صفحات سوريةعلي العبدالله

الأكراد السوريون وخياراتهم السياسية/ علي صالح العبد الله

انهارت الدولة العثمانية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وانفصلت عنها أغلب الشعوب والقوميات التي كانت خاضعة لها كالعرب والألبان والبلغار واليونان والأرمن، إلا الأكراد لم يثوروا.

ولعب وجودهم -ولعقود طويلة- في قلب الصراع العثماني الصفوي، والعثماني الروسي، ومشاركتهم الكبيرة في الدفاع عن أرض السلطنة (جندوا في ما عرف بالألوية الكردية الحميدية) دورا مركزيا في حضور السلطنة المكثف في مناطقهم، وهذا جعل علاقتهم بالمركز مباشرة وقوية ومتينة، وارتباطهم بالسلطنة وثيقا، ما قلص احتمال انشقاقهم أو انفصالهم عنها.

غير أن تقسيم أراضي السلطنة بين الدول الاستعمارية الأوروبية، وتشكيل كيانات سياسية جديدة لشعوبها باستثناء الأكراد، دفعهم إلى التحرك السياسي بقيادة جلادت بدرخان، فوضعت القضية على جدول أعمال المجتمع الدولي، حيث تضمنت معاهدة سيفر 1920 إعطاء الأكراد في تركيا حق تقرير المصير (أعطت المادة 64 من الاتفاقية الأكراد في تركيا حق إقامة دولة كردية، وأعطت كرد العراق حق الانضمام إلى هذه الدولة إن رغبوا في ذلك)، وقد شكلت “لجنة الاستقلال الكردي” عام 1923 لتنفيذ الاستحقاق.

إلا أن تطورات الحرب بين الأتراك بقيادة مصطفى كمال والدول الأوروبية (فرنسا بريطانيا اليونان)، والانتصارات التي حققها، واستخدامه ورقة الاتصال بالدولة البلشفية في روسيا، والحصول على دعم عسكري منها، دفع الدول الأوروبية إلى استرضائه وسحب قرارهم بإعطاء الأكراد حق إقامة دولة خاصة في تركيا، حيث خلت اتفاقية لوزان بين تركيا والدول الأوروبية (24يوليو/تموز1923) من هذا الحق.

خلقت الخريطة السياسية الجديدة وضعا حرجا، فالدول الإقليمية ضدها، كل لاعتباراته، ومع عدم المساس بها في الوقت ذاته.

فالعرب ضدها لأنها قسمتهم وأفقدتهم أجزاء من أرضهم: فلسطين، لواء إسكندرون، عربستان، وضد المساس بها خوفا من خسارة أراض جديدة.

والأتراك ضدها لأنها انتزعت منهم ولاية الموصل الغنية بالنفط (لم تكن القوات البريطانية عند عقد هدنة رودس يوم 30/أكتوبر/تشرين الأول1918، قد احتلت كل أراضي الموصل، فقد دخلتها يوم 8نوفمبر/تشرين الثاني1918 وسمح ذلك للأتراك بالادعاء بأن ولاية الموصل جزء من تركيا، لكن عصبة الأمم ثبتت ولاية الموصل كجزء من العراق، وجعلت الحدود العراقية التركية حدودا نهائية وفق ما سمي بخط بروكسل).

كما أنهم (الأتراك) ضد المساس بها، لأن المساس بها قد يفقدهم مساحات من الأرض لصالح الأكراد والعرب.

والإيرانيون ضدها، لأنها أفقدتهم مساحات وجزرا في شط العرب، وضد المساس بها لأن المساس بها قد يفقدهم أراض لصالح العرب والأكراد.

الأكراد وحدهم ضد الخريطة، ومع إعادة النظر فيها كي يأخذوا حقوقهم في أرض ودولة أسوة بشعوب السلطنة العثمانية الأخرى.

لذا غدا إنشاء دولة للأكراد يعني إعادة النظر في حدود تركيا وإيران والعراق وسوريا، وهذا وحّد هذه الدول لمنع الأكراد من الوصول إلى أهدافهم، والحيلولة دون إنشاء دولة كردية مستقلة على ما تعتبره أجزاء من ترابها الوطني.

من جهة ثانية أساءت هذه الدول معاملة الأكراد دستوريا وقانونيا، ولم تعاملهم معاملة عادلة بحيث تقنعهم أنها دولهم، وأنهم جزء من شعوبها، لهم كامل الحقوق مثل كل المواطنين مع احترام خصوصيتهم القومية والثقافية، وإعطائهم حق التعبير عنها في الممارسة اليومية.

وهذا الواقع خلق مشكلة كردية في هذه الدول، ومنح القوى الإقليمية والدولية الطامحة والطامعة بثروات المنطقة، فرصة اللعب على التناقضات واستخدام القضية الكردية للضغط والابتزاز السياسي والاقتصادي.

لقد غدا الأكراد أسرى التوازنات الإقليمية والدولية, فقد وعدوا بدولة من قبل فرنسا (1921)، وبريطانيا (1922)، والولايات المتحدة (1944 روزفلت، 1973 كيسنجر)، وشجعوا على التمرد، ولكن دون أن يحصلوا على دعم ملموس حتى عام 1991، حيث نال أكراد العراق حماية أميركية (فرض حظر طيران فوق خط العرض 32)، في ضوء تبعات احتلال العراق للكويت وقمع النظام، للانتفاضة الشعبية التي حصلت بعد هزيمته أمام قوات التحالف الذي قادته أميركا.

ينظر الأكراد إلى أنفسهم على أنهم أمة مكتملة التكوين، وهم كذلك، وأن من حقهم تحقيق طموحاتهم القومية، أسوة بكل أمم الأرض، ولكنهم يختلفون فيما بينهم حول شكل تجسيد هذه الطموحات.

فقد تبنى بعضهم إقامة دولة قومية واحدة لكل الأكراد (حزب العمال الكردستاني التركي)، وتبنى آخرون خيار الفيدرالية القومية (الحزب الديمقراطي الكردستاني، والحزب الوطني الكردستاني العراقيين).

وطرح آخرون مطالبهم بالتوازي مع حالة ميزان القوى المحلي والإقليمي، والموقف الدولي من هذه المطالب (أغلب كرد سوريا)، فقد طالبوا بحقوق مواطنة كاملة، ووقف التمييز ضدهم كما حصل بنزع جنسية أعداد كبيرة منهم في الإحصاء الاستثنائي (5 أكتوبر/تشرين الأول1962)، وتطبيق خطة الحزام العربي عام 1966 لتفريغ خط الحدود مع تركيا والعراق منهم، بنزع الأراضي من آلاف الأسر الكردية وتوزيعها على أسر عربية.

وطالبوا أيضا بمعاملتهم على قدم المساواة مع أبناء القومية السائدة والمشاركة في اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية، قبل أن يدفع نجاح أكراد العراق في الحصول على شبه دولة بعضهم إلى المطالبة بحكم ذاتي أو بنظام فدرالي.

وقد شاركت أحزاب كردية سورية، سبعة أحزاب كانت مجتمعة في تكتلي الجبهة الديمقراطية الكردية (ثلاثة أحزاب)، والتحالف الديمقراطي الكردي (أربعة أحزاب)، في تأسيس إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي (16أكتوبر/تشرين الأول2005) على خلفية القبول بحل ديمقراطي للقضية الكردية، في إطار سوريا موحدة أرضا وشعبا، وشارك عدد منها في تأسيس هيئة التنسيق الوطنية (25يونيو/حزيران2011) ضمن هذا التوجه.

وتتزايد الأحزاب الكردية بشكل مستمر، و كانت 12حزبا عام 2005، وغدت أكثر من 20 حزبا عام 2011، نتيجة الانشقاقات التي تحصل على خلفية احتجاز تطور هذه الأحزاب، ومنع أي تغيير داخلها، عبر تمسك قياداتها التاريخية بمنصب القادة والتعاطي مع القاعدة على قاعدة “الاستزلام”.

ومع انطلاق ثورة الحرية والكرامة، شعرت الأحزاب الكردية السورية بتغير المعطيات السياسية وحاجة المعارضة إليها، لتوسيع مساحة تمثيلها وشرعيتها بالتالي، فعقدت اجتماعا ضم 12 حزبا وشكلت المجلس الوطني الكردي(انضمت إليه تشكيلات جديدة لاحقا).

ووضعت هذه الأحزاب عددا من المطالب والشروط للتحالف مع القوى والأحزاب العربية، أولها الاعتراف بالأكراد كثاني قومية في سوريا، الإقرار بأن القضية الكردية قضية شعب وأرض، والالتزام بإقامة نظام فدرالي في سوريا الجديدة، وعليه فقد انسحبوا من إعلان دمشق ومن هيئة التنسيق (بقي حزب الاتحاد الديمقراطي فيها)، واعتبرها إعلان دمشق سابقة لأوانها، ومن صلاحيات المؤتمر الوطني السوري والجمعية التأسيسية التي سيختارها لتضع الدستور الجديد.

جرت محاولات تفاهم بين المجلسين الوطني السوري والكردي تفتح الطريق لانضمام الثاني إلى الأول، لكنها باءت بالفشل، رغم أن المجلس السوري أصدر وثيقة معقولة بخصوص حقوق الأكراد، وتكررت العملية مع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، لم يشارك حزب الاتحاد الديمقراطي في المفاوضات، ولم يقبل بالاتفاق الذي تم، تكللت بالنجاح بعد عدة جولات فاشلة، فانضم المجلس الوطني الكردي إلى الائتلاف.

استمرار الصراع بين الثورة والنظام وتغير أساليبه وأدواته، في ضوء استخدام النظام لكل إمكانات الدولة العسكرية والأمنية للقضاء على الثورة، من مواجهة سلمية إلى مسلحة، قاد إلى بروز متغير جوهري: تراجع سيطرة النظام على مساحات شاسعة من الأرض السورية، بما في ذلك المناطق الكردية، فتحرك حزب الاتحاد الديمقراطي لملء الفراغ بوضع اليد على المناطق الكردية والتحكم في حراكها.

وكانت شهدت قيام تنسيقيات شبابية فاعلة شاركت في التظاهرات، وتعرضت لقمع النظام قبل أن تواجه بقمع الحزب المذكور، الذي عمل على منع مشاركة الأكراد في فعاليات الثورة، وقد سقط شهداء من التنسيقيات على أيدي قوات هذا الحزب في عدد من البلدات وخاصة بلدة عامودا.

جرت محاولات للتفاهم بين المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي، إلا أن الأخير رفع سقف مطالبه (طالب بنصف مقاعد الهيئات المشتركة)، على خلفية شعبيته وقدراته العسكرية، بينما رأى خصومه أنه لا يريد شركاء، لذا رفع سقف مطالبه لإفشال العملية، قبل أن يحصل لقاء في مدينة أربيل برعاية حكومة إقليم كردستان العراق، ويتفق الطرفان على تشكيل الهيئة الكردية العليا وتوقيع اتفاقية هولير (الاسم الكردي لأربيل) في 10يوليو/تموز2012.

ومع ذلك لم ينته الخلاف، إما لأنه لم يدخل حيز التنفيذ، أو نفذ بشكل غير مقبول من طرف المجلس الوطني الكردي، فعاد الشد والتوتر بين الطرفين (اعتقال عناصر من أحزاب المجلس، منع دخول كوادر عسكرية لهذه الأحزاب بعد خضوعها لدورات تدريبية في كردستان العراق، خطف واغتيال عدد من ناشطيها ..إلخ).

في هذا المناخ جاء تحرك حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي لإقامة إدارة ذاتية في المناطق الكردية التي سيطر عليها، تتحدث الأحزاب الكردية عن تواطؤ بين النظام والحزب المذكور، انسحبت فيه قوات النظام من بعض المناطق وسلمتها للحزب، وبقيت مفارز أجهزة المخابرات ودورياتها في القامشلي ومناطق حدودية مثل المالكية دون أن تمس.

أيضا أجرى حوارات مع عدد من القوى السياسية في هذه المناطق، كما تحرك على الصعيدين الإقليمي والدولي لتسويق المشروع (زار السيد محمد صالح مسلم تركيا أكثر من مرة وإيران وفرنسا وبريطانيا)، وادعى أنه حصل على مباركة كل من تركيا وإيران.

وسائل إعلام تركيا تحدثت عن تحذير تركي لمسلم من المساس بالأمن الوطني التركي، ومن غير المستبعد أن تكون إيران قد باركت الخطوة على خلفية إرباك تركيا، وتفكيك جبهة خصوم النظام ونقل الصراع إلى صفوفهم.

وقد أعلن عن دخول المشروع حيز التنفيذ بعد قتال عنيف مع كتائب للجيش السوري الحر ومقاتلي تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام، الذي أعلن عن نيته تأسيس دولة إسلامية في المناطق المحررة، بما في ذلك المناطق الكردية، وتحركه لبسط سيطرته على المناطق الحساسة، وخاصة المعابر الحدودية وآبار النفط، وجبهة النصرة، لإخراجها من المناطق الكردية.

واجهت الخطوة تحفظات محلية من قبل العرب والآشوريين/السريان في المحافظات المعنية، ومن قسم من الأكراد، شركاء الحزب في المصير وشركاؤه في الهيئة الكردية العليا، الذين لم يقبلوا بها لاعتبارات تتعلق بموقفهم من علاقة الحزب بالكردستاني التركي وبعبد الله أوجلان، وميل قسم كبير منهم للبارزاني، ما يثير مخاوف من انفجار صراع كردي بسببها.

كما انتقدتها تركيا والولايات المتحدة الأميركية، وباركتها هيئة التنسيق الوطنية، باعتبارها إجراء مؤقتا، بينما لم يعلق النظام عليها.

إن قراءة مدققة في الظروف المحلية والإقليمية والدولية السائدة، تقود إلى عدم توافر شروط قيام دولة كردية مستقلة واحدة أو في جزء من كردستان، وهذا يطرح على الشعب السوري ضرورة الخروج من المأزق، وإيجاد قاسم مشترك بين مكوناته.

قاسم مشترك يؤسس لعلاقة عادلة عبر عقد اجتماعي وطني سوري يتأسس على التعددية القومية والدينية، وتكريس نظام سياسي قائم على الحرية والعدالة والمساواة، وترسيخ دولة الحق والقانون.

على أن يكفل هذا العقد لجميع المواطنين الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يحقق العدالة في توزيع الموارد والخدمات، والبحث في حل للقضية الكردية يستجيب لتطلعات ومصالح أطراف المعادلة الوطنية في دولة سورية جديدة.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى