية، الانطباعية، ترافق مع اتباع المنهج نفسه في التأريخ المباشر، أو اليومي والوقائعي، وكأن العملية هي كتابة يوميات أو ريبورتاجات عن الثورات، لا تتعدى سقف تقديم وتفسير اليومي، وسرد وقائع مجتزأة للحدث. وبعدها تأتي عملية إسقاط ما في الذهن من مقولات إيديولوجية وسياسية قديمة، مثل السببية التاريخية، ومقولة المركز والأطراف، ودور العامل الاقتصادي أو التنموي وغيره، بوصفها ليست أكثر من محاولات ليّ عنق نظريات وأدوات قديمة، جاهزة ومسبقة، وترقيعها كي تجري مقايستها على واقع جديد، في حين أن الثورة لا تفسر باليومي والمباشر، ولا بوصفها آثاراً متوقعة للأزمات والمشاكل الاقتصادية والسياسية التي عصفت في البلد وناسه، على امتداد عقود عديدة، لأنها لا ترتهن إلى مثل هذا التفسير. وليس ممكناً توقع لحظة قيامها أو انتظار قدومها، كونها تمثل خروجاً عن السائد والمألوف والبديهي. وهي ليست قابلة للتفسير والتعليل، بل أنها كانت خارج كل الحسابات والتوقعات القبلية والتفسيرات البعدية، وهي أقرب إلى عمل الخلق والإبداع، المتفرد في حدوثه، ولا شبيه له.

وأظهرت الثورة، في أقلماتها العربية المختلفة، أن الإنسان في بلداننا ينشد الحرية واسترجاع كرامته المستباحة، وله مطالب اجتماعية وسياسية ومعيشية، مثله مثل سواه من البشر في عالم اليوم، وأن الدين الإسلامي هو أحد مكونات شخصيته الرئيسة، وليس المكون الوحيد والحاسم، والأهم هو أنها فنّدت المقولة التي تدعي أنه كائن لا يغادر الحيز الماهوي، المرسوم له بالانتماء المذهبي والطائفي والجهوي، وفندت أيضاً مقولة تدعي بأن الحركات الأصولية الإسلامية هي من يمتلك القوة الإيديولوجية والتنظيمية القادرة على تحدي الدولة القمعية والسلطوية. ومع ذلك يجري وسم شباب الحراك بـ”السلفية الشعبوية” واعتبارها تلخص حوامل وفواعل الثورة السورية، التي هي بالأساس ثورة كرامة وحرية وعدالة.

والأنكى من ذلك كله، هو وسم الثورة السورية باللاوطنية، حيث من المخجل اعتبار “ثورة صالح العلي” ثورة وطنية سورية بامتياز، التف حولها المجتمع السوري، وخاصة الفئات الوسطى، لأن في ذلك تلفيقاً عجيباً ومصطنعاً، بينما ثوة الكرامة والحرية، التي اندلعت منذ أكثر من تسعة عشر شهراً، ليست وطنية، بادعاء أن الفئات الوطنية الوسطى التي ينشدها “الباحث الرصين”، “الاستراتيجي”، لم تلتف حولها، معتقداً أن جموع السوريين ليسوا وطنيين، ولا ينحدر معظم ناشطيها من “الفئات الوطنية الوسطى”، كي يتحول حراكهم إلى ثورة وطنية حسب زعم زائف.

والواقع أن لا أحد يستطيع الزعم وجود معايير محددة بذاتها لقياس وطنية أو لا وطنية ثورة أو حركة احتجاجية، أو أي تحرك شعبي، لأن الوطنية ليست حادثة تجريبية، وهي ببساطة ليست شهادة أو صفة يمنحها شخص أو زعيم أو باحث، وليست منّة من أحد، أياً كان، وما لا يدركه موزعو الصفات هو أن الثورة تأتي كي تشيّد مقاماً جديداً في الوطنية وتبدع مفهوماً جديداً للوطن، حيث المفهوم بداية الثورة والمقام إشادة لها، وبالتالي، فإن المقام المحايث للثورة السورية هو أرضنة جديدة للوطنية وتأسيسها الجديد، يكون فيه الوطن للجميع، ويسكنها هاجس إشادة دولة المواطنة والديموقراطية، دولة الفرد الكريم والحر، تكون فيها الهوية وطنية جامعة، وليست هوية ما دون أو فوق – وطنية أو خارجة عن إجماع وطني.

وقد جرى التأسيس للثورة السورية حول مطالب وشعارات وطنية جامعة لكافة الفئات، تمحورت حول الكرامة والحرية، حيث انطلق أول شعار “الشعب السوري ما بينذل”، ثم “الله سورية حرية وبس”، ومع الامتداد الأفقي للحراك، كرّس الالتفاف حولهما تعاضد فئات اجتماعية وسطى وفقيرة واسعة، أجمعت بالدم والتضحيات على لحمة خيوط النسيج الوطني الحديث، وعلى وحدة السوريين، بمختلف مدنهم وبلداتهم وقراهم، وبمختلف أطيافهم الدينية والمذهبية والاثنية، جسدها شعار “واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد”، بل إن الشعار ذاته، “بالروح بالدم نفديك يا درعا”، أعلن امتداد التعاضد والتكاتف إلى مختلف المناطق، حيث تناوبت وتتالت أسماء المدن والبلدات فيه، من الجنوب إلى الشمال ومن الغرب إلى الشرق.

وليس اعتباطاً أن النظام السوري عمد إلى ضرب وتدمير النسيج الاجتماعي الحاضن للثورة، بعد فشل محاولاته تنمية وتقوية مختلف الانتماءات ما قبل المدنية، من مناطقية وعشائرية وطائفية ومذهبية، التي فعلت فعلها على مدى عقود عديدة من الزمن، وأنتجت وعياً إيديولوجياً زائفاً، بل ومقلوباً وعصابياً، وسلوكاً أقلّوياً لدى البعض، إلا أن جموعاً هامة من الناس لم تنكص إلى انتماءاتها الضيقة، بل تبنت انتماءات إنسانية واسعة، من دون القفز على – أو تجاوز – انتمائها الوطني، ولم ترتهن إلى نزعات جهوية أو فئوية أو أنانية وذاتوية. ولا يعدم ذلك وجود ارتكاس في بعض الحالات إلى مختلف الانتماءات ما قبل المدنية، بسبب غياب المواطنة، إلى جانب ممارسات وسياسات التمييز، والاضطهاد والقمع والتهميش، من طرف سلطة طاغية، عاملت الناس على أساس كونهم رعايا لها، وليسوا مواطنين في دولة، لهم حقوقهم وعليهم واجبات، يضمنها دستور البلاد. إضافة إلى تعميم الخوف، ونشر ثقافة الخوف، التي سادت، بوصفها ظاهرة مقيمة، تحول في ظلها ناس كثر إلى كتلة صماء من الخانعين، الذين لا يتفوهوا إلا ما تقوله السلطات والأجهزة الأمنية والسياسية والإعلامية، وليس لهم إلا السمع والطاعة وترداد الشعارات الطانة، الفارغة من أي محتوى وطني.

وعمد النظام إلى منع المتظاهرين السلميين من الوصول والتجمع في الساحات والأماكن العامة، وواجههم بالقتل والاعتقال والتنكيل، وذلك استكمالاً للاحتلال الذي قام به العسكر الانقلابيون، الذين وطدوا دعائم النظام منذ أكثر أربعة عقود. وراحت قوى النظام وأجهزته ومافياته تحتل مؤسسات الدولة، لتجعل منها مجرد ملحق وتابع لها، وقامت بمصادرة مختلف الحريات الفردية والجماعية، واحتلت السلطة الفضاء العام، بعد أن صادرت السياسة، بمعناها المدني الواسع.

وجاءت الثورة السورية، كي تكشف طبيعة الاحتلال السلطة للدولة والمجتمع، إذ لم تتردد السلطة في إقحام قطعات الجيش للهجوم على مناطق المدنيين في مختلف مناطق وبلدات ومدن سوريا، وأطلقت العنان لأجهزة الأمن وفرق الشبيحة لقتل الناشطين والتنكيل بأي شخص غير موال، فتزايدت المجازر والجرائم، وتزايدت أعداد القتلى والجرحى والمعطوبين والمعتقلين والمهجرين، وتزايد الدمار والخراب، وظهرت الانشقاقات في الجيش، ولجأ كثير من السوريين إلى التسلح، دفاعاً عن أنفسهم وأحيائهم وأماكن سكناهم، وبالتالي اكتسبت الثورة مركباً مسلحاً لمواجهة جيش النظام وأجهزة أمنه وشبيحته، وراحت تتعامل مع النظام بوصفه قوة احتلال، من حقها المشروع مقاومته.

ولعل من بين خصوصيات الثورة السورية، أن التطور الذي طرأ على مسارها، خصوصاً في عامها الثاني، تجسد في تحولها من ثورة تنشد الحرية، إلى ثورة تنشد التحرر والحرية معاً، الأمر الذي يستلزم النظر في علاقة الثورة بالتحرر، مع الأخذ بعين الاعتبار أن معنى الثورة الشعبية، يكمن في كونها فعلاً مقاوماً للظلم والقهر والقمع، أي فعل مناهض للاستبداد في مختلف صوره، ومناهض للاحتلال بمختلف أشكاله وتجسيداته.

ولا شك في اختلاف التحرر عن الحرية، مع أن التحرر هو شرط بلوغ الحرية، لكنه لا يقود إليها بشكل آلي، كما أن الرغبة في الحرية مختلفة عن الرغبة في التحرر، مع أن التداخل في الحالة السورية بات واضحاً بين التحرر والحرية، بل ويمتلك مؤشرات واقعية، خصوصاً بعد استباحة قوى النظام الأحياء والبلدات التي تقتحمها قوات الجيش والأمن، حيث الدمار والهدم ونهب البيوت السكنية والمحال التجارية وسوى ذلك، يجري علناً في وضح النهار، وبفعل مقصود وممنهج. ويشرعن لعمليات النهب والسلب بوصفها غنائم حرب، حيث يجري نقل الغنائم في مواكب علنية واحتفالية من طرف قوى النظام، ويباع بعضها في أسواق علنية. وكم هو مفجع أن تجري احتفالات كرنفالية في الأحياء، التي تضم غالبية من الفئات الموالية، حين يقتحم الجيش حياً أو قرية أو مدينة ثائرة، بل حين يصور رموز النظام وساساته وإبواقه الإعلامية تلك العمليات وكأنها أعمالاً بطولية، ويشبهون قصف مناطق المدنيين بالصواريخ والقنابل العنقودية والبراميل المتفجرة بعمليات جراحية أو عمليات تعقيم وإبادة لجراثيم فتاكة.

والناظر في اللغة التي يستخدمها الثوار السوريون، ومعظم الناس العاديين، أنهم باتوا يتحدثون لغة تحررية، حيث يجري الحديث عن المناطق التي يسيطر عليها الجيش الحر، بـ”المناطق المحررة”، والمناطق التي يسيطر النظام السيطرة عليها بـ”المناطق المغتصبة”، بل إن ضباطاً من الجيش العقائدي، راحوا يصرحون لبعض وسائل الإعلام بأنهم يعملون على الأرض كقوة احتلال، وليس كقوة أمنية، وأنهم يعرفون تماماً بأنهم باتوا قوة احتلال في نظر سكان المناطق السورية التي يجتاحونها. وعليه، فإن خصوصية الثورة السورية وتفردها، تكمن في أنها تواجه نظاماً، يعتبر نفسه قوة احتلال، ويتصرف على هذا الأساس، وبالتالي من المشروع إن يقاوم السوري الاحتلال حتى يتحرر وينال حريته، في اقتران مشروع بين الحرية والتحرر.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى