صفحات الرأي

الأقليات في سوريا ولبنان: التعددية ليست كافية


كمال ديب

في محاولات عدّة لتقليص ساحة النقاش في الحدث السوري، وامتداداً اللبناني، ثمّة من يريد أن يُبعد موضوع الأقليات التي يبلغ مجموعها 17 أقلية دينية و5 أقليات عرقية، عن أدوات البحث لفهم ما يجري في البلدين. وفيما تُشغل معظم دول العالم بمعالجة مسائل الأقليات داخل حدودها، نجد في مشرقنا من يُغفل هذا الموضوع، إمّا لغاية في نفس يعقوب، أو لأنّه يعلم أنّ نبش موضوع الأقليات هو الغول الذي ينتظر خلف الباب. وهنا محاولة هادئة تستند إلى إطار أكاديمي لولوج هذا الموضوع.

ليس ثمّة حدود لما قد تذهب إليه الدول في معالجة مسألة الأقليات، وصولاً إلى تقسيم البلاد إلى عدّة دول، كيوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، أو الوصول إلى فدرالية تمنح حكماً ذاتياً واسعاً للمقاطعات، أو لامركزية موسّعة أو منح حقوق واسعة للأقليات مع ضمانات مالية وقانونية لتحمي نفسها، أو أن تعطى الأقليات حقوقاً في التمثيل السياسي تضمن عدد مقاعدها في برلمان مركزي وحكومة تمثّل الجميع وإدارة عامة توزّع وظائف الدولة والجيش والقضاء.

لقد سنحت لي فرصة مناقشة موضوع الأقليات في المشرق مع خبير كندي في شؤون الأقليات، فأخبرني عن جولته في سوريا ولبنان في 2008، إذ لَفَتَ نَظَره الفارق الكبير بين البلدين. ففيما لم يستطع أن يفرّق بين الشعبين من حيث اللغة والعنصر والعادات والتقاليد، إلا أنّ الفارق في النظام السياسي والسلوك العام كان واضحاً. قال: «كانت سوريا مفاجأة لي، إذ لا يزال ثمّة في العالم بلد يحكمه نظام شمولي مشابه للأنظمة الاشتراكية البائدة في أوروبا الشرقية. لقد زرتُ دمشق لإحياء عدد من الندوات والمشاركة في نقاشات، ولكن إينما اتّّجهنا وفي أي مكان دخلنا كان رجال الاستخبارات خلفنا. فإذا كنّا في قاعة ونريد أن نتناقش في أي أمر مع مثقفين سوريين، نرى رجال الاستخبارات يحتّلون كراسي في القاعة كأنّهم من المدعوين ولا أحد يعترض. وكانت المحصلة أنّه لا أحد من السوريين يُقدِم على المشاركة في الندوات بحريّة. واستنتجت أنّ النقاش الحر والتعبير مستحيلان في سوريا، إذ لن يجرؤ أحد على الكلام في ظل هذه المراقبة الشديدة. ولكن مفاجأة أكبر كانت تنتظرني في لبنان. لقد ذهبنا إلى لبنان بعد ذلك ولم أصدّق ما شاهدت. ليس لأنّ النقاش والحوار واللقاء العام موجود بكثرة وبدون حدود في لبنان فحسب، بل كنّا عندما ننتقل من نشاط ثقافي إلى آخر، كأننّا نغادر بلداً لجماعة دينية ما لندخل آخر. وشهدنا الجو نفسه من النقاش المفتوح بدون حدود في كل منطقة، فيما أجهزة الإعلام المذهبية تتصارع بالمحطات التلفزيونية والإذاعية والصحف والمجلات، والكلّ ضد الكلّ بدون أي رادع يضبط الكلام، وصولاً إلى التحريض الذي يوصل إلى مشاكل وحروب».

وعندما سألت الخبير عمّا إذا كان ما شهده في لبنان هو دليل على فشل نظامه الديموقراطي ذي الميل الغربي في تطوير البلاد نحو دولة الرعاية العلمانية، علّق بأنّ لبنان هو بلد من عدّة أقليات وليس فيه أقلية كبرى أو جماعة أكثرية مع جماعات أقلوية. ولم يكن من المعقول أن يصبح علمانيّاً كفرنسا مثلاً التي أصبحت علمانية في 1905. وما ساعد فرنسا في ذلك أنّ أكثر من 95 في المئة من شعبها آنذاك كانوا على المذهب الكاثوليكي وليسوا شعباً من عدّة أقليات مذهبية. ولو كانت فرنسا دولة متعدّدة الأديان كلبنان، لما نجحت علمانيتها. في لبنان حريّة هي فوضى تتدهور إلى أزمات، أمّا في سوريا فثمّة نظام سياسي علماني نسبياً ودولة قويّة وحازمة، وهذا طبعاً أفضل من الفوضى. والحل هو طبعاً بين الاثنين، أي جمع الديموقراطية والعدالة الاجتماعية، لا أن تصبح سوريا كلبنان، مزرعة طوائف ومغانم.

لقد وضع لبنان صيغة سياسية في 1943 لإدارة العلاقات بين أقلياته. ولكنّ الصيغة فشلت ووصل إلى الحرب الأهلية. وأثبتت تجارب الدول التعددية أنّ الحلّ الداخلي في بلد تتعدّد فيه الأقليات عبر المشاركة في السلطة ليس كافياً، وخاصة في دول تقع جغرافياً في جوار صعب. وموقع لبنان وسوريا الجغرافي صعب وخطر جداً. وهذا كان واقع الحال في أوروبا منذ قامت الدولة ـــ الأمّة. فكانت الدولة القويّة تغزو جارتها الأضعف بداعي الدفاع عن الأقليّة التي تعيش في أراضي الجارة. وكان غزو ألمانيا النازية لمعظم جيرانها في الحرب العالمية الثانية بداعي الدفاع عن الأقليات الألمانية في تلك الدول. وعندما انهارت الدولة في لبنان في 1976، دخلت إسرائيل بداعي الدفاع عن الأقليّة المسيحية، والقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية، ودخلت سوريا لإدارة أزمته ثم فرضت نفسها سلطة وصاية. أمّا سوريا، فلعدّة عقود كانت ضحية مؤامرات جيرانها من العراق إلى تركيا والأردن وإسرائيل، وأحياناً من لبنان رغم اتفاق البلدين على ألا يكون ممرّاً للتآمر على سوريا. وهكذا الدول المتجاورة تستعمل الأقليات ليتدخّل بعضها في شؤون بعض.

إنّ الديموقراطية العددية مسألة يجب مقاربتها بحذر في لبنان وسوريا، في القرن الحادي والعشرين، إذ تتعدد الطوائف. في لبنان ثمّة نظام ديموقراطي يقدّم ضمانات للأقليّات المسيحية والإسلامية عبر توزيع المقاعد النيابية والوزارية والرئاسية وغيرها حسب اتفاق الطائف (ثلاثة طوائف كبرى متعادلة الحجم تقريباً مع دزينة طوائف أصغر حجماً). فلو طُبّق المنطق الطائفي في توزيع السلطة في سوريا حيث تعيش أغلبية مسلمة سنيّة يصل عديدها إلى 75 في المئة من السكان، لحصل مرشّحو هذا المذهب على أغلبية مقاعد البرلمان ومجلس الوزراء والمناصب الرسمية، كما هي الحال في مصر. عندئذٍ يبطل عامل من عوامل «الفكرة اللبنانية» كدولة مستقلة عن سوريا، وربما تراجع الزعماء المسلمون في لبنان وسوريا، من منطلق ضيّق، عن الاتجاه نحو مجتمع مدني كما يرغب مثقّفو المسيحيين والمسلمين على السواء ـــ ما دام النظام في دمشق بات أكثر ملاءمة لهم بعد 48 عاماً من حكم البعث العلماني. ورقد يعود الضغط في الشارع الإسلامي إلى الوحدة مع سوريا، كما كانت الحال قبل 1963. ولا يملك أي محلّل تنبّؤاً حاسماً في اتجاه الأمور في سوريا بعد الإصلاح، إذ يبدو الحل العراقي الذي تمّ على أساس القالب اللبناني الطائفي والعرقي هو ما يدغدغ مشاعر البعض.

ثمّة صعوبة في صرف النظر عن المشاعر الأقلوية، وصعوبة في قبول المنطق الذي يعتبرها نوعاً من التخلف أو العمالة أو الرجعية. والحاجة في لبنان وسوريا هي إلى نظام توافقي حديث يحفظ تمثيل الأقليات مستمرة إلى اليوم الذي يتمكّن فيه اللبنانيون والسوريون كمجتمع ـــ لا كقيادات ـــ من الوصول إلى درجة من المدنية والوعي والزواج المختلط والثقافة والتربية، تمكنّهم من تأسيس نظام علماني ديموقراطي حقيقي يذيب الشعور الذاتي لمصلحة مواطنة جامعة.

* أستاذ جامعي لبناني، صدر له «تاريخ سورية المعاصر من الانتداب الفرنسي إلى صيف 2011» عن دار النهار للنشر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى