صفحات سورية

الأكراد السوريين والإختيار الصعب

 


إبراهيم إبراهيم

إن طرح هكذا موضوع يتسم بالدقة والأهمية، يتطلب أقصى درجات الوضوح والواقعية، لما يتسم به الوضع الكردي في سورية من خصوصية عن باقي الأكراد في الدول المجاورة، وما شهدته وتشهده الساحة الداخلية في سورية من مظاهرات لقوى المعارضة للنظام السوري و مطالبتها بالحرية و الديمقراطية و القضاء على الامتداد الأفقي و العمودي لمسألة الفساد المنتشرة في إدارات الدولة والرشوة و كف الحكومة عن سياستها الانفرادية وتهميش و إقصاء كل الشرائح الاجتماعية والسياسية.

و ما رافقت هذه التحركات الشعبية من ممارسات وحشية من قبل الأجهزة الأمنية في التعامل مع هذه المظاهرات متحدية بذلك كل القوانين و الأعراف الدولية و التي راح ضحيتها أكثر من 50 شهيداً في محافظات درعا و دمشق و اللاذقية و مدينة الصنمين و ما أفرزت هذه المظاهرات من تداعيات تتعلق بقضايا حقوق الإنسان والانتهاكات التي جرت و الجارية من قبل الأجهزة الأمنية برز سؤال الأهم من قبل بعض النخب الكردية و العربية و التي تمحورت في أسباب عدم مشاركة الأكراد و الحركة السياسية الكردية إلى جانب اخوانهم في المدن السوربة في تلك المظاهرات و المطالبات في الوقت الذي كان الأكراد و ما زالوا من أكثر المطالبين بالحرية و الديمقراطية و للإجابة على هذا السؤال ينبغي أولاً الإحاطة و بشكل مختصر بالوجود الكردي في سورية كشعب لإلقاء المزيد من الإيضاح على الواقعة الكردية بدلالاتها ومعطياتها السياسية والقومية ومفاهيمها الاجتماعية والثقافية والتاريخية كإحدى أهم الأقليات القومية التي شغلت و انشغل بها الساسة والمؤرخين و خاصة بعد المتغيرات العالمية والأحداث المتلاحقة من حروب وثورات وانقلابات في المفاهيم الإنسانية وما يسمى بالثورة المعرفية التي يعد العالم نفسه بها، والتطور التقني الهائل، وتجاوز التراكمات الفكرية السالفة، والتمردات التي تحصل هنا وهناك على الانغلاق، ومن ثم العولمة التي بدأت تغزو جميع مناحي الحياة الإنسانية الانترنت، الفيسبوك بشكل خاص.

ان الأحداث والمتغيرات المتوقعة قدومها على الصعيد الداخلي السوري عبر ما يصدر من تصريحات للمسؤولين السوريين حول إمكانية تحولات جذرية في الوضع السوري فضلاً عن رياح الثورات العربية من تونس ومصر وليبيا و اليمن التي قلبت المقاييس و المعايير في المفاهيم المتعلقة بالفكر العربي السياسي و طبعاً ما رافقه من المتغييرات العالمية الجديدة في تعاملها الجديد مع قضايا الشعوب العربية، انبثقت الكثير من الفرضيات والنظريات والآراء حول الحقيقة الواقعية و التاريخية للوجود الكردي في سورية. منها ما تقاربت وتطابقت ومنها ما تخالفت واختلفت لكنها بالنتيجة مثلت جميعها المفهوم الاجتماعي والأخلاقي والحضاري لمجموعة بشرية تمتعت بميزات واحدة وتركيبة اجتماعية ونفسية واحدة، وتعددت مواقعه السياسية و الجغرافية في إطار الوطن السوري. وقد بقيت قضية هذه المجموعة البشرية من أكثر القضايا تشعباً وتعقيداً بسبب السياسات التي مورست بحقها من قبل النظام السوري عبر اضطهاده وقمعه وممارسته سياسة التعتيم على حقيقة هذه المجموعة التي هي جزء الأمة الكردية.

كل هذا بدأ يلقي بظله على هذه القضية أي القضية الكردية في سورية على الصعيدين الداخلي السوري و الدولي عبر الكثير من الأحداث والحالات المتعلقة بهذا الشأن والتي ظهرت في الكثير من المواقع، و خاصة هذه الأيام.ونحن إذ نتوخى بهذه المساهمة التعريف بالأكراد السوريين عبر المعطيات التاريخية المتعلقة بوجودهم التاريخي والفعلي في سورية.

تقر معظم الدراسات والمصادر التاريخية بحقيقة الوجود التاريخي للأكراد ضمن حدود الدولة السورية، ومن المؤرخين والمستشرقين الذين أكدوا هذا الروسي مينورسكي والإنكليزي جون سميث واليوناني كزينفون، وليرخ الألماني وإ. م. دياكونوف الروسي وباسل نيكتين وبيير روندو والعربي شاكر خصباك وعبد القادر حسين وحسن الأمين وعلي سيدو كوراني محافظ عمان الأسبق والعراقي محمد أمين زكي وزكريا وصفي الذي يؤكد في كتابه “جولة أثرية في بعض الأنحاء الشمالية لسورية” عام 1934 (ص 331) أن الأكراد يكثر وجودهم في شمال بلاد الشام على مقربة من الحدود التركية، كالذين في شمال نهر عفرين (مدينة تقع في أقصى الشمال الغربي لسورية في الجبل المسمى كرداغ أو جبل الأكراد حسب التسمية العربية والحكومية قبل تطبيق سياسة التعريب التي طبقتها الحكومة السورية في المناطق الكردية وقد أخذ جبل الأكراد مؤخراً اسم جبل حلب..!) والذين في شمال سهل العمق أو في أقضية اعزاز والباب وجرابلس (مدن سورية تقع على الشريط الحدودي بين تركية وسورية) بالإضافة إلى الأقضية التي تقع في شمال شرق الجزيرة الفراتية.

ويقول حسن الأمين في نشرة المعلومات التي يصدرها المركز العربي إن الأكراد موجودون في الشمال السوري كوجودهم في الشمال العراقي (المعلومات – عدد 10). ويؤكد بيير روندو في كتابه “أكراد سورية” عام 1937 أن الإعمار الكردي في سورية أقدم بكثير مما يتصوره المرء.

ثم يذكر الأستاذ علي سيدو كوراني في كتابه “من عمان إلى العمادية: جولة في كردستان الجنوبية” (ص 45) أن أكراد شمالي سورية قضت الظروف السياسية أخيراً بإلحاق بلادهم ببلاد الشام. وقد كتب الدكتور عبد الحكيم بشار في مجلة “أدب القضية” (العدد 19 – غير مرخصة) التي يصدرها الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي الكردي (البارتي) في سورية وبالاستناد إلى زكريا وصفي أن أول ذكر للأكراد في سورية يعود إلى 317م، ولعل الاعتراف الأقرب والأهم بوجود أقلية كردية في سورية هو المؤتمر الاستثنائي لحزب البعث الحاكم عام 1968 (والآن لا يعترف نفس الحزب بوجود الأكراد..!). فضلاً عن الكثير من المصادر التاريخية التي تؤكد هذا الوجود.

لقد ساهم الكرد السوريون بدور فعال في بناء سورية، وكان لهم الدور البارز في عملية النضال الوطني ضد المستعمر الخارجي، ويذكر في هذا السياق أن بعض رجالات النضال الوطني والسياسة كانوا أكراداً ابتداءً من سليمان الحلبي (محمود عكام – الموسوعة الإسلامية، الجبرتي – جريدة الشرق الأوسط) ويوسف العظمة وإبراهيم هنانو، وأول رئيس للجمهورية السورية (هكذا كانت تسمى إلى حين تسلم التيارات العربية القومية) محمد علي العابد الكردي وحسني الزعيم وفوزي سلو وأديب الشيشكلي وغيرهم كمحمد كرد علي رئيس المجمع اللغة العربية.

ويذكر أدهم آل الجندي في كتابه “تاريخ الثورات السورية في عهد الانتداب الفرنسي” أن “محو ايبو شاشو هو أول من أطلق أول رصاصة في وجه الفرنسيين”. كما شارك الأكراد واستشهد العديد منهم في حرب تشرين عام 1973، وكان لهم مشاركة مشهودة حين ساد جو من الديمقراطية والحرية، إذ ساد بعد الاستقلال عن فرنسا عام 1946 جو من الوئام والتفاهم في البلاد، ويذكر عبد الحميد درويش في كتابه “الحركة الكردية في سورية” أنه في المرحلة الأولى من عهد الاستقلال استمرت الأوضاع بشكل طبيعي إذ كان التنوع القومي من الأمور الطبيعية والمعتادة في سورية، وفي عام 1954 عادت الأحزاب السياسية بمختلف انتماءاتها إلى النشاط العلني وأصدرت العشرات من المجلات والصحف اليومية. ومن الجدير ذكره أنه في الفترة التي سبقت الاستقلال في الثلاثينات من القرن الماضي كانت دمشق مركز إشعاع حضاري وثقافي كردي، حيث أصدرت العائلة البدرخانية النبيلة مجلات باللغة الكردية. إلا أن و بعد ظهور الحركة القومية العربية و تبنيها الفكر القومي العربي و تحوير هذا الفكر من مفهومها الإنساني و الأممي إلى مفهوم قومي عروبي ضيق لا يقبل بالآخر المختلف و قد تبنى هذا الفكر الكثير من الأوساط السياسية و الثقافية العربية، حيث ظهرت العديد من الأحزاب أتخذت الفكر العروبي كنهج و ممارسة و كان في مقدمة هذه الأحزاب حزب البعث العربي الإشتراكي الذي استلم مقاليد الحكم في كل من سورية و العراق.

كما ذكرنا أعلاه أن المرحلة الأولى من عهد الاستقلال استمرت الأوضاع بشكل طبيعي إذ كان التنوع القومي من الأمور الطبيعية والمعتادة في سورية، وفي عام 1954 عادت الأحزاب السياسية بمختلف انتماءاتها إلى النشاط العلني وأصدرت العشرات من المجلات والصحف اليومية… لكن الأمور تغيرت رأس على عقب بعد استلام حزب البعث العربي عام 1963 و بقدرة قادر تغير كل شيء في سورية من قوانين و دستور و تغير اسم سورية من الجمهورية السورية إلى الجمهورية العربية السورية و أقرّت بأن كل من يعيش في سورية هو عربي و من دم عربي و من لم يكن كذلك فعليه مغادرة سورية أو أن يسجن أو يموت جوعاً أو سجناً مغفلاً بذلك كل الحقائق التي ذكرناه سابقاً و لم يتوقف حزب البعث عند هذا الحد بل عمل على نشر ثقافة العداء للشعب الكردي في سوريا بين شرائح المجتمع العربي السوري عبر إيهامهم بأن الكرد عملاء و دخلاء و يريدون تقسيم سورية مما ولد بالفعل حالة عدم الثقة بين الكرد و العرب في حين ان لا الدراسات التاريخية و لا أية وثيقة من وثائق حزب البعث نفسه لم يثبت هذه الإتهامات بل العكس من ذلك تماماً، فقد أشارت كل الدراسات التاريخية و الوثائق المتعلقة بالحركة السياسية الكردية و معطيات خطابها القومي بأن الأكراد جزء لا يتجزأ من التكوين السياسي و الثقافي و التاريخي للمجتمع السوري.

و قد زادت وطأة الحرب البعثية على أكراد سوريا عبر إصدار الكثير من القوانين و المراسيم التي تقمع من ممارسة الكردي لكرديته أولاً و لسوريته ثانياً بالإضافة إلى بث روح الكراهية و الحقد بين الأكراد و العرب و خلق حالة اللاثقة بين المكون الكردي السوري و العربي و كان ذلك واضحاً في القانون الإحصاء الإستثنائي السيء الصيت و و بعض الإجراءات غير القانونية التي اتخذها حزب البعث ضد الأكراد اهمها “الحزام العربي”، وهو شريط بعمق 10 الى 15 كلم على قسم من الحدود السورية التركية يقطنه عرب رحّلوا من منطقة سد الفرات و الرقة (يسمون “المغمورين” لأن بحيرة السد غمرت قراهم) على حساب قرى واراض كان يسكنها اكراد // منحت السلطة في “الحزام العربي” وحوله للمغمورين: فمنهم الحزبيون ومنهم عناصر اجهزة الامن ويحتكرون وحدهم الاتصال بالسلطات المحلية والمركزية. ويمكن تخيل نوعية العلاقة بين هؤلاء الريفيين القريبي العهد بالبداوة وجيرانهم الاكراد الذين كانوا قد استصلحوا بمشقة بعض اراضي تلك المنطقة قبل ان تمنح لوافدين مدعومين. لقد جردت السلطة البعثية بعض مواطنيها (الاكراد) من ممتلكاتهم واعطتها لمواطنين آخرين (العرب) دون اية آليات تعويضية، اقتصادية او سياسية. لأسباب عدة لا تستطيع السلطات ان تبرر ذلك بالحقوق السيادية للدولة في اسكان مواطنيها في اي منطقة من التراب الوطني // ياسين حاج صالح / وهذا ما خلق مزيج من شعور عميق بالظلم عند الاكراد وشعور شديد بالارتياب عند العرب. وتعدى الشعور بالظلم الجزيرة ليعم الاكراد السوريين عامة.إن النظام البعثي الحاكم في سورية بذل جهداً كبيراً في بث الإشاعات عن الأكراد عبر إتهامهم بالصهاينة و الدخلاء و هذا ما أدى إلى حالة من النفور بين الأكراد و العرب و بالتالي فقدان الثقة بين أبناء الوطن الواحد و هذا ما كان جلياً في الأحداث المؤسفة عام 2004 في المدن الكردية والتي راحت ضحيتها أكثر من 60 كردياً على أيدي الأجهزة الأمنية و مجموعات عشائرية عربية و بدعم مباشر من السلطات السورية وقد كشفت بعض المصادر بأنه تم التخطيط لهذه الفتنة مسبقاً لضرب الأكراد بالعرب. و كان أهم ما أثار الدهشة لدى الأكراد في سورية هو الصمت المريع لقوى المعارضة السورية إزاء هذه المذبحة لا بل إعطاء المبررات لفعلة السلطة السورية بحق الأكراد و ربط تلك الأحداث بالحرب الأمريكية و الغربية على العراق في الوقت الذي أكدت الأحداث و النتائج أن الأجهزة الأمنية هي التي افتعلت و بادرت بالهجوم على الأبرياء نت المواطنين السوريين. هذا الموقف غير المبرر من قوى المعارضة السورية و خاصة التيارين الديني و اليساري كان موضع استهجان و غضب لدى الشارع الكردي عامة مما خلق حالة من الإرتياب و التشكيك لدى شريحة كردية كبيرة وفي مقدمتها الحركة السياسية الكردية.

ومقابل هذا الموقف غير الواضح من قبل المعارضة العربية السورية تجاه الأكراد و القضية الكردية كان الأكراد دائماً يؤكدون عبر خطابهم السياسي بأنهم جزء لا يتجزأ نت التكوين التاريخي و السياسي و الثقافي لسورية و بادروا و بقوة إلى تأسيس أطر سياسية تجمعهم مع إخوانهم العرب للنضال السلمي و العمل سوياً ضد سياسية القمع و الإضطهاد و الإقصاء التي يمارسه النظام السوري بحق الشعب السوري // إعلان دمشق، ربيع دمشق // و دعوا مراراً إلى عقد مؤتمر حوار وطني للخروج من الأزمات التي خلقها النظام السوري.

و اليوم و قد أعاد التاريخ نفسه، و الحماس الوطني الكردي كان في أوجه في أن يشارك الكرد في هذه التحركات إلى جانب كل قوى المعارضة السورية لا بل و هناك من شارك ومن أعتقل وهناك الكثير ممن تظاهروا أمام السفارات السورية المنتشرة في العالم تضامناً مع الأخوة المتظاهرين في المدن السورية و استنكاراً للدمار التي سالت فس المدن السورية في حين أنه و أكثر من مرة تم دعوة المعارضة من قبل الحركة الكردية للقيام بالمظاهرات لكنها للأسف لم تشارك، ناسين جراحاتهم التي لم تندمل بعد…. و لكن ما ترأى لي و لغيري من الأكراد محاولة زج الأكراد في معركة هم بالأصل في معمعتها منذ أكثر 50 عاماً على أن يكون هم الطلقة الأولى في وجه النظام السوري و بالتالي يكون من نصيبهم ليس القتل و الخراب بل سيتهمون بالعمالة و الخيانة و التآمر على سورية، و كأن التجارب الماضية لم تكن واضحة و ذاك الصمت لا بل و التوافق التام في الكثير من النقاط مع السلطة فيما يتعلق بالحقوق القومية و الوطنية للشعب الكردي في سوريا عفى عليه الزمن.

إذا في ظل هذا الشعور و الإرتياب المحيط بسوريا عامة و الأكراد خاصة و حالة اللاثقة بين الأكراد و المعارضة السورية كان من حق الأكراد التريث فيما سيقدمون عليه من خطوات قد تكون نقطة إنطلاق نحو آفاق رحبة إلى وطن أرحب و أوسع مما نتصوره أو إلى تهلكة سوداء مظلمة و ليس لأحد أن يتهم الأكراد بالتقاعس لأن كل الدلائل تشير إلى فاعليتهم في الأيام الأخيرة و على كافة الأصعدة. سيما و أن الأمر أقصد التحركات و المظاهرات و خططها و كيفية قيادتها لم تكن واضحة للمتظاهرين أنفسهم، و أنا لا أقصد هنا التريث و الإنتظار عما ستحول إليه الوضع بقدر ما كنا بحاجة إلى موقف واضح من قبل المعارضة فيما يتعلق بدور الأكراد في هذه العملية.

نامل أن تكون تجربة أخرى نستفيد منها نحن السوريين جميعاً.

كاتب سوري مقيم في الدنمارك

ايلاف

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى