صفحات العالم

اعتداء القاهرة: لماذا لم يستقل برهان غليون!؟


جهاد الزين

انطوى التصرف العنفي في القاهرة ضد رموز معارضة الداخل السوري العلمانية على بذرة فاشية قد تصبح في سوريا المستقبل مادة قمع انتقامية مخيفة.

كنت انتظر ان يستقيل الدكتور برهان غليون من رئاسة “المجلس الوطني” الانتقالي بعد حادثة الاعتداء على بعض رموز “معارضة الداخل” العلمانية السورية امام مقر الجامعة العربية في القاهرة منتصف الاسبوع المنصرم، ولا يكتفي ببيان شخصي يستنكره  طبعا وبلغة حاسمة. واذ نطرح هذا الموضوع بعد بضعة ايام على وقوعه فلأن قرار الجامعة العربية بتعليق عضوية الدولة السورية هو منعطف كبير وخطير من شأنه ان يضاعف مسؤوليات الجميع على كل المستويات ولا سيما المعارضة او المعارضات التي دخلت خلافاتها مرحلة فضائحية بعد اعتداء القاهرة، وان ظهر من الناحية السياسية الصرف ان “وظيفة” الاعتداء كانت دقيقة الهدف من حيث كسر “شرعية” هذا النوع من معارضة الداخل التي يمثلها المعتدى عليهم والذين باتت العملية العربية الدولية الضاغطة تنظر الى خطهم السياسي “الحواري” مع النظام السوري كعبء على مسار هذه العملية الداعمة لِـ”المجلس الوطني”.

لم تحدث استقالة برهان غليون ولم يقم حتى بالتهديد بها وهو الامر المفترض ان تَوقُّعَ حدوثِه توقعٌ منطقي حين يكون الشخص المعني هو برهان غليون، لا لأن المعتدى عليهم هم رفاق دربه النضالي في السنوات العشر الاخيرة منذ قيام “المنتديات” على الاقل، ثم “اعلان دمشق”، ولا لأن بعض هؤلاء من اصدقائه الذين يعرف – كما نعرف – التضحيات التي قدموها داخل وخارج سجون نظام الاستبداد، ولا لأن هذا الاعتداء المنظم من شأنه ان يشق مبكرا مناخا معارضا لا زال في طور التأسيس، بل لسبب يتجاوز كل هذه الاعتبارات الشخصية والعامة. انه ما ينطوي عليه هذا التصرف من بذرة فاشية قد تصبح في سوريا المستقبل مادة قمع انتقامية مخيفة خصوصا اذا مرت المرحلة الانتقالية بحرب أهلية واسعة لاحقا.

لم تقم الثورات في العالم العربي ضد اسرائيل وانما ضد الاستبداد الداخلي، ربما باستثناء مصر حيث ظهر نوع- شبه صامت في البداية ومعلن لاحقا – من العداء لاسرائيل ومرد ذلك الى ارتباط الاستبداد المصري في نظر نخب وادي النيل بشكل متفاقم من فقدان الكرامة الوطنية مثٌلته سياسة النظام السابق حيال اسرائيل. اما في تونس واليمن وسوريا فليس للاستهانة بالصراع العربي الاسرائيلي اي دور تحريضي لدى الجمهور المعترض في ما جرى. وفي سوريا تحديدا العكس صحيح في ما يتعلق بدور النظام الداعم لِـ”حزب الله” في الموضوع الاسرائيلي ولكن هذه مسألة تتعلق بالدول وليس بالجمهور الذي يريد حتما تغيير نمط استبدادي مُحكَم. هذا من دون الحديث عن ليبيا حيث جعل نظام العقيد القذافي الاستثنائي في قمعه وكاريكاتوريته بعض معارضي الخارج ثم الداخل لا يأبهون لمعنى تحول مثقف فرنسي متفاني التأييد لاسرائيل كبرنار هنري ليفي الى رمز دعم اساسي للثورة الليبية وهذا ما لا يمكن تصور قبوله في مصر ونأمل ان لا يتورط به مرة اخرى بعض “الاخوان المسلمين” السوريين في الخارج. (برنار ليفي في كتابه الجديد حول تجربته في ليبيا يقول انه طلب من الرئيس ساركوزي تدخلا عسكريا فرنسيا بدون تفويض من الامم المتحدة)! كل ذلك ولا ننسى التجربة العراقية التي جعلت بعض عناصر المعارضة العراقية في لندن يعتقدون ان وحشية نظام صدام حسين الاستثنائية وما كان يعتبر يومها بنظر المزاج العراقي العام “تواطؤاً عربيا معها” تتيحان بعد سقوطه عام2003 كسر محرمات العلاقة مع اسرائيل.

إذن الربيع العربي لم ينطلق ضد اسرائيل وانما ضد الاستبداد الداخلي. لهذا فان التساهل  غير جائز أمام اي “بذرة” استبدادية كتلك التي ظهرت بوضوح في القاهرة من طرف لا يزال يجري التكتم السياسي والاعلامي على هويته رغم ان شخصيات كبرهان غليون وميشال كيلو(الضحية ايضا في اعتداء القاهرة كـ”عميل للنظام”!!!!) وغيرهما يعرفون من رتب الامر بين معتصمين موجودين منذ اسابيع امام مقر الجامعة….

كان يجب ان يكون رد الفعل غير ملتبس على اعتداء القاهرة لما ينطوي عليه من صلة عميقة بسوريا المستقبل. ولن نقبل باي نوع من “الارهاب” الثقافوي والسياسي الذي يجعل الصمت او “تمرير” حدث القمع هذا باسم “البوليتيكل كورّكتنس” تواطؤا على مستقبل سوريا التعددية والديموقراطية بعد تغيير النظام ايا يكن شكل ومسار هذا التغيير… وبعض وجوهه الحرب الاهلية مما يزيد خطورة “البذرة” الفاشية التي نعرف نحن اللبنانيين كيف تولد في المواجهات الطائفية. وقد كان يكفي ان نسمع احد الغاضبين السوريين الواضح انه مقيم في الخارج يقول لاحد رموز المعارضة امام مقر الجامعة ويكرر بصوت عال: “بعد حمص لم يبق غير الدم”.

لكل هذا كان على  برهان غليون من موقعه المعنوي القيادي الآن ان يدفع رد فعله الى الاقصى وهو الاستقالة لأن الامر يتعلق بسوريانا المستقبل.وهو في هذا الموقع المعنوي لانه مثقف… وكل مثقف  بالتعريف “المهني” هو: محترف قضايا قيمية. لكن رد فعله على وضوحه في الادانة بدا وكأنه يصدر عن “سياسي محترف”.  صحيح انه من المستحيل ان يكون شخص مثله على علم مسبق بنية الاعتداء او يوافق على عمل كهذا، وهذا لا يحتاج الى اثبات، الا ان الجهة المدبرة استغلت الموقف للايهام بأن معارضة الخارج، وعلى رأسها المجلس الوطني، تريد معاقبة هذه الفئة ذات الحضور من معارضة الداخل. وهذا يضاعف ضرورات الردع المعنوي الحاسم من قبل برهان غليون وبعض الشخصيات في المجلس خصوصا اذا كان احد الاطراف داخله متورطا به؟

كاتب هذه السطور مثل عديدين يعتقدون ان حادثا كالذي نحن بصدده أخطر من أن يُعتبر عابرا وان الموقف منه يجب ان يكون صارما ولو كلف لدى البعض الاستقالة او بالحد الادنى التهديد العلني بها. وارجو ان لا “يخبرني” احد ان هناك مسائل اخرى اكثر اهمية يجب التركيز عليها فلماذا الوقوف عند هذا الموضوع!

القبول بهذا الرأي يعني ان تقع المعارضات السورية تحت ارهاب المنطق الذي رفضته طويلا والقائل: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. لقد دافعَتْ طويلا ايضا، وفي ظروف صعبة سابقة في لبنان، قلة من الشجعان عن معتقلي الرأي في سوريا واقطار عربية اخرى، وها هي الاقدار تطرح المسألة نفسها جوهريا – وهي حرية الرأي – بين اطراف المعارضة السورية في القاهرة، وياللمفارقة عبر قمع السجناء السابقين والناشطين السياسيين انفسهم.هذا من دون اية مساواة تعسفية على هذا الصعيد بين ارث الماضي مع النظام و”بذرة” الحاضر الفاشية التي ظهرت امام مقر الجامعة العربية. لكنها – للتكرار- بذرة خطرة جدا.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى