صفحات سورية

الأحجية العددية في الثورة السورية

 


عماد دلا

عندما تنغلق الآفاق و يغدو الوطن سجنا كبيرا موصدا بصخب الشعارات وبالدم , وسجونه زنازين باردة محشورة بالموت وملطخة ببقايانا ,عندها لن ينجيك من العدم إلا وهم الأمل و دفء الرغبة الماكرة , هي تلك ,هي الرغبة من يشدنا للجنون , هي من يخدعنا بالممكن حيث المستحيل .

 

هي الرغبة إذا , رغبة المثقفين والناشطين السوريين , رغبة ممزوجة بالأمل , الأمل بأن تتحول معشوقتهم سوريا من مملكة للصمت وسجن عصي على النور إلى مملكة للاغاني وفضاء للشمس

هي الرغبة ليس إلا , فلا الشعارات التي تطرش على الجدران القبيحة لتقول بأنه الأمل , ولا خطابات الشفافية و زحلقة الكلام ولا القسم , ولا الوعود ولا حتى الحلفان المعظم كان كافيا ليصنع زهرة في ذاك – هذا – الجحيم

هي الرغبة من صنع ذاك الربيع الموسمي القصير , هي من أوهمت حتى المفكرين بإمكانية صنع ربيع في جحيم هذا اليباب

لم يستمر ما سمّي لاحقا بربيع دمشق أكثر من ستة أشهر , بعدها أغلقت كل المنتديات وبدأت حملة اعتقالات محمومة للمثقفين والنشطاء , وما كان بوسعنا نحن الذين لم نعتقل إلا أن نقف بجانب إخواننا المعتقلين – بالبيانات والحملات والاستنكار … و طبعا بالوقوف الفعلي على أقدامنا أمام محكمة أمن الدولة , حيث أحيل معظمهم إلى هذه المحكمة !!! وبتهم جاهزة تصلح للجميع وأشهرها ” وهن نفسية الأمة ” _ هذه التهمة التي تنطوي على كم هائل من الاستخفاف والتقليل من شأن الأمة , فبالتأكيد ليست الغاية منها تعظيم المعتقل ” المتهم ” , تصوروا أمة يوهنها شخص , أي أمة تلك التي يوهنها فرد ؟؟!!! …. بالتأكيد هذا الاستخفاف لم يكن أداء ناشزا ولا هفوة مشرع , إنما جاء ضمن السياق الطبيعي الذي انتهجه النظام منذ نشأته في تصغير الأمة والاستخفاف بها و اختزال الوطن واستعباده , ليكون ممكنا أن يكون فلان قائد الأمة و أملها وباني الوطن وسيده …. وفي معادلة العبد والسيد هذه يكون الوطن عبدا , و نكون نحن أبناؤه عبيدا بالأصالة , لا بالبيع ولا بالأسر ……….. وهكذا يمكننا أن نفهم قول أحد أعضاء مجلس الشكر السوري ” إن الوطن صغير عليك يا سيدي الرئيس ” .

لنعد لذكرى ما كنا نسميه في تلك الأيام ” اعتصام ” أمام محكمة امن الدولة الطارئة – وطارئة صفة لكل ما قبلها , فالمحكمة طارئة و الأمن طارئ والدولة طارئة وكل حياتنا طوارئ بطوارئ – أعدادنا كانت تقدر غالبا بالعشرات , و أحيانا إذا تكرمت قيادة التجمع الوطني الديمقراطي و أوعزت لكوادرها بالاحتشاد تضامنا مع أحد المعتقلين نصبح بالمئات ….. لكن في جميع الأحوال كنت أرى أن هذه الاعتصامات خجولة , ومخجلة أيضا …… تصوروا عشرات المعتصمين فقط ,في محاكمة مناضل من عيار رياض الترك مثلا

العقل الرياضي الحاد الذي لا يعترف إلا بالقوانين والعلم والأرقام , والمنطق الصارم الذي يتلبسني منذ أبجديتي لم يتركا لي ولا حتى شعاع أمل , ففي كل اعتصام كنت أحصي عناصر الأمن في المكان فيتجاوز عددهم عددنا نحن المعتصمين , فأبتلع الخيبة أو تبتلعني لا أدري ! , استشعر نبض الناس في الشوارع والمقاهي والمواقف والساحات وأطبق قواعدي الرياضية وفزلكاتي الإحصائية فأجد أن عدد المعتصمين بالملايين , لكنهم معتصمون افتراضيون , و أتوه في هذا اللغز الرقمي الاجتماعي المؤرق و أقتنع بأن هذه الأحجية العددية السهلة الممتنعة لن تحل بدعوتي ولا بدعوة التجمع الوطني الديمقراطي ولا بغيره , هذه الملايين وهذه الطاقة الكامنة الجبارة لا تحتاج دعوة لتحريرها , تحتاج فكرة عبقرية خلاقة تقنعهم جميعا أو حدث يشعلهم …… وكل هذا الكلام عن التراكم الكمي والتغير النوعي وتنضد الآثار والاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع والعولمة والفيزياء الكوانتية ” تقنية النانو لم تكن مكتشفة بعد ” وسيكولوجيا الإنسان المقهور المصهور المعصور المغدور المفقور , لن تجدي نفعا …. وفقط كنت مقتنعا بنظرية الطاقة البشرية وضرورة عدم بث أي طاقة سلبية لمحيطي الاجتماعي الاعتصامي الاحتجاجي المعارض ,وعليه عملت بالحكمة التي تقول ” إذا لم تكن متفائلا فلا تحبط الآخرين ”

بعضنا كان يقطع مئات الأميال لحضور الاعتصام , يقطع كل هذه الأميال ويقتطع من ميزانيته الشهرية ومن لقمة أطفاله أجور السفر , هذا إذا كان بالأساس لديه ميزانية … فمعظم المعتصمين إما معتقلين سابقين ومحرومين من حقوقهم المدنية أو محرومون ومسرحون من وظائفهم … وجميعنا مشرّفون , مطرودون من لعنة النظام إلى رحمة الله تعالى . – تلك الرحمة التي تتأخر أحيانا –

تبرم الأمهات – حقا – لم يكن خوفا فقط , كان منطقا وحكمة يصنعها الكبر – إلا عند السياسيين !!! – , خوفا وحكمة تقول كفوا عن هذا العبث …. لكننا مغرمون بهذا العبث النبيل يا أمي , مغرمون بلعبة الاحتيال على الرغبة …. مغرمون بشعور الامتلاء والحرية, مغرمون بنشوة الرفض ,مغرمون بأن نصنع بسمة على شفاه مناضل وهو يلوح لنا من قفص الكرامة , مغرمون بأن نصنع من اعتصامنا المتواضع أمل في تحقيق الرغبة

أحد أصدقائي المقتنعين أو لنقل الراغبين كان يقول دائما ,علينا أن لا ننتظر نتائج في الأمد المنظور … نحن ننحت بالصخر

أي نحت عبثي هذا الذي لن نقدر من خلاله حتى صنع وشم للحرية , كم جيل سننتظر وكم ألف عام ستمر … وعندما تتحرر هذه الطاقة الكامنة وتفجر براكين الحرية المحبوسة , هل سيكون هناك دور أو سيبقى اثر لهذا النحت الخجول

لا بأس لننحت يا صديقي , علّنا نصنع نقطة في وشم على جبين هذا الخراب ….. كنت أقول ذلك و داخلي مسكون بالأرق , أين هي تلك الفكرة العبقرية التي ستفجر براكين الحرية الكامنة

أخيرا , أخيرا جاءنا المخلّص , جاءنا بائع الخضار المصفوع ليفجر براكين الحرية , لم يبتكر فكرة من باطن تلافيف الدماغ ولم يكتشف سرا في نصوص الإله , فقط أشعل النور في فكرة قديمة قدم الخلق ,إذ أخبرنا ماذا تعني الحياة ….داس بقدمه علم التكاثر والأنواع وعلوم الحياة ….. وأنشد مفهوم الحياة نارا وقصيدة ………… البوعزيزي ” أبو العزة ” هو من يقف المثل القائل ” ول كل من اسمه نصيب ” مسربل بالخجل عند قدميه وكذا باقي الأمثال , هو من قلب المثل ليغدو ” وللعزة مني نصيب ” وكذا قلب الطغيان …. أبو العزة ,عاشق الحياة هذا, لا يساوم بالعشق, فقالها كصاعقة في قدر نحاس , الحياة أن تحيا حرا كريما ….. وإلا فنار جحيم المنتحرين نعيم , قالها وأشعل من روحه المحترقة جسد من طين

لكن تونس تختلف عن سوريا , كالاختلاف بين الصفع وبين دوس الرؤوس بالأحذية …. سوريا تختلف عن تونس وتختلف عمن بينهما في سلم القمع والقتل والإجرام … القذافي بكل قصفه وقذفه يقع في منتصف الطريق بين النظام السوري ونظام بن علي الهارب – مشكورا – لا تستغربوا , فنحن السوريون من هول ما عندنا لا نملك مع شخص ك “بن علي هرب “إلا الشكر

ولإيضاح هول ما لدينا سأعرض بعض الأرقام للتوضيح فقط ,وهي معروضة فقط للذين يدّعون العلم والمعرفة بعلم الإحصاء والبيانات الرقمية , وليست ردا على إعلام النظام وأبواقه النابحة , فهذه الأبواق اقل من مستوى الرد , والرد عليها شرف لا يستحقونه ومضيعة لوقت ثمين مندور للحرية , كما أن الرد على هذه الأبواق المخزية لا يحتاج دراسة ولا بحثا , لأن ما ينبحون به ليس إلا منتهى الوقاحة في لانهايات الكذب …… – كذب يستفز حتى الحجر فكيف بنا نحن البشر – مثلا ينبحون بأن المتظاهرين بالعشرات , والمقصود بالعشرات هو المجموع الكلي للمتظاهرين والمغرر بهم والسلفيون والمندسون و المتسللون والعصابات المسلحة والطلائع الثورية والأجانب والمفبركين والمصورين ….. كلهم مع بعضهم ,فقط عشرااااات !!! وبنفس الوقت لدينا أكثر من ألف شهيد وأكثر من 10 ألاف معتقل …. إذا قدمت هذه الأرقام لأي طفل في سياق عملية حسابية سيقول لك … ما بيصير يا كذاب أنت أستاذ بالكذب مو أستاذ بالحساب

المهم لن ادخل في زواريب الرد على أكاذيب هذه الأبواق النابحة عملا بنصيحة جدي رحمه الله والتي سأذيل بها مقاليّ هذا , وسأبدأ بعرض النتائج التي أوصلتنا لها الدراسة ,ولكم أن تحكموا وفق هذه الأرقام والنسب والمعدلات والحقائق المذهلة .

–                     بالعودة لتاريخ العمل الفدائي في العالم تبين و بالأرقام الموثقة أن احتمال عودة الفدائي سالما بعد تنفيذ العملية الفدائية أكبر بكثير من احتمال عودة المتظاهر السوري السلمي سالما بعد التظاهر ….. وعليه فكل متظاهر سوري هو فدائي

–                     بالعودة لتاريخ الثورات وبالدراسة الإحصائية , تبين أن نسبة الفدائيين – في أكثر الثورات تبنيا لمفهوم العمل الفدائي- لا تتجاوز 1 بالألف من عدد الثوار الإجمالي …

–                     بلغ عدد شهداء ثورة الحرية والكرامة وفق إحصائيات أولية 1000 شهيد منذ انطلاقها قبل شهرين , و ربما تكشف الأيام القادمة هول الأرقام الحقيقة للشهداء , ومع ذلك و وفق هذا الرقم الموثق يكون معدل الاستشهاد هو شهيد كل ساعة

–                     عدد المعتقلين من أحرار ثورة الحرية والكرامة تجاوز ال 10 آلاف معتقل في معتقلات العصابة المجرمة أي بمعدل معتقل كل 6 دقائق تقريبا …. هذه الأرقام المرعبة الصادمة المؤلمة لم أجد في بحثي ما يدانيها في التاريخ .ولا حتى في معتقلات الفاشية و المعتقلات النازية .

هكذا تبدو الأمور واضحة والأحجية العددية في الثورة السورية قد حلّت و تفسر على النحو التالي , المظاهرة المكونة من ألف شخص لا تعبر عن ألف متظاهر بل تعبر عن مليون متظاهر وهؤلاء الألف هم النخبة الفدائية …. وما يسمى بأغلبية صامتة في سوريا هم في الحقيقة اغلبيه ثائرة… نعم أغلبية ثائرة , فالمفاهيم في سوريا مختلفة عن كل مفاهيم الكون واستثنائية بتطرف ومفرطة في الإدهاش … يكفي أن تصمت لتصنّف كمعارض مشكوك في نواياه ويتطلب مراقبته ومتابعة حركاته وحتى أحلامه ….. تصورا, حتى أبواق النظام المنافقة ومهما كانت قيمة خدماتهم السابقة وحجمها فبمجرد انخفضت درجة نبحها عن 20,000 هرتز ( وهو الحد الأعلى للترددات التي يمكن للإذن البشرية سماعها – الأذن البشرية تلتقط الأصوات المحصور ترددها بين 20 و 20000 هرتز ) يتم طردها فورا من نعيم العبودية المشتهى على أطراف موائد اللصوص ,” ولكم في سميرة المسالمة خير دليل ” , وقد نجد في قصص الطرد العجائبية هذه تفسيرا لهذا السباق النبحي المحموم على شاشات التلفزة , سيما وأن أسيادهم – ورغم كل هذا الجهد الصوتي المقرف ترددا ومضمونا – أعلنوا عن سوء أدائهم عندما استعانوا بالخارج واستوردوا أبواق نابحة مشحوذة بخبرات دولية في النبح الهستيري , ومنهم ناصر قنديل الذي نبح كثيرا على الفضائيات إلا أن الشعب السوري لم يسمعه , فجهله العلمي والمعرفي المشهود له ولأسياده به , جعله يتمادى في نبحه الهستيري فتجاوز حد التردد الأقصى الذي يسمعه البشر , أما أنا ولأسباب بحثية بحته فقد قمت باستخدام مرشحات صوتية خاصة لسماعه ,وتبين لي أنه لم يكتف بمهمة النبح الهستيري المكلف بها , بل أضاف من عنده ومن خارج نص عقد النبح المبرم بينه وبين النظام , تبرعا ,أضاف رسالة موجهة للسيد الرئيس عبر الشاشات يخبره فيها ماذا يريد الشعب السوري ….أي تعدّ سافر وقذر هذا و أي قباحة هذه وأي وقاحة ….من أنت ؟ من أنت حتى تتحدث بإسمنا ؟؟؟ أنت مجرد عبد لا يقدر حتى على تمثيل نفسه …. انبح كما يحلو لك ,لكن الشعب السوري الحر كشقيقه اللبناني لن ينسى هذه الإساءات وهذه القذارة , ولن تفيدك كل الوعود بطيب الإقامة في قم أو شيراز أو حتى أصفهان .

أخيرا , ومن باب تعميم الفائدة ولو بنصيحة محقة , أعرض نصيحة جدي رحمه الله , ففي أيام الصبا وفور إغلاق المدارس أبوابها , كنت أنطلق من سجون الطلائع إلى عمل المزارع , فأذهب إلى مزرعة جدي , وهي واحدة من مزارع كثيرة مستلقية في تلك السهول الخصبة المليئة بالخضرة والخير ( أو لنقل كانت كذلك ) ففي ظل سياسة التخريب الممنهج لم يبق فيها إلا الغبار وبعض الأشجار المتناثرة التي لا تعدو عن كونها مظلة يتظلل بها هواة الصيد محترفي الانتظار ,فليس هناك ما يصطادونه إلا بعض الطيور المهاجرة التي ضلت طريقها ” أي طيور غبية تلك التي ستقطن سجن من يباب “.

وللعلم ,فمزارع تلك الأيام لا تشترك مع مزارع لصوص اليوم إلا في الاسم , فهي ليست مزارع للسيران فقط ولا مزارع ل اللهو والرشوة وعقد الصفقات المرذولة , هي مزارع للعمل والإنتاج بقدر ما هي مزارع ل اللعب والركض و احتضان الطبيعة …. يومها لم يكن لتلك المزارع المترامية أسوار ولا جدران , فلكل مزرعة كلابها الشرسة التي تحميها من الوحوش واللصوص على حد سواء … ولتجنب خطر مهاجمتها لي عند تنقلي بين المزارع نصحني جدي بأن لا أدير لها ظهري وبأن لا أعيرها أي اهتمام , باختصار قال لي لا تكترث إلى كل هذا النباح و امضي إلى حيث تريد , وهذه النصيحة نفسها تصح وتجدي مع نابحي الشاشات …وأنا آسف جدا لهذا التشبيه وأعتذر عن هذه الإساءة … أعتذر لكلاب المزارع طبعا , أعتذر لما لحقها من تحقير بهذا التشبيه , فالفروق واضحة وجلية بين الصنفين , فكلاب المزارع لا تباع ولا تشرى , كلاب وفية ومهما أغريتها باللحم وبالإناث فهي كالحمام الزاجل تعود في أول فرصة سانحة إلى مزرعتها , فمزرعتها وطنها ولا ترضى بغيره وطن بديل , أمّا نابحوا الشاشات فلا وطن لهم وتجدهم دائما حيث تكون الولائم بانتظار ما يرمى لهم من أسيادهم أو ما يسقط من فتات من على أطراف الموائد ,كلاب المزارع تنبح دفاعا وحماية لحقها المصان في قمحنا وقطعاننا , نابحوا الشاشات ينبحون استجداء وتذللا , كلاب المزارع تنبح وتموت دفاعا قبل أن يطأ وحش أو لص أرضنا , نابحوا الشاشات يفرون – وسترونهم قريبا – قبل أن ينهض أسيادهم اللصوص للفرار .. لهذا وجب علي الاعتذار .

انتهى

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى