صفحات سورية

استفاقة للحياة السياسية السورية… ما للمعارضة وما عليها


نقاش مع لؤي حسين وريما فليحان وسلامة كيلة

غدي فرنسيس

على خط السؤال والجواب من منطقة إلى أخرى خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، كانت تتكلم سوريا في السياسة طوال الوقت وفي كل دار.

عند السؤال، اختلفت إجاباتها. كانت أحياناً تكشف عن فرز طائفي جديد، وأحياناً عن وعي وطني مميّز، وأحياناً عن أمراض اجتماعية خطيرة…اختلفت مواقفها وآراؤها. كانت تكشف وجهاً جديداً في كل منطقة. ولعل أهم النقاشات، كانت مع من لم ينزلق خطابهم إلى الدفاع العاطفي، لا عن أخطاء النظام ولا عن تشوّهات “الثورة”. وهؤلاء كثر، ممتدون من مكاتب المسؤولين إلى “أوكار” المتظاهرين من درعا الجنوبية إلى حماه الشمالية، وما بينهما وما على جوانبهما.

تلك الشريحة المتسائلة المنتقدة المفكرة، سميّت بالأغلبية الصامتة، ولكنها ليست ولم تكن صامتة. لا بوق لها ولا مذياع، ولا إطار حزبي أو سياسي يُسمع الدنيا صوتها.. كانت ولا تزال تعايش يوميات الانتفاضة السورية وتداعياتها وتتقلب مع كل مرحلة جديدة. فيها وإليها وعليها مستقبل سوريا وساحة الاستقطاب السياسي خارج الخيارين المنتهيي الصلاحية: “البعث” و”الإخوان المسلمين”.

“أنا مع ميشال كيلو وبرهان غليون وطيب تيزيني وفايز سارة وهؤلاء المفكرين وذلك النوع من المعارضة” هكذا أجاب حسن حميدوش في ساحة جامعة دمشق في البرامكة منذ ثلاثة أشهر، بينما كان رفاقه يتظاهرون تأييداً في كلية الهندسة.

وفي مقاهي حمص، وضع أحمد ولقمان ونجوى تلك الأسماء على الطاولة للنقاش، وكذلك سامر ونبيل في مكتبة حماه، وعمر في ملحمة دوما.. في اللاذقية، كان جورج زريق يترقب مقالات “كيلو” و”سارة” كضوء جديد في عقله السياسي الحزبي. في حلب، كانت معارضة المجتمع المدني ممثلة بالدكتور فارس إيغو. عند بيت الحجازي نفحة مشابهة لتلك الأسماء، وفي السويداء كانت الشاعرة أميرة أبو الحسن نموذجاً عن هؤلاء المعارضين. من دمشق تكلم بلسانهم الكاتب نجيب نصير منذ أول الأحداث. أفكارهم ومعارضتهم “متفشية”. إنهم في كل مكان في سوريا، وأفكارهم على كل لسان.

وكان المؤتمر الأول من الداخل. وخرجت المعارضة الوطنية إلى الضوء، ودخلت في التاريخ من فندق دمشقي! فكان عليها هجوم مزدوج: التطرف على ضفتيه من الخارج والداخل. العاطفيون على نوعيْهم، المعارض والموالي، هاجموها، وشارع كبير استمع إليها وترقبها. شارع كان ينتظرها، وجد فيها “دواء مهدئا للعصفورية السورية”، لكنه يضعها اليوم أمام التحدي الأكبر مع الوقت والقدرة والفعالية في الإمساك بأرض الثورة. فماذا تقول اليوم؟

لؤي حسين: لا أحد يمثل أحداً

لو حالفتك الصدفة في يومياتك الدمشقية منذ أسبوعين لتعبر بفندق الفردوس ذات مساء، كنت لترى طاولة تجمع ميشال كيلو ورلى ركبي وسمير سعيفان ولؤي حسين وغيرهم من المعارضين. لن يطيلوا معك الحديث، فهم يتناقشون، يجتمعون للتحضير. يبتسمون مبتعدين عن الإعلام ويشرعون في نقاشاتهم حول الغد. لو كنت ناشطاً على “فيسبوك”، ستصادقهم لتطّلع على أطروحاتهم وأفكارهم اليومية وتعليقاتهم على الحدث. لو كنت طالباً شيوعياً أو قومياً أو ناصرياً منذ 30 عاما، كنت لتناضل معهم. لو كنت تقرأ الصحف اللبنانية والعربية، لتعرّفت أكثر على أفكارهم. منهم خرجت ثلة، في مقدمها لؤي حسين، وعزفت الخطوة الأولى في المعارضة في مؤتمرها العلني.

منذ أسبوع، بعد قراءة تعليقه على حديث وزير الخارجية وليد المعلم، سألت لؤي حسين عبر “الفيسبوك”، “ماذا تمثل” من الشارع، فأجاب “لا شيء”. منذ يومين في مقهى “عندنا” في الشاه بندر في دمشق، سألته السؤال ذاته، فأجاب مروحة أفكار مفادها: نمثل العقلاء، “هناك في الأغلبية الصامتة أرضنا”.

منذ أول أيام استفاقة درعا، كان لؤي حسين المصدر الإعلامي الرئيسي لـ”الجزيرة” و”العربية” و”رويترز” و”بي بي سي” و”فرانس 24″. ذهب إلى قلب الحدث ونقله إلى الدنيا، فاعتقله الأمن في 22 آذار جاعلاً منه أول معتقل سياسي في الثورة السورية. “كان اعتقالاً انتقاميا”. ولكن أيام اعتقاله الثلاثة لم تكن صعبة، فقد عرف الاعتقال والسجن والأسر لمدة سبع سنوات متواصلة بتهمة “فكرية”. فكان طالب فلسفة في السنة الرابعة، وناشطا في حزب شيوعي معارض، فجعله القمع البعثي بطلاً في العام 1984 وأطلقه إلى شوارع دمشق من جديد في العام 1991. بعد الخروج من الأسر، افتتح دار “بترا” للنشر وعمل فيها على إصدار كتب علمانية فكرية وبحثية. كتب في صحيفة “السفير” منذ 2003 حتى 2008 في الشأن السوري والوضع الإقليمي. يشرح حسين سبب توقفه عن النشر “في 2008 مع حرب غزّة، الوضع الأمني صعّب عليّ الكتابة”.

لم يكن المؤتمر المعارض أول موكب جمعه مع رؤوس المعارضة الآخرين، ففي الأعوام الماضية نشر عدة كتب سياسية، وكانت عبارة عن حوارات في المعارضة الوطنية السورية مع المفكرين، ومنهم طيب تيزيني وبرهان غليون وجودت سعيد وصادق العظم وجورج طرابيشي.

كثير الحركة، كثير الكلام عميقه…والد آنستين صغيرتين تذوقت يومياتهما نضال “بابا البطل”. دخل الأمن على منزلهما، وأخذ حواسيبهما وخرّب منزلهما بحثاً عن “بابا ونشاطه” منذ ثلاثة أشهر.

في جلسة سمر بين ماضي نضاله ومستقبله، للؤي حسين شخصية تبهر جالسه…”في العمل الكتابي والشأن العام، كنت أحاول أن أساهم بثقافة سياسية، أبرز ما كتبت في انتقاد النظام كان عن موضوع السلام مع إسرائيل”. يعبر لؤي هنا أنه ليس ضد فكرة السلام ولكن نقاشه في المقالات كان يدور حول أن السلام الخارجي يحتاج إلى سلام داخلي كمرحلة أولية، كما رفض فكرة التفاوض على الجولان. ثم حين يسأل “حسين” عن فلسطين يجيب بسرعة المحسوم: “أنا سوري أريد الجولان، فلسطين للفلسطينيين أن يحرروها”.

يتابع التظاهرات. يسمّيها “قرقة” تيمّنا بالدجاجة التي تجلس فوق البيضة لتخلقها صوصاً. يقول لأصدقائه أيام الجمعة بينما يتجه نحو مواقع التظاهر “تارك قرقة بالميدان، بدي شوف وين صارت”. لكنه يعرف ويقول إن المعارضة “النخبوية” المثقفة التي انطلقت من فندق “سميراميس” ببيان تلاه هو، ودعوات أشرف عليها هو، لا تزال لا تمثل الشارع المتظاهر، وهي تدرك هذا الأمر. ولكن لؤي يشير بتحفظ “أمني” على الأسماء أن بعض “التنسيقيات” كانت جزءاً من اللقاء، وبعضها الآخر رحّب بها، وان صفحة “اتحاد التنسيقيات” صفحة إلكترونية لا تعبر سوى عن مؤسسها، بينما التنسيقيات بعضها أصبح معروفاً بالأسماء.

يرفض توصيف الشارع بالتيار الإسلامي، قائلاً “التيار يطالب بدولة، شارعنا التظاهري ليس سياسيا ولا إسلاميا، هو شارع منتفض لحقوقه، ولا يزال الوقت مبكرا لتصنيعه سياسياً لأنه لم يطرح سياسة ولا أفرز قيادات”. أما عن السلاح والعصابات المسلحة، فيقول حسين: “أنا لا أقر للإعلام بوجود مسلّحين لأن ذلك يكون مادة لحرب إعلامية في يد السلطة”. وهنا ينتقد المعلومة ووصولها والإعلام السوري “معلوماتنا يجب أن تكون عن طريق الصحافة لا الرأي، والصحافة لا تكون بتلاوة نشرة أمنية، أنا قلت إنني مقاطع للإعلام السوري، تضامناً ودفاعاً عن الصحافيين السوريين الذين تمسك بأعناقهم وأعناق وسائل إعلامهم أجهزة الأمن”.

“لا يوجد في سوريا أحد يمثل أحدا، فلا آليات لدينا لفرز الممثلين. مجلس الشعب زائف، وحتى السلطة لا ممثل لها سوى رئيس الجمهورية، علينا الانتهاء من كلمة “تمثيل” هذه، غداً سينتقدنا الشارع وهذا حق أي سوري على الأرض السورية لا يستخدم أسماء وهمية ولا يتكلم من خارج البلاد. لا يحق لمن هو في الخارج أن يأخذ المواقف، يحق له أن يبدي الرأي فالعمل السياسي يكون على الأرض. نحن الذين كنا في اللقاء التشاوري نمثل كل من يؤمن بدولة ديموقراطية.. بعض الرفاق الذين انسحبوا قبل المؤتمر (رلى ركبي، سمر يزبك، عارف دليلة، ياسين حاج صالح..وغيرهم) ربما خافوا من التخوين فنحن لسنا معتادين على الحياة السياسية العلنية، ولدينا تقدير أن السلطة فاعلة في كل شيء، وهذا صحيح. لكن مؤتمرنا كان يشبه تظاهرات حماه. ففي حماه مثلاً، التظاهرات كلها كانت بمعرفة السلطة. أنا أجلس مع السلطة وأقول لها ما أقوله على المنبر العلني: لا بد من زوال النظام الاستبدادي الحاكم والانتقال إلى نظام ديموقراطي مدني. كل سوري قلق من مستقبل مجهول متضامن معي اليوم، لأن مؤتمرنا أتى في إطار صناعة المعلوم، وبعث الحياة في السياسة السورية”. وقال “نحن معارضة تصالحية وليست تسامحية، ولن نحاور قبل تنفيذ التوصيات التي طلبناها في المؤتمر، ونحن سنبقى في الشارع حتى يتم تحقيق كل مطالبنا، ونعمل على تعزيز رؤيانا في المناطق وتوسيع تيارنا”.

ريما فليحان: وجودنا يرفع السقف

كثر من الأسماء المعارضة اعتذروا أو قاطعوا المؤتمر، ثم رحبوا بتوصياته وطالبوا بالمزيد. بعضهم تردد كثيراً ولكن صمم على الذهاب، وهكذا أصبحوا 300. وصلتها الدعوة لحضور اللقاء التشاوري الأول في فندق “سميراميس”، فترددت ريما. منذ أول الأحداث وهي تحت المجهر، كتبت “نداء أطفال درعا” المشهور فشهر التخوين سيفه لأنها وصفت الحل الأمني بالحصار.

استطلعت كاتبة السيناريو الناشطة في المجتمع المدني آراء أصدقائها على “فيسبوك” حين تلقت الدعوة، فشوّشتها، واعتذرت عن حضور المؤتمر علناً. ومن ثم، في اليوم التالي كانت على المنبر الإعلامي في فندق “سميراميس” تجيب عن أسئلة الصحافيين…ما الذي قلب رأيها؟

تقول ريما في مركز عملها في مكتبة “إيتانا” العصرية في الشعلان: خفت أن تستغل السلطة هذا الموضوع، ولكن قبل نصف ساعة من موعد المؤتمر كان يدور في رأسي الحوار التالي “إذا كان كل شخص مثلي مؤمن ببلده ونفسه وبعدم خيانة الدم الذي أوصلنا إلى اللقاء لم يذهب، فمن الذي سيذهب؟…مضيت إلى “سميراميس”، ولحظة النشيد الوطني امتلكني شعور عارم أكبر مني، وبكيت وقلت لنفسي، سأقول ما أريد هنا أمام الكاميرات من دون خوف: دولة مدنية بشكل سلمي. السلطة طبعاً ستستغل، ولكن قلت لنفسي ربما وجودنا سيجعل البيان يوافق نبض الشارع..

وعن الهجمة قبل المؤتمر وبعده، تقول فليحان “المعارضة بالداخل لم تهاجم المعارضة التي في الخارج، ولولا هجوم الخارج علينا، لما استطاع الإعلام السوري استغلاله”..رسالتي ورسالة المؤتمر للداخل الذي لم يحدد موقفه ولا يزال خائفا من الفوضى: هناك مفكرون وهناك كيان سياسي في الداخل قابل للنمو وهذا يجنب الفوضى، وهناك جهات معارضة ومستقلة في الداخل تساند الحراك الشعبي ولا تعمل بأجندات خارجية. أنا أريد أن يسقط النظام، ولكن ليس على رأسي، نريد انتقالا سلميا ديموقراطيا إلى الدولة المدنية، ويجب ألا ننسى أن جزءاً من هذا الشعب السوري مع هذا النظام. سوريا مختلفة عن مصر وليبيا وتونس واليمن، ولا قالب واحداً يمشي في كل الدول، لكل بلد شخصيته…

سلامة كيلة: مؤتمر الضمانة

ضد المؤامرة والفتنة

“كنت في ثورة مصر”، هكذا يعرف المناضل ذو الشعر الأبيض عن نفسه فوق طاولة القهوة. وتتدرج التعريفات: “فلسطيني الولادة أردني الجنسية مواطن عربي من جيل الهزيمة في 1967 ساكن في سوريا منذ 30 عاما…كاتب دفع ثمن حرية فكره ثمانية أعوام في الزنزانة، تزوّج صديقته في السجن، فكان عريس النضال السياسي في السجن منذ 1992 حتى 2000. وخرج من السجن كاتباً ومفكراً له مقالات في الصحف العربية واللبنانية حتى اليوم.

للمعارضة التي فيه أسبابها “النظم العربية فاشلة غير قادرة أن تحقق لشعوبها، وبالتالي غير قادرة على محاربة الصهيونية. قبل صرخة درعا، كان تحليلي أن الأمور مقدمة على انفجار اجتماعي بسبب التحول الاقتصادي نحو قطاع الخدمات والمصارف والعقارات والسياحة على حساب الزراعة والصناعة. وحين صرخت شريحة الثورة الاقتصادية، قرر النظام أن يواجه بعنف لأنه مدرك لما فعله في المجتمع”.

يدافع كيلة عن الحراك السوري، ويعتبر أن السلاح “كان رد فعل محدوداً على ممارسات فظيعة من النظام” كما يستبعد أخطار حروب طائفية في سوريا. يعتبر أن الجذور اقتصادية بحتة، وأن وعي الغضب ينتقل إلى وعي سياسي تدريجياً. “الوعي الديني التقليدي يطرح في هذا السياق، الشارع ليس مؤدلج دينياً بالمعنى السياسي. المشكلة في المعارضة بالخارج، الإخوان المسلمون ومن حولهم، إنهم يتكلمون عن مجلس انتقالي وتواصل مع الدول الغربية ووضع دستور من الخارج، وهذا طرح بديل ووُضع برنامج. وهؤلاء هاجموا مؤتمرنا الداخلي لتشويه دوره. أتمنى على كل من انتقد المؤتمر وهاجمه أن يهدأ ويفكر..هناك حاجة وحرص على تطور الانتفاضة ولا أحد يقفز إلى حوار مع السلطة”.

مؤتمر جميل …ولكن

كل شيء مختلف في أحاديث دمشق ما بعد المؤتمر المعارض. كأن النقاش العام اكتسب جرعة إضافية من المعنى السياسي… تتكلم الألسنة عن قدرة العبور إلى الشارع، وعن هيكلية أحزاب المعارضة بالمقارنة مع المعارضة الجديدة. عن تدرّجات الوعي السياسي وامتداده إلى المناطق. في مذياع السيارة الصفراء، أصوات إعلامية تناقش مؤتمر المعارضة وتقيّمه وتقيّم سقفه العالي على مسامع المواطن السوري. في الحياة السورية مادة جديدة تظهر في كل الوجوه، معارضة وموالية.

يتساءل الشارع عن قدرة المؤتمرين على ترجمة خطابهم في عمل ميداني سياسي في المناطق. الدكتور احمد برقاوي من مكتبه في كلية الآداب ضحك ضحكته المعهودة لدى السؤال، وقال: “ما كان ليعقد المؤتمر لولا أولئك الذين يخرجون إلى الشوارع ويستشهدون..إذاً هو ثمرة من ثمرات الحراك السوري وبالمقابل وعي جديد للسلطة بالآخر وأهمية الحوار مع المختلف.

لكن كونه مؤتمر “مثقفين وما شابه ذلك”، و”سياسيين وما شابه ذلك”، فهو عكس جملة تناقضات في هذا الجسد. لقمان الحمصي، الذي كان ينتظر مبادرة كهذه، كان بالأمس يمشي متذمراً باسم الشباب السوري الذي هو شارع العمل السياسي: كل ما قاله المؤتمر جيد ولكن كأنهم حالة المعارضة العاطفية لا الفعلية، فلم يطرحوا برامج العمل. عليهم أن يتمددوا في المناطق، نعم خطوة تاريخية ولكن حان الوقت للخروج من نشوة انتصارهم والعمل على الأرض، فليس لدينا متسع من الوقت، أنا اليوم أجد نفسي أقرب إلى المعارضات التاريخية لا معارضة مثقفي المقاهي….

هذا لقمان، أما شادي الشاب الثائر الحاد، ورغم إعجابه بكل ما جاء في توصيات المؤتمر إلا انه سارع إلى اعتباره قيد “استغلال السلطة”…ولم تغب عنه مشكلة “الأنا”.. هؤلاء الشباب الناشطين، هم شارع تلك المعارضات السياسية المستفيقة في دمشق، وهؤلاء يطرحون تساؤلات كثيرة ويريدون المزيد…

وفي الشارع مقارنة دائمة بين معارضة الأحزاب ومعارضة المثقفين..”الأحزاب قديمة أثبتت عدم قدرتها على لعب دور طليعي في السياسة”، هذا رأي لؤي حسين وغيره كثر…”الأحزاب المعارضة مع حسن عبد العظيم قادرة على العمل على الأرض، ولديها قدرة القيادة وبرامج العمل”. هذا رأي بعض الشباب السوري المعارض…وما بينهما، نقاش سوريا السياسي في قمته، والجناحان متكاملان بمشروع واحد وأمامه التحديات وجمعة واحدة قبل مؤتمر الحوار الوطني. على مشارف أسبوع الحياكة السياسية الداخلية في سوريا، يلعب الشارع المثقف أجمل أدواره: الحسيب والرقيب.

 (“ماذا تفعل لو كنت بشار الأسد؟” رؤوس الحركة السياسية الدمشقية تجيب يوم الإثنين في “السفير”)

ماذا تفعل… لو كنت بشار الأسد؟

غدي فرنسيس

في مكتب الأمن الدمشقي حيث اعتقلت لأنك تفكر أو تكتب أو تتحزب ـ أو ربما عن طريق الخطأ ـ للرئيس بشار الأسد صورة مكتوب تحتها «قائد مسيرة الحزب والشعب». في غرفة نوم، وفوق سرير طفلة حلبية، للأسد صورة كتب عليها «حامي سوريانا». فوق مكتب رئيس تحرير جريدة «الثورة»، للأسد صورة وأبيات شعر نشرت في الجريدة احتفالاً بـ«المبايعة للقائد والخالد المفدى بالدماء والعروق». تستيقظ دمشق القديمة على أصوات موالاته وتختتم سهرات المطاعم تحت صورته بأغنية «منحبك» مرّة أخرى.

بشار الأسد خطاب على لسان المقاومة ضد العدو الصهيوني، ودمعة على خد والد شهيد الثورة السورية. بشار الأسد ابن لوالد، ابن لحزب، ابن لعائلة، وابن لمنظومة أمنية ومسيرة سياسية عمرها 50 سنة محفوفة بالأخطاء والقمع والقوة. بشار الأسد وجوه لا تحصى لرجل واحد. فماذا تفعل أنت لو كنت مكانه اليوم؟

من كرسيه، تبدو سوريا غاضبة ومستيقظة وملوّنة كعادتها. ينزل إلى الشارع ليتفقّدها، فتحجب عنه الحاشية غضب الأرض. يخنقه المرافقون والمصفقون، من عينيه، سوريا تعبر بهم أولاً. يعود إلى كرسيه، يتّصل به الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، فيرفض أن يجيب.. يخرج في كلمة للسوريين فيقول: أنا مستعد لأن أغيّر كل الدولة وأن أقلب الدستور رأساً على عقب، ولكن كل شيء يمر عبر اللجان والحوار. تترقب عيناه الشارع، فتخرج له شخصيات معارضة داخلية من قلب العاصمة وترفع السقف: «لا أصدّق الحوار في ظروف كهذه»… يوم الجمعة، تنتفض حماه بآلافها الكثيرة، «الشعب يريد إسقاط النظام»، فيستجيب النظام بعزل الشخص الوحيد الذي كانت حماه راضية عنه: المحافظ… تضحك المعارضة بغضب: أهذه هي خطواتكم؟ بالمناسبة، نحن لن نخرج من الشارع هكذا.

إذا كان لأحد ما أن يروّض غضب الشارع بالسياسة، فالأولوية لمن هم على أرض سوريا، سياسياً وميدانياً واجتماعياً، من أصحاب الفكر منذ سنوات. منهم الوجوه الإعلامية المعارضة كالمؤتمرين في «سميراميس»، والكتّاب والمفكّرون وأسماؤهم التي تلمع اليوم، ومنهم الأحزاب التاريخية المعارضة التي انضوت تحت لواء هيئة تنسيق في بيان حسن عبد العظيم، المناضل والحزبي القديم الذي عادت لمعته اليوم. ومنهم من لم يلمع في العلن ولا يزال يعمل على أرضه.

لو كان هؤلاء بشار الأسد، فماذا كانوا ليفعلون؟

حسن عبد العظيم: بطل بين جمال عبد الناصر وفلسطين

يلاقيك بجريدة تحت إبطه أمام محطة الحجاز، و«يسايرك» في السياسة سيراً إلى مكتبه. كأنه معلم آخر من معالم الشارع القديم.. شرق محطة قطار تاريخية كانت تصل سوريا ببقية بلاد العرب، مبنى ستيني قديم، يحضن رئيس اتحاد الأحزاب المعارضة. تبدو ملامح إعادة الحياة إلى نضاله السياسي على هاتف مشغول وفناجين قهوة كثيرة. لا جرس لينادي لأحد ما ليخدمه كما في مكاتب البعثيين، بل فنجان يغسله بيديه مستخدماً مياه الشرب، وقهوة ساخنة في «ترمس» مناضل مثل صاحبه.. إلى يساره خريطة فلسطين قبل غزوة الصهاينة، وفوقه صورة للرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وبين يديه، هيكلية حزبية قديمة يعاد ضخ الدماء في شبابها مع كل تظاهرة، وأرض وإرث في حماه وسواها من الشارع الاحتجاجي يبنى عليه. وهيئة تنسيقية أعلن عنها مؤخراً. رأس الأحزاب المعارضة السورية الاشتراكي العربي يرفض التحاور مع أحد قبل وقف القتل.

«ماذا تفعل لو كنت بشار الأسد؟»

من خلف نظاراته، وبيد ترتجف قليلاً، بين هاتف مع برهان غليون للتنسيق في أمور هيئتهما الجديدة التي رفضت التحاور قبل وقف العنف، وآخر مع إعلامية سورية رفض مقابلتها، يباشر حسن عبد العظيم في مقابلته الخاصة:

لو كنت أنا بشار الأسد، لتوافرت لدي القناعة بعمق الأزمة الوطنية وعجز السلطة عن حلّها، وتصاعد الغضب الشعبي إلى حد المطالبة بإسقاط النظام بسبب استمرار الحلول الأمنية والتهرّب من حلول سياسية وعدم الاستجابة للمطالب. لو كنت بشار الأسد، لسارعت إلى معاقبة الذين هاجموا المتظاهرين السلميين بالنار والاعتقالات الواسعة… لاعتذرت للشعب وذوي الشهداء وأصدرت عفواً عاماً لكل المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي والمنفيين.

ومن ثم لعقدت مؤتمراً للحوار الوطني تحضره الأحزاب والقوى والشخصيات المعارضة وممثلون عن الانتفاضة الشعبية السلمية والشبابية، وذلك لوضع ميثاق وطني واختيار هيئة لوضع مشروع دستور لنظام برلماني وديموقراطي يؤسس لبناء دولة مدنية لا احتكار فيها لحزب أو جهة، ويتم فيها تغيير ديموقراطي شامل سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي… وانتخابات ديموقراطية شفافة، لا مثل الانتخابات الشكلية المعلّبة.

ولعملت على حلّ الجبهة وقيادة حزب البعث وإعادة بنائه بصورة ديموقراطية، وفصله عن السلطة، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وتحديد صلاحياتها. وفي الختام، لو كنت بشار الأسد، لواجهت بإقالة كل مسؤول حزبي أو امني يقف حجر عثرة في وجه التغيير الديموقراطي الشامل. وفي حال عجزت: أصارح الشعب وأستعد للتنحّي، أو اطرح الثقة بشخصي لاستفتاء شعبي تشرف عليه سلطة قضائية نزيهة ومنظمات حقوقية وطنية وعربية وعالمية.

ميشال كيلو: «حلقوا من جنبي»

حسم ميشال كيلو موقعه في «سميراميس»، مع دعمه لتوحيد جهود المعارضة والتنسيق مع الأحزاب. بين كتبه الكثيرة في منزله يتابع الحركة الإعلامية ونشاطه السياسي المتنامي. الرجل مثل رفاقه في مؤتمر المستقلين في «سميراميس»، ظاهرة إعلامية ومعتقل سياسي سجل نضاله في تاريخ سوريا المعاصر. يكتب ويتابع نبض الشارع الذي يعلي شأنه يومياً، ويرفع السقف. يريد إسقاط النظام ولكن بخطوات تدريجية، يريد للشارع الشبابي الذي نبذ المؤتمر بصفته «عرضة لاستغلال السلطة» أن يهدأ كي لا ينزلق في «سحر الكلمات الكبيرة». فهو دعا من قبل لتخلي الشارع عن حلم «إسقاط النظام في يوم وليلة» كما ناشد السلطة أن تتخلى عن القتل:

لو كنت بشار الأسد اليوم، لاعتبرت الحركة الشعبية الاحتجاجية بقيم الحرية والديموقراطية التي تحملها، وتحالفت معها. لأجريت إصلاحاً جذرياً في النظام يحوله من سلطوي امني إلى نظام يحمل سمات مجتمعية شعبية. أبني نظاماً انتقالياً. أقتنع بأن التغيير حتمي. أقول لمن حولي: «حلقوا إنتو يللي جنبي إذا كنتم ضد التغيير». أعلن شرعية أحزاب المعارضة ريثما يصدر قانون للأحزاب. أسمح بتشكيل وترخيص صحف حرة.

وهنا ينزلق كيلو في «الحالة الكردية» بعدما انزلق رفيقه من مؤتمر «سميراميس» لؤي حسين في موضوع السلام مع العدو إلى اعتبار فلسطين شأن الفلسطينيين. يطالب كيلو بثلاث صحف: «واحدة للمثقفين، وواحدة للأحزاب، وواحدة للأكراد» ثم يبرر عند السؤال عن اعتبار المواطنين السوريين الأكراد حالة خاصة… «الأكراد قالوا: طالما الأزمة قائمة نحن سوريون، وبعد أن تنتهي الأزمة نعود للمطالبة بحقوقنا كأكراد».

تيار «سوريا الغد»: قلنا له عام 2006 هذا الكلام

هناك شريحة سياسية أخرى لا تريد احتلال أي منبر أو التسويق لأسماء أي قيادات، ولا تبحث اليوم عن مساحة في امتلاك العناوين المتشابهة التي تطرحها المعارضة، والمتّفق عليها. شريحة مكونة من رجال اقتصاد وعمل اجتماعي لا يطمعون بحصة من المنبر السياسي الآني. «تكنوقراط علمانية» لم تلمع بعد لكنها تعمل على الأرض وبين المناطق وفي صفوف نخبوية متراوحة من رجال فكر وأدب وفن وأعمال ومناضلين خارجين من أحزابهم الجبهوية اليسارية والقومية.

هؤلاء يشبهون خطاب الشاعر أدونيس، ويشبهون رسالة يوسف الاشقر المفتوحة إلى الرئيس، ويشبهون تيار الأغلبية الصامتة. هم مجموعة «سوريا الغد» العلمانية التي ولدت عام 2002 ثم تعثرّت واليوم تستعيد بحثها عن الغد.

من اللاذقية إلى دمشق إلى درعا إلى السويداء إلى الرقة والحسكة ودير الزور وحماه وحمص… اجتمعوا في بيت دمشقي واحد، بطوائفهم المتنوعة تحت شعارهم المعلن «نريد دولة علمانية». في جلسة سمر مع حوالي عشرين من «سوريي الغد» في منزل حسان سلوم، المناضل السياسي الخمسيني، ينأى الشباب الذين دعوا إلى الحوار الوطني والتيار الثالث في العام 2005 عن الحديث في العناوين اليوم. هم ينصرفون في جلسة نقاش مفتوحة، بأوراقهم وأقلامهم للبحث عن التفاصيل المنتجة لدولتهم السورية الحديثة. ماذا لو كنتم أنتم بشار الأسد اليوم؟

يجيب الخبير الإعلامي رامي عمران: لشاركت الناس في الرؤى قبل ان أشاركهم في التفاصيل.

يرد الجراح حسان سلوم: لأعلنت شكل الانتقال إلى إنتاج الدولة الحديثة، ولحددت صراحةً عقد الشراكة مع كافة الأطياف السورية في إنتاج هذه الدولة.

من جانبه يهمس كاتب السيناريو نجيب نصير: الحياة المدنية هي نتاج فعل تنموي ثقافي وليست قراراً سياسياً يجمل الواقع من دون تغييره.

يضيف رجل الأعمال الحموي: لبنيت دولتي على إرث المؤسسات بدلاً من أن تتوجع المؤسسات تحت إرث النظام.

يجيب  الدرعاوي: لو كنت بشار الأسد لانقلبت على نظام بشار الأسد.

يختم ابن دير الزور بمعارضته الفاقعة عن رفاقه: بكل بساطة، لو كنت بشار الأسد، لقدت انقلاب الدولة على النظام.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى