صفحات العالم

استدارة تركيّة في سورية/ مراد يتكن

 

 

ثمة علامة استفهام كبيرة حول الهجوم الانتحاري «الداعشي» على حافلة ركاب بالقرب من مخيم أطمه للاجئين السوريين في إدلب، على حدود ولاية هاطاي التركية، والذي أودى بحياة 30 شخصاً. ويبدو أن «داعش» كما حزب «العمال الكردستاني» الذي خفّف من هجماته في تركيا الشهر الماضي،استأنف هجماته العنيفة، إثر عودة أردوغان من رحلته إلى روسيا. فالتوقيت مثير للانتباه شأن المكان، ويوجهان رسالة. أما الهدف، وهو حافلة نازحين، فاختياره ليس إلا لكونه هدفاً سهلاً لـ «داعش» الذي لا تعنيه أرواح الأبرياء أو السوريين. ووقع التفجير يوم أعلنت «قوات سورية الديموقراطية» تحرير مدينة منبج من «داعش».

بعضهم في تركيا يقول أن تفجير الحافلة الانتحاري قد يكون رسالة تحذير وتهديد لتركيا من التدخل عسكرياً في سورية، بعد مصالحتها مع موسكو. لكننا نرى أن سياسة تركيا السورية كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، وماتت فعلاً إثر المحاولة الانقلابية الفاشلة ومصالحة أردوغان مع موسكو. ولم يتضح بعد شكل السياسة الجديدة التركية في سورية. فهل تستدير أنقرة 180 درجة وتعود الى ما قبل 2011، أم تستدير نصف استدارة؟ ما نعلمه أن أنقرة بدأت تتخلى عن الدعوة الى رحيل الأسد والبعث، وبدأت تقترب أكثر من نظريات أميركا وروسيا بل وربما إيران القائلة بأن في الإمكان التوصل الى صيغة يبقى فيها البعث حاكماً في سورية لكن من دون الأسد. فالموقف التركي اليوم في شأن سورية لم يعد قوياً على ما كان قبل عام. ونقطة التراجع أو الضعف الأولى التي شهدتها تركيا العام الماضي، بدأت حين اضطرت الى فتح قاعدة أنجرليك أمام القوات الأميركية، فكرّت سبحة تفجيرات دموية أثخنت جراح تركيا في 5 مدن تركية توزعت المسؤولية عنها بين «داعش» و»العمال الكردستاني». وهذه الهجمات، وتحديداً هجمات «الكردستاني»، حولت المدن والقرى التركية على الحدود مع سورية والعراق وإيران إلى كرة من لهب. فتلك المنطقة تخضع عسكرياً للجيش التركي الثاني الذي يشنّ منذ بداية 2016، حرباً ضروساً على الكردستاني في تلك المناطق. وترتب على فتح قاعدة أنجرليك أمام الأميركيين رد روسي: وضع اليد على طرطوس وتوسيع مطار حميميم العسكري كقاعدة عسكرية روسية مقابل أنجرليك. وعليه، رجحت كفة الروس وضعف النفوذ التركي في سورية. وباشرت روسيا حينها باستهداف المنطقة الحيوية لتركيا الممتدة على شريط أعزاز وجرابلس وإدلب، حيث استهدفت هناك فصائل المعارضة الموالية لأنقرة والتي كانت توصف بالمعتدلة ويقال أنها غير مرتبطة بـ «داعش» أو «النصرة». وفي هذه المرحلة، أسقطت الطائرة الروسية في الأجواء التركية، وبلغت السياسة التركية في سورية ذروة الضعف والتأزم، فزاد الثقل الروسي وانسحبت تركيا من الميدان، وأغلقت الأجواء السورية في وجه الطيران التركي.

ومع هذه التطورات، انشغلت الاستخبارات عن الأزمة السورية بمتابعة ملف «العمال الكردستاني». ووقعت المنطقة الحدودية تحت إمرة الجيش الثاني الذي استلمها من الاستخبارات التركية ليشن العمليات. والحلقة الأخيرة في مسلسل تراجع القوة التركية في سورية، اتصال الرئيس الأميركي، باراك أوباما، مع أردوغان في أيار (مايو) الماضي، لإبلاغه بالحاجة إلى «قوات سورية الديموقراطية»، ذات الغالبية الكردية، لتحرير منبج من «داعش»، وبأن التحالف سيستخدم أنجرليك لدعم عملياته في سورية . وبدأ الستار يسدل على المشروع التركي في سورية. ثم وقع الانقلاب العسكري الفاشل، والذي أضر بالجيش الثاني الذي كان وكر جماعة غولن التي اجتثت منه. وبدا أن الظروف مواتية أمام سياسة تركية جديدة في الشأن السوري. ومهدت المصالحة مع روسيا وإسرائيل لهذه السياسة. واليوم، يبدو أن طموحات أنقرة في سورية تقتصر على: ألا يقوم كيان كردي في شمال سورية يهدد أمنها، وأن يرحل الأسد وحزب البعث عن قيادة تلك الدولة. وترى أنقرة أنه لا يمكنها تحقيق الهدفين معاً. وترى كذلك أن حلم الأكراد بكيان مستقل في شمال سورية هو رهن الدعم الأميركي، في وقت أن بقاء بشار والبعث في السلطة يحدّده الدعم الروسي. والصورة واضحة اليوم، لكن التعامل معها عسير. وما يزيد الصعوبة والتعقيد مطالبة أنقرة واشنطن بتسليم الداعية المعارض، فتح الله غولن، وبالضغط على «»قوات سورية الديموقراطية» للعودة الى شرق الفرات. فوزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، أعلن أهمية هاتين المسألتين. لكن يبدو أن تعاون واشنطن صعب. فهي تصر على أن يبقى ملف غولن بيد القضاء وأنه ليس مسألة سياسية، وبدأ أصدقاء تركيا في أميركا يحذرونها من أن التلويح بالتهديد في شأن عدم تسليم غولن قد يأتي بنتائج عكسية في الإدارة الأميركية والأروقة السياسية هناك. ولا مؤشر الى نية «قوات سورية الديموقراطية» الانسحاب، بل هي تعد لاستكمال المسيرة نحو الباب ومن بعدها عفرين لتستكمل الكانتون الكردي في شمال سورية. ولذا، نقول أن تفجير أطمه الانتحاري رسالة الى تركيا تحذرها من التدخل عسكرياً. وعليه، تجد أنقرة نفسها مضطرة الى حل هذه المسألة ديبلوماسياً، وليس عسكرياً. وما تسرب من فصول السياسة التركية الجديدة في سورية وفق تصريحات رئيس الوزراء، يشير إلى ثلاث مسائل هي: 1) تأكيد وحدة الأراضي السورية، وهذا يعني منع قيام كردستان سورية، ويقضي بالتعاون مع روسيا وإيران. 2) رفض انفراد طائفي في الحكم بسورية، لا سنّي ولا علوي. وهذا يعني تبدد أحلام جماعة «الإخوان المسلمين» الدولية التي كانت تراهن على سورية من أجل بسط نفوذها. 3)، عودة اللاجئين السوريين إلى أراضيهم فوراً بعد حل الأزمة السورية، وطي ملف توطين اللاجئين السوريين في تركيا.

وعليه، يبدو أن أنقرة تقبل بأن تبرز في سورية المستقبل حكومة وحدة وطنية يشارك فيها حزب البعث، ولا يكون الأسد على رأسها. ولا شك في أن السفينة التركية بدأت تستدير في مياه الحرب السورية، لكننا لا نعلم ما إذا كانت الاستدارة كاملة أم نصف استدارة.

* كاتب، عن «حرييات» التركية، 16/8/2016، إعداد يوسف الشريف

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى