صفحات الرأي

في هجاء حروبنا الأهلية العبثيّة والكارثيّة


ماجد كيالي

هكذا نحن، مقتولون مع المقتولين، ومعتقلون مع المعتقلين، ومعذّبون مع المعذّبين، ومخطوفون مع المخطوفين، ومحاصرون مع المحاصرين، ومطاردون مع المطاردين، ومتهمون مع المتهمين، في ظل هذا النمط من النظم المتسلطة والمغلقة، التي تعيد إنتاج نفسها منذ عقود، وتستبيح كل شيء تطاله أيديها.

وحقاً، فقد كانت تلك اللحظة التي سمعت فيها خبر اختطاف مجموعة من اللبنانيين، من قبل إحدى جماعات “الجيش السوري الحرّ” (إذا تأكّد ذلك)، جدّ صعبة ومؤلمة، ليس لأن المختطفين أبرياء، فقط، وإنما لأن الخطف جرى على أساس هويّة معينة (دينية)، اختصرت فيها ذوات المخطوفين بمعزل عن مشاعرهم وأهوائهم وسيرتهم ومواقفهم. وأيضاً، لأن الخاطفين ذاتهم هم من الأساس ضحايا، ولا أقسى من وضع يقوم فيه ضحايا بالتشبّه بظالميهم، ولا أكثر إيلاماً من تخليق ضحايا لضحايا أخرين، فهكذا معادلة جدّ ظالمة وقاسية ومؤلمة من الناحية الأخلاقية بالنسبة إلى الطرفين المعنيين.

فضلاً عن ذلك فإن هذه الفعلة (إن صحّت وقائعها)، في هذا الواقع المضطرب، ربما تثير الشبهات حول الثورة ذاتها، لأن الاشتباه بأخلاقية وسيلة ما قد يشمل صدقية أهدافها، ذلك أن الثورات إنما تتجمّل، وربما تحقّق نصف انتصارها، بفضل تفوّقها الأخلاقي على خصمها، أيضاً،وبإشاعتها قيم المسامحة والمصالحة والمساواة في المجتمع؛ وهذا هو بالضبط معنى الحرية والكرامة والعدالة في الثورات.

عموماً فإن الثورات لاتندفع نحو الحروب الأهلية، الهوياتية والعنيفة، من تلقاء ذاتها، وإنما تدفع أو تستدرج نحو ذلك، بطريقة أو بأخرى، لأن هكذا حروب، تشوّه معانيها، وتستنزف طاقاتها، وتصرفها عن الهدف الأساسي الذي قامت من أجله. فوق ذلك فإن هكذا حروب تحدث تشقّقات عميقة، في المجتمع، مع ذاكرة متصدّعة وشعور بانعدام الثقة والكراهية المتبادلة، مالا يسهّل على الثورة عملية البناء في المرحلة التالية.

المعضلة أن الحروب الأهلية في بلداننا تستمد ميّزاتها من انتماء جماعاتها إلى ماقبل السياسة والمجتمع والدولة، أي إلى ماقبل العقلانية والمواطنة والحرية، لأنها تتأسس على إطلاق الغرائز وإثارة العصبيات وصراع الهويات، والعقليات الثأرية، ولأنها تدفع باتجاه التنابذ بدل التجاذب والإفناء بدل البناء وإقامة الجدران بدل الانفتاح.

وبالطبع فإن هذا ليس مديحاً في الحروب الأهلية التي شهدتها الشعوب الأخرى، ذلك لأن أية حروب أهلية تنطوي على أعمال قذرة وعلى قسوة غير مبررة، وعلى فائض من العنف لاداعي له، لكن مايشفع لتلك الحروب، إذا كان يجوز ذلك طبعاً (من دون أن يضفي عليه قيمة أخلاقية)، أنها جاءت في لحظة بات يبدو معها التطوّر والتجديد مستحيلاً، في بلدانها، من دون شل، أو إضعاف، مقاومة الجماعات التي تحول دون ذلك، أو التي لاترى أن لها مصلحة مباشرة في ذلك.

هكذا، شهدت ثورات الإصلاح الديني والثورات البرجوازية والديموقراطية في فرنسا وألمانيا وايطاليا، مثلاً، نوعاً من الحروب الأهلية، التي نجم عنها حسم التوازنات في المجتمع لصالح عملية التطور والتغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي؛ وهو ماحصل في القرن الثامن عشر في الولايات المتحدة الأميركية في الصراع من اجل تحرير العبيد، والذي دُفعت فيه أثمان بشرية ومادية أكثر بكثير مما دفع في سبيل الاستقلال عن بريطانيا.

والمعنى من ما تقدم أن الثورات والحروب الأهلية في تلك البلدان كانت محض محطّة اضطرارية، تتوخّى توحيد البلاد، وإقامة الدولة القومية، وصوغ الاجماعات الوطنية، وإطلاق الحريات الفردية، وإعلاء شأن التفكير العقلاني، والارتقاء بالعلوم، وتنمية قطاعات الاقتصاد، وهي مرحلة جرى الاعتذار عنها، والتصالح بشأن المظالم التي تسبّبت بها.

الأهم من كل ذلك أن تلك الحروب لم تكن تتأسس على أساس التمايزات أو الانقسامات العمودية، أو الهوياتية، في المجتمع، وإنما كانت تتأسس على المصالح والرؤى السياسية والاقتصادية، على خلاف الحالات المشابهة في أحوالنا في البلدان العربية المعنية.

ومن تجاربنا المريرة ينبغي أن نتعلّم أن اخطر شيء يمكن أن تمر به مجتمعاتنا هو الحرب الأهلية، فهذه حرب عمياء وقذرة وبشعة وكارثية وعبثية، وهي مدمرة للمعنى والمبنى، لاسيما أنها تتم على أساس هوياتي في الأغلب.

هذا ماعلمتنا إياه تجربة الحروب والنزاعات الأهلية في لبنان والعراق، التي قتلت معنى الفردية والخصوصية عند اللبنانيين والعراقيين، وسلبتهم حريتهم، بجعلهم مجرد أعضاء في جماعة دينية، في مواجهة جماعة دينية أخرى، حتى ولو كانت من نفس الأرومة الدينية!

وهذا حصل في الجزائر، أيضاً، بنفس الطريقة لكن على أساس هويات معتقدية، أو أيديولوجية، ففي هذا البلد رأت جماعة دينية معينة نفسها وكأنها وكيلة الله على الأرض فاحلّت لنفسها محاسبة الناس، وتقييم حالتهم بين الكفر والإيمان، ومحاسبتهم على ذلك بالقتل الشنيع.

في الوضع الفلسطيني أخذ الاحتراب الأهلي شكل نزاعات بين فصائل سياسية، على المكانة والسلطة، هكذا تعرّف الفلسطينيون على نوع من الحرب الأهلية في الاقتتال الذي اندلع بين بعض فصائلهم في لبنان (1982)، وفي الاقتتال الذي حسم سيطرة حركة حماس على قطاع غزة على حساب فتح (2007).

وكان الفلسطينيون ذاقوا لوعة الحرب الأهلية، بقسوتها ومظالمها، في المجازر التي تعرضوا لها في لبنان، أيضاً، في تل الزعتر (1976)، وفي مخيمات صبرا وشاتيلا (1982)، وفي ماعرف بحرب المخيمات، وهي الحرب التي شنّتها حركة أمل على مخيمات الفلسطينيين في بيروت (1985ـ1988)، ونجم عنها أثمان باهظة بالأرواح وبالممتلكات.

في كل الأحوال فإن الحروب الأهلية في بلداننا تدفع ثمنها الشعوب باهظا، من طمأنينتها، ومن وحدتها وذاكرتها، ومن ثقتها في المستقبل، وهي حروب لاتخدم إلا القوى المستبدة والمسيطرة، والمنحطة سياسيا وأخلاقيا.

وقصارى القول فإن الحروب الأهلية تعرّفنا باعتبارنا جزء من جماعة أهلية، دينية أو اثنية، أو أيديولوجية، أو مناطقية، ما يتناقض مع الحرية والعقلانية والمواطنة؛ لهذا كله ينبغي تفويت أية استدراجات لأي نوع من الحروب الأهلية.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى