صفحات العالم

الأزمة السورية تدخل طريق اللاعودة‏!‏

 


مكرم محمد أحمد

انفلت العنف من عقاله‏,‏ ودخلت الازمة السورية طريق اللاعودة بعد ان تصاعدت موجة الاحتجاجات لتشمل غالبية المدن السورية‏,‏ ابتداء من درعا في اقصي الجنوب التي تواجه مخاطر مذبحة كبري‏,‏ بعد ان دخلت قوات الجيش السوري المدينة يقودها ماهر الأسد شقيق الرئيس بشار‏,‏ يتقدمها زحف الدبابات تطلق نيرانها العشوائية في الشوارع‏,‏ إلي

مدينة جبلة الساحلية في الشمال قريبا من ميناء بانياس التي تعرضت هي الأخري لهجوم قوات الجيش السوري الخاصة سقط خلالها أكثر من13 شهيدا, وما بين درعا في اقصي الجنوب وجبله في اقصي الشمال تعرضت قري دوما وداريا قريبا من العاصمة دمشق, كما تعرضت مدن حمص وحماة إلي عمليات تأديب قاسية ليرتفع عدد قتلي الانتفاضة السورية إلي مايربو علي450 شهيدا, إضافة إلي عشرات المفقودين, بينما جاوزت اعداد المعتقلين نطاق الآلاف.

ولأن السوريين كسروا حاجز الخوف والصمت, اتسع نطاق المشاركة في الاحتجاجات ليشمل اتحاد الكتاب الذي ادان في اول بيان له العنف الفظ الذي تمارسه قوات الأمن السورية وندد بعمليات القمع والقتل العشوائي للمتظاهرين, ودعا إلي احترام حق الشعب في التظاهر السلمي مطالبا بالوقف الفوري لعمليات قتل المتظاهرين.. ولان الاستقطاب بلغ اشده في سوريا, قلت فرض الوصول إلي تسوية رشيدة تكسر دوامة العنف المتصاعد, لم يعد امام المحتجين سوي مواصلة موجة المتظاهرات, يكرسون جهودهم بعد نهاية تظاهرات يوم الجمعة للإعداد لتظاهرات الجمعة المقبل, بينما يتسع نطاق تدخل القوات المسلحة ليشمل مدن درعا وجبلة وبانياس ودوما, تؤكد تصميم النظام السوري سحق الانتفاضة مهما تكن النتائج اعتمادا علي قيادات الجيش التي ينتمي معظمها إلي اسرة الرئيس بشار.

وتعكس الصورة في مدينة درعا قمة الازمة حيث يصر النظام السوري علي عقاب المدينة بصورة تجعل منها امثولة لكل المدن السورية رغم ارتفاع عدد شهداء درعا الذي تجاوز الآن70 شهيدا, وترابط قوات الجيش في شوارع المدينة بعد عمليات تمشيط وتفتيش واسعة شملت كل الأحياء وكل الدور, بينما يعتلي القناصة منارات المساجد والمباني العالية, يطلقون النار بغزارة علي أي شيء يتحرك في الشوارع المحيطة, ويستهدفون خزانات المياه فوق العمائر ليحرموا سكان المدينة من مياه الشرب, ويمنعون سيارات الإسعاف من الوصول إلي مواقع الجرحي لنقل المصابين أو إسعافهم, وتتحرك قوات الشباب وراء المدرعات في دوريات منتظمة تجوب المدينة, وتحاصر الشباب الذي يتجمع داخل المسجد العمري وسط درعا الذي تحول إلي ملاذ ومستشفي لإسعاف الجرحي في الوقت الذي انقطعت فيه كل الاتصالات عن المدينة بما في ذلك شبكة الإنترنت والمحمول.

وماحدث في درعا تكرر هذا الأسبوع في مدن جبلة وبانياس ودوما, لكن ثمة مخاوف متصاعدة من ان يكرر الرئيس بشار في درعا مافعله والده الرئيس حافظ الأسد في مدينة حماة عام1982, عندما دمرت المدرعات السورية احياء المدينة علي سكانها في عملية عسكرية استهدفت تفويض انتفاضة جماعة الإخوان المسلمين ليصل عدد القتلي إلي أكثر من20 ألف دفنوا جميعا تحت الانقاض, ومنذ هذا التاريخ يسود سوريا حالة من الهدوء الممزوج بالخوف العميق من قسوة ردود افعال النظام السوري.

وبرغم ان درعا تعيش هذا الهاجس بقوة الآن, إلي حد ارتفاع بعض الاصوات داخل المدينة المحاصرة طلبا لعون خارجي يوقف شطط القسوة التي تمارسها قوات الأمن السورية, لايبدو ان الظروف الراهنة مواتية لكي يكرر الرئيس بشار ماحدث في حماة عام1982, علي امل ان يؤدي درع مدينة درعا إلي فرض الهدوء علي جميع المدن السورية, لأن ماحدث في حماة في عهد الرئيس حافظ الأسد ظل محتجزا عن العالم اجمع لفترة طويلة, لكن الامر اختلف الآن في عصر السموات المفتوحة الذي يسمح بتدفق الصور وافلام الفيديو وشهادات شهود العيان في التو واللحظة عبر اجهزة المحمول إلي كل بقاع العالم.

والأمر المؤكد انه بات من المشكوك فيه ان تفلح عمليات القمع مهما تكن قوتها في اسكات اصوات الجماهير المطالبة بالحرية بعد ان كسرت حواجز الخوف والصمت, واكتشفت ان القوة الكامنة داخلها اقوي وأكبر من قدرة الانظمة علي الردع, وتكاد تخلص القاعدة الجديدة التي اظهرتها انتفاضة الديمقراطية في عدد من البلاد العربية في حقيقة واضحة, مفادها انه كلما زادت عمليات القمع وزاد عدد الشهداء, تزداد الثورة اشتعالا ويرتفع سقف مطالبها ويزداد المحتجون إصرارا لأنهم يكتشفون مكامن قوتهم غير المحدودة, وهذا ماحدث بالفعل في ميدان التحرير في القاهرة علي امتداد انتفاضة استمرت18 يوما انتهت بالإصرار علي مطالبهم بضرورة اسقاط النظام, وهو مايحدث الآن في اليمن وليبيا حيث يزداد الثوار اصرارا علي مطالبهم مع زيادة عدد الشهداء كل يوم, ويرتفع سقف المطالب في البلدين إلي حدود رفض الخروج الآمن لأي من الرئيسين الليبي واليمني والاصرار علي ضرورة محاكمتها.

ومع الأسف, لايبدو ان الرئيس بشار قد استوعب الدرس, حتي بعد ان خرج من حالة الانكار التي لازمته طويلا, وجعلته يصر قبل اسبوعين فقط من بدء الانتفاضة السورية, علي ان سوريا تمثل حالة مختلفة تماما عما جري في تونس ومصر, لانه في تونس ومصر, كما قال لصحيفةوول أستريت جورنال, كان هناك ركود سياسي ثقيل في البلدين ادي إلي نوع من العفن لتلوث الجسد السياسي للبلدين, اما في سوريا فالوضع جد مختلف لانخراطها في مقاومة مخططات التحالف الإسرائيلي ـ الأمريكي الذي جعل الجماهير السورية تتوحد مع نظام الحكم ولاتفكر في الخروج عليه!

لكن الانتفاضة السورية جاءت في موعدها علي غير ماقدر الرئيس بشار, وبرغم ان نسبة كبيرة من السوريين كانوا ينتظرون من الرئيس بشار ان يستجب لمطالب شعبه ويبدأ عملية إصلاح سياسي جاد, وعد بها أكثر من مرة لكنه اخلف كل وعوده, ولم يستجب لمطالب الشارع السوري, وبرغم انه تأخر طويلا ظلت الفرصة سانحة امامه حتي وقت قريب, واظن ان هذا ماكانت تأمل فيه أيضا معظم القوي الإقليمية خاصة تركيا, ومعظم القوي العالمية بمن في ذلك الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي, رغم العلاقات القوية التي تربط بين طهران ودمشق, لان القوي الغربية لم تكن علي استعداد لأن تتحمل تبعات تدخل جديد في الشأن العربي بعد فرض الحظر الجوي علي ليبيا وتدخل طائرات حلف الناتو لقصف قوات العقيد القذافي فضلا عن خشيتها من وقوع أي تغيير في سياسات سوريا تجاه إسرائيل, لكن الرئيس بشار الاسد لم يحسن استثمار هذه الفرصة المتاحة ورضخ لمطالب حزبه وجماعته الاقرب, واساء قراءة مايحدث في العالم العربي, وضللته تقارير اجهزته الامنية التي اكدت له ان الوضع في سوريا يختلف تماما عن مصر وان ماحدث في تونس ومصر غير قابل للحدوث في سوريا, واعتمد في النهاية برنامجا بطيئا متواضعا للاصلاح يعمل بالقطارة, صحيح ان رفع حالة الطوارئ وألغي محاكم امن الدولة العليا.. واعاد الجنسية السورية إلي الآلاف من الاكراد الذين حرموا منها, وأنشأ قانونا جديدا يسمح بالتظاهر شريطة موافقة وزير الداخلية, لكنه ضرب كل هذه الاصلاحات في مقتل عندما سمح لقوات الأمن والجيش ان تطلق النار علي الجماهير في عدد من المدن السورية صباح اليوم التالي لصدور هذه القرارات, الامر الذي اضعف مصداقيته وزاد من شكوك الثوار في صدق نياته خاصة ان خطوات الاصلاح اهملت تماما مطالب جوهرية للجماهير, في مقدمتهاالافراج عن آلاف المعتقلين والمساعدة علي دمجهم في المجتمع بدلا من مطاردتهم في ارزاقهم وكرامتهم, كما أهلمت مطلب تعديل الدستور وإلغاء الوضع المتميز لحزب البعث السوري الذي حكم سوريا لأكثر من48 عاما والذي يقننه الدستور الراهن باقراره حق الحزب في ان يكون الحزب القائد للدولة والمجتمع, يحتكر السلطة والقرار!

وللأسف لايبدو ان هناك مايشير إلي ان الرئيس بشار يمكن ان يعيد النظر في موقفه ويستجيب لمطالب شعبه, رغم إلحاح قوي صديقة عديدة تناشده ان يبادر فورا بوقف كل صور الصدام مع الجماهير والبدء في حوار وطني واسع يساعد علي تقريب المسافات بين الحكم والمعارضة, وان تكون خطوته الأولي علي هذا الطريق التحقيق في وقائع سقوط أكثر من450 شهيدا في شوارع المدن السورية, ورفض احتكار الحزب القائد من خلال قانون جديد للأحزاب يحافظ علي تكافؤ الفرص بين جميع الاحزاب والافراج عن المعتقلين السياسيين.

ولايعول السوريون كثيرا علي التدخل الخارجي لمعاونتهم علي الوقوف في وجه طغمة الحكم السوري, خاصة انهم يعرفون ان اقصي ماتستطيع ان تفعله الدول الغربية الآن, هو فرض بعض العقوبات علي عدد من اركان الحكم بينهم بعض افراد أسرة الرئيس بشار المسئولين عن تسيير دفة البلاد, تمنعهم من السفر إلي الخارج او تجمد اموالهم في البنوك الغربية, في الوقت الذي تزداد فيه الضغوط علي الجامعة العربية كي تدين اعتداءات النظام علي المحتجين كما فعلت في ليبيا منعا لازدواج المعايير, واغلب الظن وبعد ان سدت امكانات التسوية الرشيدة, ان تتجه الازمة السورية إلي المزيد من التصاعد, لكن العنف المتزايد من جانب النظام السوري ضد شعبه, سوف يقابله تصعيد مطالب المتظاهرين إلي حد المطالبة بمحاكمة اقطاب النظام علي جرائم القتل التي تم ارتكابها في حق الشهداء, خاصة إذا امتدت عدوي الاحتجاجات لتصل إلي جماهير دمشق وحلب, بعد ان اقتربت نيران الثورة من ضواحي المدينتين الأمر الذي يؤدي إلي اختصار مخاض الثورة وربما يترتب عليه انقسام القوات المسلحة السورية, أو امتناعها عن التعرض لجماهير المدينتين اللتين تشكلان جماع الموقف السوري.

الأهرام

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى