صفحات العالم

الآن ليس لدى العقيد من يكاتبه!


أمجد ناصر

هذا العنوان لرواية قصيرة جميلة لغابرييل غارسيا ماركيز. الروائي الكولومبي الكبير قلَّب العزلة بوجوهها الكئيبة في أكثر من عمل روائي له، أكثرها ذيوعا روايته “مائة عام من العزلة”.

عوالم أميركا اللاتينية التي ظلت تئن تحت ثقل مناخاتها الاستوائية وقسوة جنرالاتها، تشبه عوالمنا العربية، باستثناء أن بلداننا المبتلاة بضربين قاسيين من الجفاف: بيئي وسياسي، لا تعرف أمطار أميركا اللاتينية الاستوائية. وهذا، على الأغلب أكثر ضراوة، القسوة هنا حاف. صرف. لا تبلع.

فالطغاة، جنرالات الجيوش العربية المهزومة، جففوا تقريبا كل منابع الحياة وحولوا بلادهم إلى مزارع عائلية، وعندما أزفت ساعتهم تعهدوا في أشداقٍ يتطاير منها الزبد بمطاردة أشكال الحياة التي تنبعث من الرميم، زنقة زنقة هذا ما فعله القذافي. هذا أيضاً ما يفعله الآن بشار الأسد متّبعا سنة أبيه في مذهب “الصدمة والترويع”.

***

فمذهب الصدمة والترويع لم يخترعه جورج بوش الابن في غزوته الدموية للعراق، فقد فعل ذلك من قبل حافظ الأسد الذي حوَّل الدبابات إلى أدوات “تربية” و”تأديب” للعصاة الذين يطالبون بالحرية.

الآن، بعد أن ضاقت الدنيا بما اتسعت على “الأخ القائد” لم يعد له من يكاتبه، لم يعد له من يكلمه. لقد أضاع عقيد ليبيا كل الفرص لحقن الدماء، كان بإمكان “ملك ملوك أفريقيا” أن ينهي اثنين وأربعين عاماً من حكمه الذي تراوح بين قسوة مفرطة وكوميديا رثة بطريقة أفضل.

لكن الطاغية الذي رفع نفسه العصابية المهلوسة فوق شعبه، بل فوق البشر العاديين، لم يستطع أن “يهضم” فكرة أن عرشه الدموي تهدده “الجرذان”.

كيف لـ”جرذان” مذعورة أن تهزَّ عرشا صمد اثنين وأربعين عاما في وجه كل العواصف؟ نسي “الأخ القائد” القانون الأبدي، أن لكل شيء نهاية وأوانا، وأنَّ آخر الليل نهار، فلا بدَّ أن يأتي هذا النهار مهما تأخر. الآن جاء هذا النهار على غير ما توقع “الأخ القائد”. ويا للمفارقة، فمن يختبئ كـ”جرذ” في جحر مظلم، هو الذي نعت شعبه بـ”الجرذان”. من فرَّ هارباً تاركاً أبناءه وأنصاره وراءه، هو نفسه الذي قال إنه سيقاتل حتى آخر قطرة دم!

***

كل الدم الليبي الذي أريق ثائراً أم موالياً، كان بالإمكان تفاديه، على الأقل في الفترة الأخيرة التي سال فيها بغزارة، فقد كان واضحاً لكل ذي عين أن كفَّة الصراع (بل كفَّة التاريخ) ترجح في الاتجاه المعاكس لرغباته.

كثيرون نادوا بحل سياسي يحقن الدم ويسهل عملية الانتقال، لكن العقيد الذي جمع له المنتفعون من حكمه “جماهير” تصرخ بتوتر عصابي في “الساحة الخضراء”، وراقه أن يظل هناك منبر لخطبه المفككة البائسة لم ير النهاية وهي تقترب بأعلامها المرفرفة، من قلعته.

هذه النهاية كانت واضحة في صفحة التاريخ، لا حكم إلى الأبد. فليس ذلك الأبد الذي تصرخ به أبواق المنتفعين، المتسلقين، الكذابين، أبداً حقيقياً. إنه شبح الأبد، أو وهمه، لكن الطغاة يصدقونه لأن أنفسهم المريضة ممتلئة به. وهم الأبد في دواخلهم حتى وهي تهترئ، حتى وهي تمتثل كُرها لقانون الزوال.

هكذا لم يصدق عقيد ليبيا أن صفحة في تاريخ بلاده تكتب فعلا، وأن لليبيا يوماً سيأتي لن يكون جاثماً على صدرها. لقد ظن أن بالإمكان مراوغة القانون الحتمي: أن لكل شيء نهاية. وبدل أن يقلل خطاياه في حق شعبه زادها في إمعانه بإراقة الدم و”التصدي” للمؤامرة الأطلسية، ناسياً أنه هو من جلب “الأطلسي” إلى بلاده عندما هدد شعبه بالإبادة، عندما قصف مدنا بالصواريخ، عندما أرسل دباباته لـ”تأديب” بنغازي، عندما لم ير في شعبه سوى جرذان، أو في أفضل الأحوال، كلاب ضالة.

لم تعد تثير كليشيهات “المقاومة” و”الممانعة” الكاذبة (القناع المضلل للطغيان العائلي) ما يتوقع سدنة الاستبداد العربي أن تثيره عند شعوبهم. هذا ما يجب أن تفهمه عائلة الأسد أيضاً. يا له من افتراض مخجل وبائس أن تكون الوطنية والقومية والتحرر حكراً على هذه العائلات التي مصَّت دماء شعوبها.

***

سواء ألقي القبض على عقيد ليبيا اليوم أم غدا، سواء تمكن من الاختباء في جحره طويلا أم قصيرا، فإن صفحة جديدة تكتب الآن في ليبيا. هناك موجة عاتية لن يستطيع أن يصمد في وجهها طويلا، بل أستغرب أنه استطاع أن يصمد كل هذا الوقت لولا أن وراء أكمة “الأطلسي” ما وراءها.

سقوط نظام القذافي سيسمع صداه سريعا في أكثر من بلد عربي تقاوم فيه العائلاتُ المستبدة الحاكمة إرادةَ الشعوب واتجاه حركة التاريخ، ولا بدَّ أن ارتدادات سقوط نظام القذافي قد سُمعت بقوة في دمشق وصنعاء وغيرهما من العواصم التي تكابد أنظمتها العائلية للبقاء على قيد الحكم.

من المؤكد أن أكثر المتطيرين مما حصل لنظام عائلة القذافي هي عائلة الأسد، وبالمقارنة مع عائلة الأسد تبدو العائلة القذافية تحبو في بلاط الاستبداد والدموية.

ومع أن الاستبداد من طينة واحدة فإن استبداد العائلة الأسدية أشد فتكاً، فهو يتخفى وراء شعارات براقة هجرها العقيد الليبي منذ أمد بعيد. فالقذافي لم يكن يدعي في مرحلة انحطاطه الأخيرة، تصديه لإسرائيل والإمبريالية، تلك مزاعم لم يعد يرتكبها. من يفعل ذلك بصلافة هو بشار الأسد وعصبته العائلية الحاكمة، ووراء مثل هذا الشعار يهون القتل ويُبرر دك المدن بالدبابات ويسهل تحويل المدارس والملاعب إلى سجون جماعية.

لا أدري إن كانت أمام بشار الأسد فرصة لتدارك مصيره المحتوم، على الأغلب لا وجود لمثل هذه الفرصة، فحبل كذب النظام على الجرار. الدبابات تتنقل من مدينة إلى مدينة، والشبيحة يسرحون كقطعان سائبة في الشوارع والأحياء.

لكن كل ذلك لم يفتّ في عضد المنتفضين السوريين، بالعكس فكلما تحركت دبابات بشار الأسد أكثر ارتفع منسوب غضب السوريين وضاق الحبل الذي يُلف الآن على عنق النظام.

القذافي هو ثالث حاكم عربي يسقط بعد زين العابدين ومبارك، فمن يكون الرابع: بشار الأسد أم علي عبد الله صالح؟

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى