صفحات سورية

سوريا: ثورة أم حرب أهلية؟

 

د. رياض نعسان أغا

سألني أحد كبار المسؤولين السوريين يوم أحرق البوعزيزي نفسه واشتعلت تونس “هل تتوقع أن يحدث شيء من هذا القبيل عندنا في سوريا؟” قلت بعد أن نزعنا معاً بطاريات هواتفنا الجوالة “أظن أنه لا توجد في سوريا الآن مبررات راهنة لقيام ثورة شعبية عارمة، إلا إذا تذكر الناس ماضيهم كله دفعة واحدة، لكن توجد مبررات احتجاج صارمة، الناس في سوريا يضيقون بأجهزة الأمن التي باتت هي تضيق بالحكومة وتعتقل موظفيها حتى دون إبلاغ الوزراء، وأظن أن الرئيس بعد أن كان يضيق بتسلط أجهزة الأمن صار يثق بهم أكثر من ثقته بحكومته، وهم يشيعون أن الحكومة هي سبب فشل الإصلاح، وأنت تعرف أنها لا تملك من أمرها شيئاً”. قال “أين ترى المشكلة إذن ؟”، قلت “العودة بجدية إلى مشروع الإصلاح، ألا ترى أننا دخلنا حالة طوباوية، نتحدث عن ربط البحار الخمسة، وننسى المحافظات الخمس؟”، تنبه صاحبي إلى خطر ما أقول، فقال “أية محافظات؟”، قلت: سأبدأ بإدلب التي لم يقم فيها مشروع تنموي من يوم كان يحكمنا عبد الناصر إلى الآن وأبناؤنا يبحثون عن فرص عمل في قبرص واليونان، وأما الحسكة وهي أكثر من ضعف مساحة لبنان، فجل سكانها يهجرونها، وباتت الحكومة توزع عليهم معونات كي يبقوا، وأما دير الزور فمن ذا يصدق أنها منطقة نفطية؟ وأما درعا فلولا أبناؤها المهاجرون الذين يرسلون لأهلهم الدعم المالي لما وجدت فيها حياة لائقة، ودعك من ريف حلب فهو لم يدخل التاريخ المعاصر بعد، وحتى مناطقكم في جبال العلويين لم تستفد سوى من شبكة طرق جبلية، وبعض الفلل لأصحاب الثروات، وبقية العلويين يسكنون في قرى بائسة، ومن جاء منهم إلى دمشق عمل عنصر أمن، وبقيت أرضه الزراعية تبحث عن فلاح، وسكن في مناطق المخالفات ومهمته أن يحرس سيده، لأنه لا يجد في الساحل كله مشروعاً إنتاجياً، وحسبك أنك لا تجد في اللاذقية كلها سوى فندق واحد على مدى عقود تعصف فيه الرياح! قال “من حسن حظك أننا نزعنا البطاريات”، قلت “إن لم نبادر إلى حلول استباقية لنزع الفتيل وإراحة الناس وتلبية مطالبهم وفك الطوق الأمني عنهم فعلينا أن نتوقع إعصاراً قادماً”، قال “هذا مستحيل، البلد ممسوكة جيداً”، قلت “الماء الرخو يفت الصخر حين يندفع، واحذر من أن يكون خصمك شعبك، فلست أعرف في التاريخ كله قائداً انتصر على شعبه، يجب حل مجلس الشعب فوراً، واستبعاد الحزب الذي لم يعد حزباً بمقدار ما هو حكومة رديفة، والدعوة العاجلة إلى انتخابات برلمانية حرة بكل معنى الكلمة”. وللحديث شجون، ولكنني التقيت صاحبي مرة أخرى حين تحركت درعا، فقال “هل تظنها ستخرج من درعا ؟”، قلت “ستعم سوريا كلها إن لم يبادر الرئيس لتلبية مطالب الناس، وهم يبرئونه بذكاء، فهم لا يريدون أن تغرق سوريا في طوفان دم”.

لم تفلح كل الأحاديث التي لا أريد الإسراف في ذكرها مع أنها باتت وثائق مرحلة، فقد تحكم الطغيان عبر التجبر والعناد، وهذا ما يدعوني إلى القول إن الثورة السورية وجدت مبرراتها كاملة بعد أن قامت، فالأساليب التي اتبعها النظام لقمع احتجاجات درعا هي التي أشعلت بقية المحافظات، وأصر السوريون على سلمية ثورتهم، وعلى مدى ستة شهور تحملوا القتل اليومي وبيدهم أغصان الزيتون. وكان النظام قد خطط لفخاخ يصطاد بها الثورة، أولها فخ المؤامرة الكونية، وثانيها فخ الطائفية، وثالثها فخ التطرف، ولم يكن شيء من ذلك موجوداً في الحقيقة، والآن يظهر شبح فخ جديد، هو فخ الحرب الأهلية التي بتنا نخشى أن تصير حقيقة يفرضها النظام، وقد نجح في كل خططه. لقد أنكرنا وجود المؤامرة على النظام، ولكننا بتنا واثقين من ضخامة المؤامرة الكونية على سوريا وشعبها وبات تدمير سوريا هدفاً يترقب كثيرون سرعة إنجازه، وأنكرنا أي بعد طائفي للثورة، لكن مشروع إبادة السنة في قراهم وتهديم مدنهم بمن فيها من معارضين ومؤيدين معاً، حيث لا تفرق براميل الموت ولا الراجمات وصواريخ الطائرات بينهم، بات بيئة ممكنة لتضخم ولادة حقد طائفي يسعى السوريون جميعاً لتجنبه. وأما التطرف فقد وجد في الفوضى العارمة أبواباً مفتوحة، ومع تأخر إيجاد حلول ستصبح سوريا ساحة مفتوحة لكل من يحمل سلاحاً، وستصير الحرب الأهلية قدَراً محتوماً، وستكبر قضية اللاجئين السوريين وتصير عبئاً على المنطقة كلها، ولابد أن الإرهاب سيصير مشكلة جادة تهدد أمن المنطقة.

والمؤسف أن الملف السوري لم يعد بيد السوريين ولا حتى بيد العرب، صار لافروف هو المتحدث الرسمي باسم سوريا، وهو لا يملك أي مشروع يتجه به إلى الشعب السوري سوى أنه يطلب منه الإذعان والتسليم والعودة إلى الحظيرة، مهدداً بأن الرفض سيعني مزيداً من القتل والدمار، والولايات المتحدة تراجعت حتى عن التصريحات النارية ربما بسبب إسرائيل التي يسعدها أن ترى سوريا يدمرها جيشها الوطني الذي تم تدميره هو أيضاً. والمجتمع الأوروبي انصرف إلى دولة مالي وباتت القضية السورية ثانوية عنده، وتركت سوريا لقدرها، وإخفاق الثورة لن يعني بحال عودة الشعب إلى بيت الطاعة، وإنما يهدد بالدخول في خطر الحرب الأهلية التي قد تطول سنوات، فليس ممكناً أن يسلم الشعب رقبته وهو يعرف قسوة العقاب، ويعلم أن هزيمته تعني بقاءه محروماً من حريته مئة عام إضافية على الأقل. وسيكون النجاح بقمع الثورة السورية انتصاراً ساحقاً للمشروع الإيراني الذي يهدد بالتهام سوريا والعراق ولاسيما إذا تمت التسوية بين إسرائيل وإيران حول ملفها النووي. وسيسعد إسرائيل أن يتوقف عداء العرب لها، لأنهم سينشغلون بعدو جديد، سيرون أنه أخطر عليهم منها.

إنني أدرك صعوبة الحسم في القضية السورية عسكرياً، فحين يقصف النظام المدنيين، ويدمر المدن يؤجج لهيب الثورة ويضيف إليها طاقة مقاومة أكبر، والثورة كذلك غير قادرة على الحسم العسكري، لأنها تواجه معسكراً عالمياً ضخماً يساند النظام سراً وعلانية، فضلاً عن وجود طائفة تم زجها في الصراع، وباتت تراه صراع وجود، ولذلك لابد من مبادرة دولية عادلة يقودها مجلس الأمن تضمن مخرجاً مقبولاً، وتضمن انتصار الشعب ونيله حقه في الحرية والكرامة، وتحفظ الأمن والاستقرار في المنطقة، دون تدخل عسكري خارجي، ودون إملاءات تضع سوريا تحت الانتداب ثانية.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى