صفحات الثقافةهالا محمد

الأثر/ هالا محمد

 صار جزءاً من يومياتنا مختلطاً بالحياة، وقد نزعم أحياناً أننا اعتدناه، أننا لا نهابه: الموتْ.

كنا نتحدّث عنه في موسمه، حين القطافْ. حين كان حنوناً، ضمن إيقاعه الكونيّ العادلْ، موسيقى عالميّة للغيابْ. مساواة في الرّحيل. طقس الغياب والعيش المشترك في الحزن المشترك. عراقة الحنان في التّراثْ الشّعبي المحكي والمكتوب والمعاش. طباع الوداع. وطباع العيش في طبائع الشعب المحبّ للحرية والكرامة والعدالة والحياة.

التضامن في طقوس الوداع، فلسفة تأهيل العودة إلى الحياة والاحتماء بالآخر الظلّ والمدى. البكاء على كتف الوقت والضحك من شدّة الصّدمة، ومن شدّة السعادة باللقاء في الحياة مع الحياة من جديد. تصير روح الغائب أمانة لدى الأحباب. يتوزّع الأثر على الجميع، لفحة العطر تلك أو الحنان. يزيدنا الموت تواضعاً ويمنحنا في أعماقنا ملكة الانتباه التي توازن دورة النهار. ويضيف إلى العادات زيارة جديدة باتجاه التربة. للوقوف وجهاً لوجه مع الترابْ. الصّدمة المستمرّة التي لا نجرؤ على مواجهة الذات بها إلا في المناسبات والأعياد. هذا ما تبقّى، هذا ما سيبقى،  كلّ هذه القسوة تقابلها حياة صاخبة سعيدة جميلة منفتحة على الأملْ، محكومة بالنسيان المؤقّت الذي يطول مدى العمر تقديساً للحياة ذاتها ولدور الإنسان في عبوره على الأرض، والأثر الذي سيترك. الإيمان بالأثر هو جزء من حماية العيش وتوريطه كلّ لحظة بالعيش أكثر. لا يمكن أن يقابل عنف الفقد المفاجئ وصمت التّراب، سوى فلسفة اجتماعية صاغتها الإنسانية تمجّد الحياة واللهو والأفراح، والمشترك من الانتباه، والمستقلّ عن المُشتركْ منه، الأثر الفردي الذي ينتمي إلى حركة التاريخْ.

صاغت الإنسانية الفنون، كنوع من فلسفة البحث عن المعنى، عن الجَمالْ، عن المتعة والفائدة، الاحتيال على الزّمن بزمن آخر ينضوي في قلبه ويستقلّ عنه ويورّطه في التمهّل من أجل الانتباه إليه، يورّطه في الصدى: الأثرْ.

كان الرحيل الفرديّ يتدلّلُ في زمن الغيابْ. وكنا نفرد له سجادة الوقت، صلاة الأحزانْ. يرحل الغائب من بيته على مهل على الطريق إلى المقبرة المنثورة بالضوء. تبقى عاداته في البيت، ملكاً له كأنه لا يزال، يشارك في كلّ المواعيد وكلّ وجبات الطعام والسّهر. يستقبل الزّوار، ويغلق الباب على ذكراه في الداخل ويقفل الباب بالمفتاح.

 المواطنة المتساوية العالميّة في الموتْ. كنّا حقّقناها، وكنّا ملوك طقوس العدالة في الأحزانْ. وبقي أن نحقّق رهاننا في المواطنة المتساوية في الحياةْ.

من سرق موتنا من تحت مخدّاتنا، من تحت أقدامنا، من الشوارع، من حوادث الغرقْ، من الصّدفة، من الأمراض المستحيلة، من ربيع العمر، من انتحار العشّاقْ، من الانتظار. من الانتباه، من الفنون، من الفرح، من حقّ الموت الطبيعي. من انتهك طقوس الموت فأنهك الحياةْ! هذا الموت مجزرة مجزرة ليس موتنا، ليس هو الموت. هذا هو الظّلمْ. هذا هو العمى، هذه هي النهاية.

 من سجّل هذا الموت الجماعي باسمهِ! نحن الذين بلا أسمائنا رحلنا في المجزرة. تركنا أسماءنا في البيت قرب كأس الشاي الساخنْ.

من تحكّم في ديموغرافيا الموتْ! من أزاح تربة الحياةْ! أزاح الرحيل من موقعه في شيخوخة العمر، وتوغّل في الشباب. موت طاغٍ مستبدّ ظالم، بلا ضفاف، بلا رحمة، بلا عدالة، بلا سخرية، بلا خيال، من أراد موتنا بلا أثر، أثرنا: صدى الثورة.

 هذا الموت الجماعي! ترك على الخنادق الطويلة، قرب مصبات أنهار الدّمْ  بصمة القتلة: طغاة الأبدْ. وطغاة العمل تحت إمرة الله.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى